الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
ما خفى من سيرة «عروس المتوسط»!

ما خفى من سيرة «عروس المتوسط»!

مدينة الإسكندرية الجميلة هى عروس البحر الأبيض المتوسط وحاضرة الثقافة وعاصمة الفن والجمال، ومركز الثقل الحضارى فى مصر والعالم كله. وأراد الإسكندر الأكبر لمدينته الخلود والشهرة والعالمية وتحقق له ما أراد عبر العصور والأزمان.   



 

ومن الجدير بالذكر أن الوجود الإغريقى المكثف لم يبدأ فى مصر مع فتح الإسكندر الأكبر لمصر فى عام 332 قبل الميلاد؛ إنما بدأ منذ نهاية العصور الفرعونية وعلى أكثر تقدير فى عصر الأسرة السادسة والعشرين أو ما يُعرف بالعصر الصاوى؛ الذى كان مقدمة طبيعية للوجود الإغريقى المنظم والمكثف والمتواصل فى مصر. 

 

وُلد الإسكندر الأكبر، أو الإسكندر الثالث أو إلكسندر مقدونيا فى يوليو 356 ق.م. فى بيلا عاصمة مقدونيا، شمال غرب ثيسالونيكى،  اليونان، وهو ابن ملك مقدونيا فيليب الثانى،  من الزوجة الرابعة أوليمبياس، وهى أميرة من إبيروس، التى تقع غرب مقدونيا. حَكم الإسكندر الأكبر مقدونيا (336-323 ق.م)، وذلك بعد اغتيال أبيه فيليب الثانى، وأطاح بالإمبراطورية الفارسية، ووصل بالجيوش المقدونية إلى الهند، وأرسَى أسُس العالم الهللنستى فى الممالك الإقليمية. وكانت حياته مليئة بالقصص الرائعة، فيما بعد أصبح بطل أسطورة واسعة النطاق تحمل رسمًا لصورة حياته التاريخية.

 

ويُعد فتح الإسكندر الأكبر لمصر فى عام 332 قبل الميلاد نقطة تحوُّل كبرى فى تاريخ مصر العام؛ إذ عند هذا العام تحديدًا ينتهى تاريخ مصر الفرعونية الممتد لنحو ثلاثة آلاف عام، ويبدأ تاريخ آخر هو تاريخ مصر اليونانية-الرومانية.   

 

وفى نوفمبر 332 وصل الإسكندر إلى مصر، حيث رحّب  به  الناس كمخَلص لهم من حُكم الفُرس. واستسلم حاكم الولاية الفارسى (المزربان) بحُكمة. وفى منف، قام الإسكندر بتقديم القرابين لأبيس (العِجل المصرى المقدس)، وتُوّج بالتاج المزدوج التقليدى للفراعنة. واسترضى الكهنة المحليين وشجّع دينهم. وأمضى الشتاء فى تنظيم مصر. ووُظف حاكمًا للمصريين. وأبقى الجيش تحت قيادة مقدونية منفصلة. وبعد ذلك سار بقواته بمحاذاة الفرع الكانوبى للنيل، متجهًا إلى ساحل البحر المتوسط. ولف نظر الإسكندر موقعًا بالقرب من الذراع الغربى للنيل فى موقع ممتاز بين البحر وبحيرة مريوط ومحمى بجزيرة فاروس. وهذا الموقع كان به قرية تسمى راكوتيس (راقودة). وهنا أسّس الإسكندر مدينة الإسكندرية. واستعان بالمهندس المعمارى الرودى (من رودس) دينوكراتيتس لتخطيط وتأسيس المدينة. ويقال إنه أرسل بعثة استكشافية لاكتشاف أسباب فيضان النيل. ومن الإسكندرية، سار على طول الساحل إلى البارتون‎  (مرسَى مطروح حاليًا). ومن هناك اتجه إلى الداخل لزيارة احتفال نبوءة الإله آمون الشهير فى مَعبده بواحة سيوة؛ حيث أعطاه الكاهن التحية التقليدية لفرعون، ابن آمون، ونصّبوه فرعونًا مصريّا على مصر. وألبسوه تاجَه على شكل رأس كبش ذى قرنين؛ فلُقب «الإسكندر ذو القرنين». ويقال إنه تشاور مع الإله على نجاح حملته، ولكنه لم يُفش بهذا السر لأحد. ولاحقًا كان هذا الحادث هو الذى منحه قصة أنه كان ابن زيوس، وبالتالى،  تم «تأليهه» من قِبَل الكهنة المصريين. وبعد ذلك، رجع الإسكندر إلى منف. وأبقى الإسكندر على منف عاصمةً لمصر. وحرص الإسكندر على الإبقاء على النظم المصرية القديمة، وتنويع الحُكم بين المصريين والإغريق الذين وضع بين أيديهم السُّلطة العسكرية والمالية. وأبقى للمصريين السُّلطة الإدارية. ووزّع السُّلطات بالتساوى. ولم يُعِن حاكمًا عامّا مقدونيّا، وبذلك ضمن رضى المصريين. وقبل أن يغادر الإسكندر مصرَ، استعرض قواته للوداع. وأقام للشعب المصرى والإغريقى مهرجانًا رياضيّا وثقافيّا كرمز للتعاون بين الحضارتين العريقتين. كما أوصَى موظفيه بالقيام ببعض الإصلاحات للمعابد وتجديد معابد الكرنك. وفى ربيع 331 قبل الميلاد، عاد إلى صور. وعين حاكماً مقدونيّا على سوريا. واستعد للتقدم إلى بلاد النهرين، بعد أن كان غزوه لمصر قد أكمل سيطرته على كامل ساحل البحر الأبيض المتوسط. 

 

وفى الخامس والعشرين من شهر طوبة عام 331 قبل الميلاد، وضع الإسكندر الأكبر حَجَر الأساس للمدينة التى اختارها كعاصمة تحمل اسمه فى مصر. واختار موقع قرية قديمة كان اسمها «راقوتيس»، وهو اسم أرجعه البعض إلى تسمية مصرية ذكرت فى النصوص «رع-قدت» وترجمه البعض «رع المشيد». وذُكر اسم الموقع فى عدة نصوص ترجع للعصر المتأخر لاسيما فى عقود البيع والشراء. ويتجه الرأى الغالب إلى أن الكلمة تترجم حرفيّا بـ: حد البناء أو الحيز. ويميل جان يويوت إلى ترجمتها بمعنى الفناء أو الحوش. وربما كان المقصود بالفناء هنا مدخل مقصورة الإله الذى كان يُعبد فى القرية القديمة. وموقع هذه القرية الآن منطقة العامود بكرموز.

 

وقام المهندس دينوقراطيس بوضع تخطيط المدينة على الطريقة الهيبودامية أو ما يشبهه البعض برقعة الشطرنج. وهو تخطيط يشبه تخطيط المدن اليونانية فى القرن الخامس قبل الميلاد. وبداية قام دينوقراطيس بربط القرية بجزيرة فاروس من خلال جسر يطلق عليه الهيبتاستاديوم، أى 7 ستاد. وهى مسافة تصل لنحو الميل بين القرية والجزيرة. وهذا الجسر مفقود تمامًا الآن. ومن خلال هذا الجسر الذى كان يربط بين جزئى المدينة القديمة، وُجد ميناءان: هما الميناء الشرقى الذى كانت تغادر منه المنتجات إلى بلاد اليونان، والميناء الغربى أو العود الحميد كما يُطلق عليه.

 

وقسّم مهندس الإسكندرية المدينة إلى خمسة أحياء، رمز إليها بالحروف الخمسة الأوائل فى الألفبائية اليونانية: ألفا، وبيتا، وجاما، ودلتا، إيبسيلون. وبدراسة دلالة تلك الحروف أمكن ملاحظة أن:

 

ألفا: رمز إلى الحرف الأول من اسم الإسكندر الأكبر.

 

بيتا: رمز إلى الحرف الأول من كلمة يونانية تعنى الملك.

 

جاما: رمز إلى الحرف الأول من كلمة يونانية بمعنى «سليل» أو «وليد».

 

دلتا: رمز إلى الحرف الأول من اسم الإله اليونانى زيوس. 

 

إيبسيلون: رمز إلى الحرف الأول من كلمة تعنى «يبنى» أو «يشيد».

 

ويمكن بناءًً على هذا التفسير أن نعتبر تلك الحروف هى اختصار لنص لوحة تأسيس المدينة. وهنا يكون معنى النص كما يلى: «الإسكندر، الملك، ابن، زيوس، يشيد». 

 

وفى عام 323 قبل الميلاد، أرسل كليمونيس، نائب الإسكندر الذى عَيّنه على الإسكندرية، عملة لملكه عليها أسوار المدينة. ولكن لسوء حظه مات الإسكندر قبل أن يرى دُرّة مدنه وحواضره التى أصبحت سيدة البحر المتوسط وقبلة العالم الهيللينستى. وحملت أهمية تجارية كبيرة ذكرت فى العديد من المصادر. كان من بينها نص Chrysostome، الذى يؤرخ بالقرن الثانى الميلادى، ويؤكد أن ميناء الإسكندرية كان أحد أهم موانئ العالم؛ حيث ربط النيل بالبحر المتوسط، كما أن تجارة الهند إلى مصر كانت تدفع خمسة وعشرين بالمائة من حصيلتها كضرائب فى الإسكندرية. ويشير زينون فى أحد نصوصه إلى أن الملك بطليموس الثانى فيلادلفوس قد طلب من كل التجار ممارسة التجارة فى الإسكندرية؛ لأنها المركز التجارى الرئيس فى مصر.

 

وقام الملوك البطالمة باستكمال ما بدأه الإسكندر الأكبر فى مصر، ولكن من خلال منظور واقعى سعى إلى تكوين إمبراطورية وراثية فى الشرق الأدنى القديم. وظهر ذلك جليّاً وبوضوح الشمس فى كبد السماء فى آثار مصر فى مدينة الإسكندرية الساحرة التى طغت بآثارها الخالدة على ماعداها من آثار مدن البحر المتوسط. ووصلت مصر إلى مستوى ثقافى متقدم. وأصبحت مدينة الإسكندرية ومكتبتها العامرة من أهم المراكز الثقافية والحضارية فى عالم البحر المتوسط. وصارت مكتبة الإسكندرية فى عصر البطالمة هى واجهة العالم الثفاقية الكبرى وقبلة الحضارة والثقافة والفنون والآداب والعلوم وحاضرة الأدباء والعلماء والمثقفين من مكان من العالم آنذاك. 

 

واهتم الملوك البطالمة بمصر الأخرى ومدنها، وأعنى مدن مصر الوسطى وصعيد مصر. وانتشرت المعابد المصرية فى ذلك العصر فى عدد كبير من مدن ومراكز صعيد مصر الحضارية. وعبّر الفن فى ذلك العصر عن روح جديدة مزجت بين الموروث المصرى القديم وأضافت إليه صفات وسمات جديدة حتى يناسب الجميع: مصريين ويونانيين يعيشون على الأرض المصرية العظيمة. تلك روح مصر التى تحوّل الوافد إلى مصرى وتجعله يسعد بروحها الحضارية التى ليس لها مثيل فى العالم أجمع. 

 

وحظيت الإسكندرية منذ تأسيسها بمكانة كبيرة كحاضرة ثقافية، وكميناء تجارى. وتفوقت الإسكندرية على كل المدن التى شُيدت فى العصرين اليونانى والرومانى أو ما قبلهما مثل نقراطيس وموقعها الحالى كوم جعيف فى محافظة البحيرة، ومدينة بطلمية وموقعها المنشأة فى محافظة سوهاج، ومدينة أنطونينوبوليس وموقعها الشيخ عبادة فى محافظة المنيا.

 

وحملت الإسكندرية العديد من الصفات التى ميزتها عن غيرها من الحواضر. ويمدنا أرشيف أوكسيرنخوس (البهنسا) بالعديد من الوثائق عن الإسكندرية وصفاتها، من بينها: المدينة المحمية، والمدينة المستقلة، والمدينة البديعة. وذكرت كذلك بالعاصمة. إضافة إلى النص الشهير الذى جاء فى مرسوم أحد المواليد من أوكسيرنخوس ويؤرخ بالقرن الثانى الميلادى،  الذى أطلق على المدينة صفة Alexandria Ad Aegyptum، التى تُترجم بـ«الإسكندرية بجانب مصر» أو «الإسكندرية على شواطئ مصر».

 

وبالإضافة إلى ما جاء من أوكسيرنخوس، وُصفت المدينة بالعديد من الصفات التى تقترب من الشعر. وكان من بينها النص الشهير المسجل على لوحة كوم خزيرى بالدلتا ويطلق على المدينة اسم الإسكندرية «مدينة السكندريين المتلألئة».

 

ولم يختلف وصف المؤرخين العرب للمدينة. فقد حدد ميشيل السريانى فى القرن الثانى عشر الميلادى الكثير من الأماكن والأرقام عن المدينة وآثارها. ورُغم أنه لم يتحرّ الدقة أحيانًا؛ فإنه يعكس ما كان للإسكندرية من مكانة متميزة وسيرة طيبة فى العصور الإسلامية.

 

وفقدت المدينة الكثير من أهميتها بعد اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح عام 1498 ميلادية، ثم دخول مصر حظيرة الدولة العثمانية عام 1517 ميلادية. وفى هذه المرحلة تحولت المدينة إلى مدينة شبه مهجورة، محورها الشمالى لا يزيد على كيلو متر واحد فى الطول ونصف كيلو متر فى العرض. وسُميت آنذاك بـ«المدينة التركية». فى حين أُطلق على البقايا الأثرية بها تسمية «المدينة العربية».

 

وسرعان ما استردت الإسكندرية مكانتها مع وصول محمد على إلى سدة الحكم (1805-1848م)، نتيجة لمشروعاته المثمرة التى قام بها فى المدينة بعدما أدرك ضرورة إحيائها. وينبغى ألا ننسى أن رفاعة الطهطاوى اعتبر أن الإسكندرية كانت جزءًا من بلاد الفرنجة؛ معللاً ذلك بأنه لا توجد مدينة أخرى فى مصر تحمل صفاتها. وأنه حين زار مدينة مرسيليا الفرنسية، رأى فيها الصورة الثانية للإسكندرية.

 

تعتبر مدينة الإسكندرية، بنت الإسكندر، هى مجد الثقافة وحاضرة التاريخ ومبدعة الحضارة. وكانت الإسكندرية مدينة متميزة فى العصر البطلمى من آثار ما يُعرف العصر الهيللينستى حين امتزجت حضارة الشرق مع حضارة الغرب على أرض مصر الخالدة. وفى هذا العصر، تحولت مصر إلى دولة، بل إمبراطورية ذات طبيعة مزدوجة تجمع بين العنصر الهيللينى، الممثل فى المحتل الوافد الذى كانت تربطه صلات قوية وقديمة وعديدة بمصر القديمة، والعنصر الشرقى ممثلاً فى مصر الفرعونية وحضارتها العريقة التى أبهرت الوافد البطلمى وجعلته يتأثر بها للغاية. وفى النهاية، نتجت حضارة جديدة هى الحضارة الهيللينستية التى جمعت بين حضارة اليونان القديم ومصر القديمة. واحتفظت الإسكندرية الجميلة بمكانتها الثقافية العظمى فى العالم كله إلى الآن بفضل مكتبة الإسكندرية القديمة والجديدة. 