
نبيل عمر
الندب فى 5 يونيو لا يصنع المستقبل!
بعد أسبوعين تقريبًا، تحديدًا فى 25 يونيو ستحل الذكرى الخامسة والثمانون لسقوط باريس فى قبضة النازى، بعد هزيمة سريعة مذلة للقوات الفرنسية على يد القوات الألمانية فى بدايات الحرب العالمية الثانية، هل نتوقع برامج فرنسية أو مقالات فى الصحف الفرنسية أو فيديوهات على اليوتيوب أو تعليقات على الفيس بوك تندب أو تلطم الخدود على ذلك اليوم الموجع فى تاريخ فرنسا الحديث؟
بالطبع لن يحدث هذا..
قبل أربعة أسابيع، تحديدًا فى 8 مايو الماضى حلت الذكرى الثمانون لتوقيع ألمانيا على وثيقة الاستسلام فى الحرب العالمية الثانية، بعد دخول قوات الحلفاء برلين سنة 1945، لم نشاهد برامج ولم نقرأ مقالات تعيد المشاهد الكئيبة إلى ذاكرة الألمان وتعذبهم بها!
لكن عندنا يحدث العكس تمامًا كلما هل 5 يونيو، إذ يقيم الندابون فى فضائيات عربية وعلى المواقع والصفحات الإلكترونية «سرادقات» عزاء يحيون فيها ذكرى حرب 1967، يعيدون ويزيدون فى الأسباب والنتائج والتداعيات، كما لو أنها أم الهزائم التى لا قبلها ولا بعدها!
حالة مرضية غريبة وشاذة عمرها يقترب من الستين عامًا دون أن يمل أصحابها أو يخجلون مما يفعلون، فقط يتقنعون بسؤال مخادع عن الأسباب والظروف كما لو أنهم يبحثون عن الحقيقة ويفتحون ملفاتها بقراءة نقدية، حرصًا منهم على حماية الأمة من تكرار الأخطاء، بينما فى الواقع هم يقفون على الضفة الأخرى، ضفة الانتقام وتصفية حسابات قديمة وبث روح الإحباط فى الناس، باعتبارهم ساهموا بشكل أو بآخر فى هذه النكسة، وأنهم لم يتخلصوا من زلزالها حتى الآن، فمصر هى هزيمة 67، وليست انتصار 73، وجمال عبدالناصر هو الذى قاد الأمة العربية كلها إلى هذه الهزيمة.
قطعًا لا ننكر ثقل هزيمة يونيو ولا الأخطاء الاستراتيجية التى أدت إليها، ولا تأثيراتها العميقة على حياة مصر والمجتمعات العربية بكاملها، أجيالًا ونظمًا وسياسات، لكن بالقطع تجاوزناها، وألقينا بها خلف ظهورنا، وصارت مجرد جرح قديم مثل عشرات الجروح فى تاريخ الأمة، حتى لو كان جرحًا عميقًا!
مثلا هل ما زال الأمريكان يقفون عند حائط 29 مارس 1973 يبكون، حين خرجوا من فيتنام يجرجرون كبرياء دولة عظمى ذاقت الأمرين من دولة صغيرة فقيرة، هى فيتنام وخسروا فيها ما يقرب من 60 ألف جندى فى عشرين سنة؟ هل تفككت الروح اليابانية حين استسلمت اليابان للحلفاء دون شروط فى 2 سبتمبر 1945 على متن السفينة ميسورى الأمريكية؟
فالأمم انتصارات وانكسارات، ولا توجد أمة لم تعرف الهزيمة أبدًا!
قبل سنوات تابعت فضائية عربية خصصت برنامجًا يوميًا لإحياء ذكرى 5 يونيو، وكان مضمونه البحث عن إجابة للسؤال الشائع المعاد، والذى يعرف إجابته كل مواطن من الخليج إلى المحيط: ما سبب النكسة؟
وأخذت السؤال الخبيث إلى عموم الناس، ثم انتقلت به إلى نخبة من المثقفين والمفكرين والسياسيين فى عدة عواصم عربية، فكانت الإجابات متشابهة بين الناس العاديين الذين يتابعون الأخبار والأحداث السياسية بالعافية، وبين أهل المعرفة اللامعين الذين يركبون عقول الناس باسم الثقافة.
لم يكن ثمة فارق بين الجماعتين، جماعة كوز الذرة وجماعة الرطانة بالعبارات الفخمة.. القوميون يرجعونها إلى غياب الوحدة، ولم ينتبهوا إلى غياب شروط الوحدة العربية، حتى على شكل الاتحاد الأوروبى فى المفاهيم والمصالح الاقتصادية، لم يفسروا لنا عن أى وحدة يتحدثون فى عالم عربى تتنافس دوله أكثر مما تتعاون، تشك فى بعضها البعض أكثر مما تثق، تقترب مع أعدائها وتبتعد عن بنى جلدتها، إذ تمسك بهم الأحلام الخاصة والرغبات الخاصة الضيقة، دون وعى استراتيجى تفرضه المخاطر والفرص فى عالم شديد التعقيد والصراعات المعلنة والخفية، عالم عربى تتشابه علاقاته اليوم بعلاقات قديمة، فى عصر داسته الحملات الصليبية لما يقرب من مئتى سنة!
والليبراليون يلقون بالأسباب على غياب الحريات وتراجع حقوق الإنسان، دون أن يفسروا كيف نجحت الصين وصارت قوة كبرى، بالرغم من غياب الحريات وحقوق الإنسان؛ بل أن أغلب أوروبا الغربية لم تستكمل الحقوق السياسية لمواطنيها من الجنسين إلا فى منتصف القرن العشرين، وإسبانيا نفسها لم تعرف تلك الحريات والحقوق إلا فى نهاية السبعينيات، وجنوب إيطاليا ظل قابعًا فى الفقر وسوء الظروف المعيشية إلى الثلث الأخير من القرن العشرين.
بالقطع لا ننكر دور الحريات وحقوق الإنسان.. لكنها مجرد عوامل مساعدة.
أما أصحاب الإسلام السياسى، وفى مقدمتهم جماعة الإخوان فالتفسيرات المعلبة سابقة التجهيز تتصدر الشعارات، وأخطرها البعد عن العمل بالشريعة الإسلامية، مع إن إسرائيل لا تعمل بأى شريعة سماوية، وأن المسلمين خسروا معركة «أُحد» وهم لا يبعدون خطوة واحدة عن الشريعة التى كانت تطبق فى يثرب، لأن هزائم الأمم وانتصاراتها مرتبطة فى الأساس بعناصر دنيوية، ثقافية وعسكرية واقتصادية..الخ.
يبدو أن كل فئة كانت تتحدث عن أسباب وجودها السياسى وميولها الأيديولوجية، وليس عن الأسباب الفنية، فى محيط سياسى واقتصادى واجتماعى مأزوم بشكل أو بآخر!
باختصار يمكن أن نقول إن هزيمة 1967 كانت الفصل الثانى من هزيمة 1948 حتى لو تغيرت التفاصيل والشخصيات والأوزان النسبية للدول، فالضعف الذى كنا عليه فى النكبة، لم يتلاش أو ينقص منه إلا القليل فى النكسة، ربما فقط فى شكل التعبير عن هذا الضعف، لأن بنية المجتمعات العربية الفكرية لم تختلف كثيرًا، وإن تغيرت نسبيًا فى بعض الدول، وأقصد بالبنية الفكرية، المعمار العقلى الذى يتحكم فى أنشطة الناس ويوجهها داخل مجتمعاتها، من أكبر مسؤول إلى أصغر مواطن فيها!
والأكثر دهشة أن بعض الذين لبسوا ثياب الجدية وحاولوا أن يكونوا مختلفين إلى حد ما، لم يجربوا أن يفحصوا أسباب الهزيمة حسب ظروفها الإقليمية والدولية أيضا..، لم يفعلوها لأن عملية إحياء ذكرى الهزيمة مقصود بها تثبيت روح الهزيمة فى عالم العرب عامة، وعالم مصر خاصة، هى محاولة لكسر أى قدر من الإرادة الناهضة فيها، كما لو أن نصر مصر العظيم فى حرب أكتوبر 1973، النصر المعجزة بأى مقاييس عسكرية واقتصادية، كان عملًا عارضًا، وكما تحتفل به مصر كل سنة، يعيدون لنا الندب على يونيو كل سنة، كأن تحرير سيناء وإجبار إسرائيل على التنازل عن مطامعها كان كرمًا من إسرائيل، مع أن إسرائيل لا تفهم معنى الكرم ولا تعترف به!
باختصار لو تتبعنا كل ما يقال وما يكتب حتى لو بدا حزينًا فى لهجته وشكله ومكياجه، فهو شامت فى جوهره وهدفه تصفية حسابات مع مصر، وإلا ما كان العزف التعيس بهذه الغزارة والتركيز والتزييف، على حرب وقعت من 58 سنة، وعبرتها مصر مع عبورها قناة السويس بعد أن حطمت خط بارليف الحصين، بالطبع هو جزء من الصراع الدائر الآن فى الشرق الأوسط، الصراع على لعب المكانة والأدوار وتحديد مستقبل الشرق الأوسط.
هذه محاولات من صغار يتصورون أنفسهم كبارًا، وهم لا يملكون «السوفت وير» الكامن فى شخصية مصر وعاشت به طول تاريخها، فالأدوار ليست «دفتر شيكات» فقط، وإنما قواعد ورؤية استراتيجية وتراكم معرفي.
فى النهاية..هل ممكن أدعوكم إلى فنجان من القهوة السادة، على روح هذه البرامج وأهدافها!