الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

"الواحدة ونص" دراسة علمية

بعد أن استعرضنا فى الحلقات الثلاث الماضية تاريخ الرقص وأشهَر الراقصات، وجدنا أن يكون الختام برؤية الأدباء والباحثين للرقص؛ خصوصًا الشرقى.



فالرقص الشرقى دائمًا ما كان فنّا مظلومًا ويُنظَر له بنظرة مختلفة عن جميع الفنون، حالة صعود وهبوط تنتابه على مدار العصور، يُتّهَم دائمًا بسوء السمعة، رُغْمَ أن الرقص عامَّةً والرقص الشرقى خاصةً؛ فنٌّ مصرىٌّ قديمٌ؛ فإنه لم يحظ بدراسات وأبحاث علمية تناقشه وتحلّله وتوضّح مكانته، ربما لأن الغالبية تستنكف هذا.. نحن نشاهد الرقص لكننا لا نشغل أنفسَنا بما يدل عليه من دلالات اجتماعية أو تاريخية أو حتى نفسية.

ومن الغريب أن الذى اهتم بهذا الفن هم أبعد الناس عن هذا الفن، فقد اهتموا به كعِلْم.

ولعل أبرزَ هؤلاء اثنان من كبار الأسماء الأدبية والفكرية فى مصر.. الأول هو الأديب الكبير يحيى حقى صاحب (البوسطجى) و(قنديل أم هاشم).. والثانى هو الناقد الكبير دكتور محمد مندور.. الأول صاحب كتاب (يا ليل يا عين)، والثانى صاحب كتاب (وحدة الأدب والفن).

ففى كتاب يحيى حقى مقال مهم عنوانه «رقصة البطن»، يقول فيه رقصة البطن، هى رقصة محيرة جدّا، يثور حولها بين المثقفين وحدهم جدل لا ينتهى، فيهم أنصارٌ أحباءٌ متحمسون وأعداءٌ ألدّاءٌ كارهون.

كلا الطرفَيْن يقفز بسهولة وطرَب وفروسية من حد الاعتدال فى الرأى إلى قمة الغلو، فترى فى حججهم نقصًا فى القدرة على تلمس الحق وعلى الإقناع، فمن غلو الكارهين لها قولهم: إنه تعبيرٌ مكشوفٌ فاضحٌ، بل عن الشهوة الحيوانية، غرضها الأوحد هو إثارة هذه الشهوة.

ويقولون إن التحضُّر هو سم هذه الرقصة، يقضى عليها، فهذا دليل على بربريتها، فالأسرة التى ارتقى مستواها ورقّ ذوقُها لا تنتظر من أخت العروس ليلة الفرح ولا من أمِّها أن تقوم أمام المعازيم تقدم رقصة البطن؛ وإنما تنادى هذه البنت الريفية الغلبانة التى تخدمهم من أجل لقمة العيش وتجبرها على أن تؤدى لهم هذه الرقصة، فمقام هذه الرقصة عندهم هو مقام هذه البنت.

أما المثل المضروب برقص البنت الريفية الغلبانة فهذا بالعكس دليل على أنها رقصة ملتصقة بالشّعب داخلة وجدانه، لا شىء يضيع عنده هباء فى الهواء مثل جدل المثقفين حولها.



الكلام بطبيعة الحال عن أداء المرأة لرقصة البطن، أمّا الشىء البشع، الرذل، الممقوت، المنحط الذوق، الجارح للحياء، المخل بالكرامة، فهو تطوّع رجل فتوة شحط، ذى كرش كالبرميل، بأداء رقصة البطن فى ساعات الفرح وسط اللمّة أو الزفّة، وأبشع من ذلك تشجيع الأطفال- بنات وصبيان- على رقص البطن..

فى الكتاب ذاته مقال آخر عن رقصة الحجّالة، ويقول:

تبين أن أنواع الرقص لدينا لا تتعدى رقصتين ونصف لا غير وبعد أن ناقشنا رقصة الريف فتبقى رقصة البدو وتختص بها ضواحى مرسَى مطروح والسَّلوم فى الصحراء الغربية.. وتعتمد هذه الرقصة على تثبيت الراقصة بقدميها على الأرض وتركيز الحركة كلها على الخصر والردفين.. قد تتطلب شيئًا من البراعة ولكنها بسبب حبسة الراقصة داخل قيد قد توصف بأنها نصف حية، نصف ميتة، ويزيد من استحقاقها لهذا الوصف أن الراقصة تلبس ثوبًا ضيقًا يغطى جسدها إلى الكعبين، داكن اللون، بلا غلوّ فى بهرج، ولا تخلعه الراقصة بعد أن تؤدى دورها، بل تنتظر به بقية اليوم لأنه ثوب كل يوم، إذ لا يعرفها المجتمع إلا بأنها الراقصة سواء رقصت أو لم ترقص.

ومن العجيب أن راقصة الريف تتحرك مع أن الوادى المنزرع ضيق، وراقصة البدو ثابتة مع أن الصحراء من حولها شاسعة، فأنت ترى أن رقصة الحجّالة لا تؤديها إلا محترفة؛ لأن التقاليد الاجتماعية عند بدو الصحراء لا تسمح لبناتهم بالرقص أمام الأغراب.

خلاصة الكلام؛ أننى لا أرى رقصة الحجّالة ترقيًا إلى مقام الرقصات الشعبية إلا بتحفظ شديد.

وفى كتاب دكتور مندور يقول: بدأ لى أن أكتب عن الرقص، وذلك أملًا منّى فى تقويم الأخلاق، ولقد يلوم هذا غريبًا، فكيف نقوم الأخلاق بالحديث عن الرقص، ومع ذلك فهذا حق، فالرقص ونقصد به الإيقاعى والتعبيرى لا الرقص الشرقى طبعًا، يورث مَن يزاوله من رجال ونساء قوة فى الجسم وتحرُّر النفس من آفاتها.

وقديمًا حرص سقراط الشيخ على أن يتعلمه ليقلل من قبح جسمه المنبعج، ويقوى من ضعفه، فقال لأصدقائه وتلاميذه وقد اجتمعوا يومًا بمنزل أحدهم حول غلام يعلم الرقص: «اتضحكون منّى لأنى أريد بالرياضة أن أتعهد صحتى فأتمتع بأكل هنئ ونوم سليم؟! أتضحكون لأنكم تعتقدون أن شيخًا مثلى لن يصاحب مدربًا رياضيّا إلى الخلاء فيعرى جسمه أمام الجماهير، بل يقنع بغرفة طعام كهذه التى يكتفى بها هذا الغلام؟ أتضحكون لأنى سأتدرب فى الشتاء تحت السقف وفى الصيف تحت الظلال إذا اشتدت حرارة الشمس؟! أمْ تضحكون لأننى رحت ببطن كبير إلى حد ما فأردت أن أرده إلى حجم معقول؟!



وفى هذا يقول شاعر الإغريق أناكريون «عندما يرقص الشيخ لا ترى فيه عجوزًا غير شَعره، وأمّا روحه فتزال فتية».

والرقص كما هو رياضة للجسم رياضة للروح، وذلك؛ لأنه يغذيها بشعورين لهما أثر عظيم فى الحياة، وهما الشعور بالمرح ثم الشعور بالجمال، وليس من شك فى أن هذين الشعورين من أضعف المشاعر عند الشرقيين، حتى لأحسب أن جانبًا كبيرًا من ضعف النفوس الذى نشكو منه يرجع إلى الحزن الذى يُنزل الخراب بالقلوب، كما أن الإحساس بمعنى الجمال ومعاييره الصادقة يكاد يكون منعدمًا، والنفس الحزينة لا تعرف الثقة والتفاؤل، والحس الذى لا يدرك الجمال لا يحجم عن الخسيس من الأمور، ولو أنك قارنت بين الرقص الشرقى والغربى لأدركت الفارق بين المشاعر التى يثيرها كل منهما، فالرقص الشرقى رقص تمرُّد جسمى، حركاته زوايا لا منحنيات، وهو إثارة للغريزة الجنسية فحسب، وأمّا الرقص الغربى فإيقاع وتعبير، وهو فى أصح أوضاعه يستمد إيقاعَه من الموسيقى الشائعة فى الطبيعة، ففيه عنصرا التموّج والاستمرار، وليس بخاف أن الحياة كلها تموّجات موقعة، فالصوت والضوء والموج والريح والشجر وأوراقه، كلها تسير أو تهتز موقعة فى موجات. والحركة دائمة مستمرة حتى فى الجماد؛ حيث ترقص الذَّرَّات الكهربائية. والراقص أو الراقصة فى أوروبا لا يخترع حركات وإنما يكتشف حركات، يكتشف ما هو كامن فى نظام الحياة والوجود، وإن كان لا يقف عند الإجساس بالطبيعة بل يعدو الإحساس إلى الدرس، ويروّض نفسَه على تشرُّب موسيقاها بالتدريب الطويل المتصل حتى يجيد فهمها فتصبح الحركة تعبيرًا عن معانى النفس.

والإنسانية منذ أقدم عصورها لم تعرف الرقص منفصلًا عن غيره من الفنون، ومنذ الأزل والناس يجمعون بينه وبين الموسيقى والشعر فى ثالوث فنّى يستهوى أفئدتهم.ولربما كان الرقص أقدم هذه العناصر وأكثرها انتشارًا. فالحركة لا ريب قد سبقت اللفظ فى التعبير. وفى الجسم إيقاع عضوى يتحرك لنغمات الطبيعة، على غير وعى منّا. 

ومنذ سنين قليلة كتب الشاعر الفرنسى الشهير بول فاليريه حوارًا رائعًا عن الرقص، وفيه يقيم توازنًا متصلًا بين حركات الراقص وحركات الفكر الذهنية، ولفهم هذا العلاقة دعنا ننصت إلى فقرة رائعة من مذكرات دونكان: (لقد أنفقتُ أيامًا وليالى كاملة فى «الأتلييه» لأبحث عن رقص يستطيع بحركات الجسم أن يُعَبر عن الروح تعبيرًا إلهيًّا، ولساعات طويلة كنت أقف ساكنة جامعة يدى إلى صدى ووالدتى ذاهلة من موقفى هذا، ولكننى انتهيت بأن اكتشفت الدافع الأساسى لكل حركة، والبؤرة القوية التى تنعقد فيها وحدة الأوضاع.



ومدرسة الرقص التقليدية تلقن تلاميذها أن المركز الأساسى للحركة قائم وسط الظهر عند نهاية العمود الفقرى من أسفل، ومن هذا المركز تنطلق حركات الأذرع والجزع حُرّة. ولكنها عندئذ لن تكون غير حركة عرائس من الخشب ولن ينتج عن رقص كهذا غير حركات آلية مصطنعة غير جديرة بالروح، والذى كنت أبحث عنه لم يكن مصدر هذا النوع من الحركات، بل مصدر حركات النفس التى تشيع فى الجسد وقد امتلأ ضوءًا فعكس فيه رؤية مشرقة، بعد أشهُر طويلة من الجهد المتصل ركزتُ فيها اهتمامى فى هذه البؤرة الموحدة، لاحظتُ أننى عندما أنصت إلى الموسيقى تنساب إلىّ أشعة وموجات تجرى فى فيض متلاحق نحو منبع الضياء فى نفسى؛ حيث تنعكس الرؤية المشرقة، ولم يكن هذا المنبع مرآة روحى، وبفضل إشراق تلك الرؤية كنت أستطيع أن أعَبّر عن الموجات الموسيقية بحركات راقصة).

وما أريد أن أختم هذا المقال دون أن أذكر أحد أساتذتى الفرنسيين وهو لويس سيشان، وقد كان رجلاً جادًّا على رقة نفسه، رجلا حى القلب حى الضمير، وقد تعلقت بتعاليمه فبحثت عن مؤلفاته وإذا من بينها كتاب قيّم عن الرقص عند الإغريق القدماء، فدهشتُ لأستاذ فى الجامعة يكتب عن الرقص وكنت لاأزال حديث العقد بالغرب وأحكامه ولكننى لم أكد أتناول الكتاب حتى وجدته قد صدّره فى أول صفحة بثلاث كلمات لأفلاطون قالها الفيلسوف عن الشّعر، وأبَى أستاذُنا إلا أن يطلقها على الرقص، وهى قوله «شىء خفيف مجنح مقدس».