الأحد 13 يوليو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

ملائكة الرحمة في «الحجر الصحى

«نقدّر جهودكم.. ونحن نخوض حربًا أنتم أبطالها»، هكذا كان تقدير الدولة والرئيس عبدالفتاح السيسى للقطاع الطبى والصّحى فى رسالة شكر ومحبة وامتنان لملائكة الرحمة والأطباء فى «مستشفيات المحروسة»؛ لجهودهم فى مجابهة فيروس كورونا المستجد، ذلك الزائر المفاجئ الذى زعزع العديد من دول العالم وأربك حسابات كيانات عظمى حول الكرة الأرضية.



 

 

 

 

 

 لم يكن الأطباء وحدهم فى الحرب ضد الفيروس المستجد، إنما رافقهم فيها جنود مجهولة قاموا بمجهودات عظيمة، تبدأ من لحظة استقبال المصابين فى مستشفى العَزْل، مرورًا بالاعتناء بهم وإعطائهم الأدوية فى مواعيدها، إضافة إلى السّهر بجوارهم؛ لتلبية احتياجاتهم وتقديم الدعم النفسى لهم.

 

ورغم خطورة ما يقومون به، إلاّ أنهم سعداء بعملهم، طامحين فى أن تتغيّر نظرة المجتمع التى نقلتها بعض وسائل الإعلام بصورة خاطئة عنهم، تمر أيامهم عسيرة داخل الحجر الصحى، يشاهدون مرضاهم يسارعون نحو البقاء على قيد الحياة، وبعض الأسر التى دخلت فى ماراثون طويل مع زائر الشتاء والصيف، فيجتهدون دائمًا فى الحفاظ على اتزانهم النفسى ليتمكنوا من منح الدعم لمصابى «كوفيد-19» وبث الطمأنينة فى قلوبهم.

 

رضوى: عازلة نفسى عن أهلى.. «ومينفعش أبكى»

 

 

تُنهى عملها بالمستشفى وتتجه إلى منزلها، لم تعد تستقبل أسرتها مثلما اعتادت، فالآن، باتت تكتفى بإرسال القُبلات من بعيد دون أن تقترب منهم أو تعانقهم، تتجه إلى غرفتها وتجلس وحيدة فى منأى عن المحيطين بها، خشية نقل أى عدوى دون أن تشعر. 

 

تعمل «رضوى جابر»، 22 عامًا، فنى تمريض بمستشفى الصالحية الجديدة بالشرقية، تخرجت 2018 واستلمت عملها فى العام التالى مباشرة، كان كل شيء عسيرًا عليها فى البداية، لم تكن تحتمل رؤية المصابين والمرضى، حتى أنها تتذكر أن فى يومها الأول استقبلت حادثًا ولم تستطع الوقوف على قدميها إلى أن عنّفها الطبيب، لتسارع بالقيام بعملها.

 

منذ شهر مضى، علمت الفتاة العشرينية أن المستشفى التى تعمل بها ستكون ضمن خطة مديرية الصحة بالشرقية، تقول: «مشرفة التمريض هى اللى بلغتنى بكده وقتها، بعدها اتغيّر القرار وبقى مستشفى فاقوس العام، ومن حوالى شهر ظهرت عندنا أول حالة اشتباه، والمديرية بعتتلنا إننا هنكون حجر صحى مرحلة تانية»، مؤكدة أنها شعرت بقلق شديد هى وزملاؤها فى البداية، لكنهم قرروا أن يقوموا بواجبهم رغم كل شيء: «قولنا لو إحنا مشتغلناش أمّال مين هيشتغل، إحنا ربنا اختارنا عشان كده، أهلى وماما خايفين عليا جدًا وقالولى متروحيش الشغل تانى من قلقهم.. بس مقدرش».

 

باتت رضوى شديدة الحرص فى التعامل مع مَن حولها منذ لحظة تحول المستشفى التى تعمل بها إلى حَجْر صحى (مرحلة ثانية): «بدخل من باب تانى ورا.. معايا كحول ولابسه ماسك، أى حاجة بلمسها بطهرها بكحول وعازلة نفسى عن أهلى من خوفى عليهم»، مشيرة إلى أن المستشفى بها قسم عزل يقومون بحجز حالات الاشتباه فيه إذا كانت إيجابية، ثم يقومون بتحويلها إلى مستشفى أخرى: «المشكلة إن اللى قدامى معرفهوش، خاصة المشتبه فيه.. مش بيبقى جاى لوحده، ده بيبقى عدى على ناس كتيرة فبيكون مشتبه فيهم برضه، ومش بيرضوا يقعدوا ولا أهاليهم رغم أن نسبة الإصابة بينهم ممكن تكون قوية جدًا».

 

تقضى الفتاة العشرينية يومها فى العمل بسلام، وحينما تعلم أن هناك حالة اشتباه فى الاستقبال يتسلّل الخوف إلى قلبها خشية انتقال العدوى إليها: «بجهّز عشان استلمه وبخاف أكون سبب إنى أوصل العدوى لحد من أهلى، وكمان المريض نفسيًا مش بيبقى كويس؛ لأن كل الناس وأهله خايفين يتعاملوا معاه، آخر حالة جاتلى نتيجته مظهرتش بس ظهرت عليه الأعراض كاملة وجه على المستشفى من غير ما يرجع لأهله، مامته لما عرفت جت جرى وكانت منهارة لما عرفت إن اتنين من صحابه نتيجتهم إيجابية، وقالتلى أنا مشوفتش ابنى من شهر وعاوزة أشوفه لو من بعيد».

 

تواجه ابنة الشرقية مواقف صعبة تصل بها إلى درجة البكاء، لكنها تحاول التماسك لتقوم بعملها على أكمل وجه: «مينفعش أظهر أى مشاعر بحاول أخفف عنهم وأطمنهم ده اللى بقدر أعمله»، مشيرة إلى أن الممرضين دائمًا ما يتلقون معاملة جافة ممَن حولهم، خاصة مرافقى المريض: «ممكن أبقى سهرانة جنب طفل طول الليل مشوفتش نوم، ألاقى حد من أهله يعاملنى كأنى شغّالة عنده، الفكرة الغلط متاخدة عننا من الميديا والمسلسلات إننا معندناش ضمير، بالعكس إحنا فعلًا اللى شايلين مستشفيات مصر كلها وأوقات مبيبقاش فيه دكاترة وبرضو بنتعامل على ما يوفروا طبيب ينزل من سكنه؛ لأنهم مبيبقوش معانا فى الأقسام سواء كانت أقسام داخلى أو عناية أو حضانات، فى الاستقبال بيبقى دكتور واحد والباقى تمريض ووقت الحادثة بنبقى شغالين زينا زيه ويمكن أكتر»، موضحة أنها تتمنى بعد تجاوز هذه الأزمة وتعود الحياة مثلما كانت أن يستوعب الناس دور الممرضين وجهودهم وأن يعلموا أنهم فريق طبى واحد هدفه خدمة المرضى والمساعدة فى شفائهم.

 

 

أبو بكر: «معزولين مع المرضى.. ومينفعش نكدب عليهم»

 

 

حينما تم انتدابه للعمل بمستشفى العجمى بالإسكندرية، بعدما تم تجهيزها لعزل مرضى كوفيد 19، آثر أن يكون الأمر بينه وبين زوجته، رافضًا أن يخبر أسرته؛ خوفًا من إثارة قلقهم، بدأ تجهيز المستشفى فى 7 مارس لاستقبال الحالات بعد مرور أسبوع، وقبل دخول الحالة الأولى فى الحجر الصحى بساعات علمت أسرته حينها، تواصلوا معه وأوصوه بأن يعتنى بنفسه، عازمين على بث الطمأنينة فى قلبه، وأيقنوا أنهم لا يملكون سوى الدعاء له.

 

تخرج «أبو بكر السيد»، 29 عامًا، فى كلية التمريض بجامعة الإسكندرية، كان عمله الأساسى بمستشفى الجمهورية العام، ومع بداية الحجر الصّحى تم انتدابه للعمل فى مستشفى العجمى: «مع دخول أول مريض كان فى قلق كبير، وزوجتى كانت قلقانة وأنا قلقان على أهلى وابنى»، مؤكدًا أنه يقيم فى المستشفى منذ 7 مارس الماضى: «ممنوع أى حد من الفريق يغادر المستشفى؛ لأن ممكن واحد منهم يصاب بالعدوى ولو خرج ينقلها بره، وبنتواصل مع أهالينا بالمكالمات الصوتية فقط أو الفيديو، والحمد لله نسبة الوفيات قليلة وللأسف الناس متصورة إن اللى بيجيله المرض بيموت».

 

يتذكّر الشاب العشرينى لحظة استقبال المصابين بفيروس كورونا فى المستشفى، حيث تم نقلهم فى سيارات إسعاف ليلية، كان كل مريض مرتديًا كمامته، وحاملًا حقيبة كبيرة فيها ملابسه وأغراضه، بينما يبادر رجال الإسعاف بفتح باب العربة لهم ويقفون على مسافة بعيدة عنهم؛ حتى يدلفوا إلى المستشفى ويكون فريق التمريض فى انتظارهم: «بدخل للمرضى على فترات بحسب تعليمات بروتوكول مكافحة انتشار العدوى والأوبئة، فعدد الموجودين فى الحجر الصحى 80 تقريبًا، ومهمتنا مع المرضى العلامات الحيوية وإعطاء الأدوية والوجبات الطبية عمومًا وتوفير الأكل والشرب وتلبية احتياجاتهم والمساندة النفسية على قد ما بنقدر».

 

صادف أبو بكر مواقف مؤلمة خلال فترة عمله فى الحَجر الصحى، حيث قابل أسرًا كاملة مصابة بالمرض، فمنهم من تدهورت حالته وتم نقله إلى سريعًا العناية المركزة: «كل ده يسبّب ألم نفسى لينا، وكمان مينفعش أكذب على مريض لازم أوصله الحقيقة؛ لأن ده حقه، أكتر موقف أثر فيّا لما مريض فى العناية المركزة قالى هى دى النهاية يابنى، وبلّغت ابن مصاب بالمرض أن والده هيتحط على جهاز صناعى ومش هيعرف يكلّمه تانى، إحنا متأثرين نفسيًا عشان مش بنخرج برا المستشفى، ومع ذلك تأقلمنا مع الوضع الحالى، والحمد لله معندناش أى إصابات فى الفريق الطبى، إحنا فى حرب ضد حاجة لا ترى بالعين المجردة».

 

يؤكد فنى التمريض بمستشفى العجمى أن الفريق الطبى يتم تبديله كل 14 يومًا وقبل مغادرة المستشفى يتم عمل تحليل له، لكن هناك أشخاص قرروا أن يستكملوا عملهم لمدة 14 يومًا إضافيًا، وكان هو واحدًا منهم: «عدد الفريق الطبى لازم يكون أكبر، ولا يجوز الفرار من المعركة قبل الانتصار، إحنا معزولين مع المرضى والناس مش متخيلة صعوبة رصد المخالطين للحالات، لو واحد مصاب ينقل العدوى لواحد بس بعد أسبوع ويوصل عدد الحالات بسببه لـ500 شخص»، مؤكدًا أن كافة التحاليل والأطعمة والمشروبات والعلاج جميعها مجانية، وكل مريض له دولاب وثلاجة وتليفزيون داخل غرفته: «البلد للأسف مليانة إشاعات والتحاليل كلها مجانية مش زى ما الناس بتقول».

 

 

مصطفى من «حَجْر كورونا»: «مش خايفين»

 

 

كان ضمن الفريق الأول الذى ذهب إلى الحجر الصحى بمرسى مطروح وبعدما أنهى مدة عمله، تم انتدابه للعمل فى حجر مستشفى ال عجمى النموذجى. 

 

تخرج مصطفى عبده، 28 عامًا، فى معهد تمريض الإسكندرية، بدأت مهمته العملية منذ 7 مارس الماضى، وحينما تم إبلاغه بأنه سيذهب إلى مستشفى آخر هو وصديقه إبراهيم، وافق سريعًا: «وافقنا لأن لو كل الناس رفضت يبقى المرض هيجيلى لحد بيتى وساعتها مش هتلاقى حد يشتغل معاك وبعدين ده واجبنا، ولمّا رجعنا بعدها بشهر تقريبًا من حجر مطروح رحنا العجمى، إحنا قد المسئولية ومش خايفين، العدوى ممكن تجيلنا من واحد ماشى فى الشارع وكله بإيد ربنا».

 

تقبّلت أسرة مصطفى مهمته الجديدة، حيث اعتبروا أنه مثل الجندى فى المعركة ولا يملك الانسحاب: «أنا سايب مراتى وطفلين ومعرفش راجع ولا لأ، بس ياريت نظرة المجتمع تتغيّر لينا، إحنا منقلش شيء عن اللى واقف على الحدود أو اللى بيحارب ويموت شهيد؛ لأننا فى حرب برضه».

 

يقول: «يتلخّص دورنا مع المريض فى استقباله لحظة دخوله المستشفى، ثم معرفة تاريخ المرض وعلاماته الحيوية: «بنعرّفه الدور اللى هيقوم بيه فى العلاج وطريقة التواصل معانا وإنه ميخرجش من حَجْره وبياخد العلاج فى ميعاده، بنقيس ليه الضغط والسكر ودرجة حرارته مرتين يوميًا، عدا الحالات اللى بتحتاج أكتر من مرتين لحد ما بيتعافى نهائيًا ويخرج». يواصل مصطفى حديثه أن فرحته الكبرى تكون بتعافى المرضى من الفيروس وعودتهم إلى منازلهم وحياتهم تبدأ من جديد: «صوت دعائهم لينا بيهوّن علينا كل تعب، كل المرضى بيتم التعامل معاهم بشكل كويس جدًا، وفيه لبس وبدل وماسكات ونظارات وشوز مخصصين لكل حالات كورونا والعزل وبيتغيّر فى كل مرة دخول، وعند انتهاء فترة عملنا فى الحجر بيتعمل لينا تحاليل عشان يتأكدوا من عدم إصابتنا».

 

ويختتم الممرض الصغير حديثه بأن عدد التمريض الموجود قليل، مقارنة بعدد الحالات بسبب ضعف الرواتب واتجاه البعض للعمل فى الخارج: «ده غير إن فى تمريض بيرفض يشتغل فى الحجر؛ لأنه مخاطرة وبدل العدوى فيه 19 جنيه بس»، مضيفًا أن هناك حالتين تعافيا كليًا من الفيروس وغادرا المستشفى وهم فى انتظار الحالات الأخرى: «دى فرحتنا الكبيرة عشان بنحس إن تعبنا وشغلنا مرحش هَدَر».