الأحد 8 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
الندب فى 5 يونيو لا يصنع المستقبل!‏

الندب فى 5 يونيو لا يصنع المستقبل!‏

بعد أسبوعين تقريبًا، تحديدًا فى 25 يونيو ستحل الذكرى الخامسة والثمانون لسقوط باريس فى ‏قبضة النازى، بعد هزيمة سريعة مذلة للقوات الفرنسية على يد القوات الألمانية فى بدايات ‏الحرب العالمية الثانية، هل نتوقع برامج  فرنسية  أو مقالات فى  الصحف الفرنسية أو ‏فيديوهات  على اليوتيوب أو تعليقات على الفيس بوك تندب أو تلطم الخدود على ذلك اليوم ‏الموجع فى تاريخ فرنسا الحديث؟ ‏



بالطبع لن يحدث هذا..‏

قبل أربعة أسابيع، تحديدًا  فى  8 مايو  الماضى حلت الذكرى الثمانون لتوقيع ألمانيا على وثيقة ‏الاستسلام فى الحرب العالمية الثانية، بعد دخول قوات الحلفاء برلين سنة 1945، لم نشاهد ‏برامج ولم نقرأ مقالات تعيد المشاهد الكئيبة إلى ذاكرة الألمان وتعذبهم بها! ‏

لكن عندنا يحدث العكس تمامًا كلما هل 5 يونيو، إذ يقيم الندابون فى فضائيات عربية وعلى ‏المواقع والصفحات الإلكترونية «سرادقات» عزاء يحيون فيها ذكرى حرب 1967، يعيدون ‏ويزيدون فى الأسباب والنتائج والتداعيات، كما لو أنها أم الهزائم التى لا قبلها ولا بعدها!‏

حالة مرضية غريبة وشاذة عمرها يقترب من الستين عامًا دون أن يمل أصحابها أو يخجلون ‏مما يفعلون، فقط يتقنعون بسؤال مخادع عن الأسباب والظروف كما لو أنهم يبحثون عن ‏الحقيقة ويفتحون ملفاتها بقراءة نقدية، حرصًا منهم على حماية الأمة من تكرار الأخطاء، بينما ‏فى الواقع هم يقفون على الضفة الأخرى، ضفة الانتقام وتصفية حسابات قديمة وبث روح ‏الإحباط فى الناس، باعتبارهم ساهموا بشكل أو بآخر فى هذه النكسة، وأنهم لم يتخلصوا من ‏زلزالها حتى الآن، فمصر هى هزيمة 67، وليست انتصار 73، وجمال عبدالناصر هو الذى ‏قاد الأمة العربية كلها إلى هذه الهزيمة.‏

قطعًا لا ننكر ثقل هزيمة يونيو ولا الأخطاء الاستراتيجية التى أدت إليها، ولا تأثيراتها العميقة ‏على حياة مصر والمجتمعات العربية بكاملها، أجيالًا ونظمًا وسياسات، لكن بالقطع ‏تجاوزناها، وألقينا بها خلف ظهورنا، وصارت مجرد جرح قديم مثل عشرات الجروح فى ‏تاريخ الأمة، حتى لو كان جرحًا عميقًا!‏

‏ مثلا هل ما زال الأمريكان يقفون عند حائط 29 مارس 1973 يبكون، حين خرجوا من فيتنام ‏يجرجرون كبرياء دولة عظمى ذاقت الأمرين من دولة صغيرة فقيرة، هى فيتنام وخسروا ‏فيها ما يقرب من 60 ألف جندى فى عشرين سنة؟ هل تفككت الروح اليابانية حين استسلمت ‏اليابان للحلفاء دون شروط  فى 2 سبتمبر 1945 على متن السفينة ميسورى الأمريكية؟

‏فالأمم انتصارات وانكسارات، ولا توجد أمة لم تعرف الهزيمة أبدًا!‏

قبل سنوات تابعت فضائية عربية خصصت برنامجًا يوميًا لإحياء ذكرى 5 يونيو، وكان ‏مضمونه البحث عن إجابة للسؤال الشائع المعاد، والذى يعرف إجابته كل مواطن من الخليج ‏إلى المحيط: ما سبب النكسة؟

وأخذت السؤال الخبيث إلى عموم الناس، ثم انتقلت به إلى نخبة من المثقفين والمفكرين ‏والسياسيين فى عدة عواصم عربية، فكانت الإجابات متشابهة بين الناس العاديين الذين ‏يتابعون الأخبار والأحداث السياسية بالعافية، وبين أهل المعرفة اللامعين الذين يركبون عقول ‏الناس باسم الثقافة.‏

لم يكن ثمة فارق بين الجماعتين، جماعة كوز الذرة وجماعة الرطانة بالعبارات الفخمة..‏ القوميون يرجعونها إلى غياب الوحدة، ولم ينتبهوا إلى غياب شروط الوحدة العربية، حتى ‏على شكل الاتحاد الأوروبى فى المفاهيم والمصالح الاقتصادية،  لم يفسروا لنا عن أى وحدة ‏يتحدثون فى عالم عربى تتنافس دوله أكثر مما تتعاون، تشك فى بعضها البعض أكثر مما ‏تثق، تقترب مع أعدائها وتبتعد عن بنى جلدتها، إذ تمسك بهم الأحلام الخاصة والرغبات ‏الخاصة الضيقة، دون وعى استراتيجى تفرضه المخاطر والفرص فى عالم شديد التعقيد ‏والصراعات المعلنة والخفية،  عالم عربى تتشابه علاقاته اليوم بعلاقات قديمة، فى عصر ‏داسته الحملات الصليبية لما يقرب من مئتى سنة!‏

والليبراليون يلقون بالأسباب على غياب الحريات وتراجع حقوق الإنسان، دون أن يفسروا ‏كيف نجحت الصين وصارت قوة كبرى، بالرغم من غياب الحريات وحقوق الإنسان؛ بل أن ‏أغلب أوروبا الغربية لم تستكمل الحقوق السياسية لمواطنيها من الجنسين إلا فى منتصف ‏القرن العشرين، وإسبانيا نفسها لم تعرف تلك الحريات والحقوق إلا فى نهاية السبعينيات، ‏وجنوب إيطاليا ظل قابعًا فى الفقر وسوء الظروف المعيشية  إلى الثلث الأخير من القرن ‏العشرين.‏

بالقطع لا ننكر دور الحريات وحقوق الإنسان.. لكنها مجرد عوامل مساعدة.‏

أما أصحاب الإسلام السياسى، وفى مقدمتهم جماعة الإخوان فالتفسيرات المعلبة سابقة ‏التجهيز تتصدر الشعارات، وأخطرها البعد عن العمل بالشريعة الإسلامية، مع إن إسرائيل لا ‏تعمل بأى شريعة سماوية، وأن المسلمين خسروا معركة «أُحد» وهم لا يبعدون خطوة واحدة ‏عن الشريعة التى كانت تطبق فى يثرب، لأن هزائم الأمم وانتصاراتها مرتبطة فى الأساس ‏بعناصر دنيوية، ثقافية وعسكرية واقتصادية..الخ.‏

يبدو أن كل فئة كانت  تتحدث عن أسباب وجودها السياسى وميولها الأيديولوجية، وليس عن ‏الأسباب الفنية، فى محيط سياسى واقتصادى واجتماعى مأزوم بشكل أو بآخر!‏

باختصار يمكن أن نقول إن هزيمة 1967 كانت الفصل الثانى من هزيمة 1948 حتى لو ‏تغيرت التفاصيل والشخصيات والأوزان النسبية للدول، فالضعف الذى كنا عليه فى النكبة، لم ‏يتلاش أو ينقص منه إلا القليل فى النكسة، ربما فقط فى شكل التعبير عن هذا الضعف، لأن ‏بنية المجتمعات العربية الفكرية لم تختلف كثيرًا، وإن تغيرت نسبيًا فى بعض الدول، وأقصد ‏بالبنية الفكرية، المعمار العقلى الذى يتحكم فى أنشطة الناس ويوجهها داخل مجتمعاتها، من ‏أكبر مسؤول إلى أصغر مواطن فيها!‏

والأكثر دهشة أن بعض الذين لبسوا ثياب الجدية وحاولوا أن يكونوا مختلفين إلى حد ما، لم ‏يجربوا أن يفحصوا أسباب الهزيمة حسب ظروفها الإقليمية والدولية أيضا..، لم يفعلوها لأن  ‏عملية إحياء ذكرى الهزيمة مقصود بها تثبيت روح الهزيمة فى عالم العرب عامة، وعالم ‏مصر خاصة، هى محاولة لكسر أى قدر من الإرادة الناهضة فيها، كما لو أن نصر مصر ‏العظيم فى حرب أكتوبر 1973، النصر المعجزة بأى مقاييس عسكرية واقتصادية، كان عملًا ‏عارضًا، وكما تحتفل به  مصر كل سنة، يعيدون لنا الندب على يونيو كل سنة، كأن تحرير  ‏سيناء وإجبار إسرائيل على التنازل عن مطامعها كان كرمًا من إسرائيل، مع أن إسرائيل لا ‏تفهم معنى الكرم ولا تعترف به!‏

باختصار لو تتبعنا كل ما يقال وما يكتب حتى لو بدا حزينًا فى لهجته وشكله ومكياجه، فهو ‏شامت فى جوهره وهدفه تصفية حسابات مع مصر، وإلا ما كان العزف التعيس بهذه الغزارة ‏والتركيز والتزييف، على حرب وقعت من 58 سنة، وعبرتها مصر مع عبورها قناة السويس ‏بعد أن حطمت خط بارليف الحصين، بالطبع هو جزء من الصراع الدائر الآن فى الشرق ‏الأوسط، الصراع على لعب المكانة والأدوار وتحديد مستقبل الشرق الأوسط.‏

هذه محاولات من صغار يتصورون أنفسهم كبارًا، وهم لا يملكون «السوفت وير» الكامن فى ‏شخصية مصر وعاشت به طول تاريخها، فالأدوار ليست «دفتر شيكات» فقط، وإنما قواعد ‏ورؤية استراتيجية وتراكم معرفي.‏

فى النهاية..هل ممكن أدعوكم إلى فنجان من القهوة السادة، على روح هذه البرامج وأهدافها!‏