الزعيم محمد فريد يطالب بتأميم قناة السويس!

رشاد كامل
هدأ الكلام تماما واختفى حول قضية شائكة وخطيرة بل مريبة انشغلنا بها وأقمنا حولها وفيها سرادقات الكلام والنواح والبكاء طوال أسابيع!القضية كانت تحت عنوان «بيع قناة السويس» أو «تأجير قناة السويس»!!وفى كل الكلام - المكتوب والمرئى - عن هذا الموضوع المريب وهو ضد المنطق والتاريخ والوطنية - غابت المعلومات تماما.
لا أحد قال لنا من هو الخبيث الشرير وراء هذه الفكرة المريبة؟! ولماذا الآن؟! وأين حدود السياسة وحدود الاقتصاد فى مسألة بيع أو تأجير قناة السويس!!
لا إجابات إلا الشوشرة والصوت العالى والجهل النشيط وهمبكة نجوم الكلام هنا وهناك!!
والقصة كلها محزنة وتثير الغضب والكرامة، فليست هذه أول مرة تتعرض فيها «قناة السويس» لمثل هذه المؤامرة سواء كانت بالبيع أو بالتأجير، أو كما حدث منذ أكثر من مائة وثلاثين سنة لمد امتياز شركة قناة السويس مدة تصل إلى 99 سنة!!
لقد كانت هناك أربع محاولات جادة ومستميتة لتحقيق هذا الأمر المريب، بدأت المحاولة الأولى فى عام ,1883 أى بعد نحو عام من فشل الثورة العرابية وبدء الاحتلال الإنجليزى لمصر.
وكانت الفكرة ببساطة التى توصل إليها «ديلسبس» «صاحب فكرة حفر القناة» مع الإنجليز هو «مد الامتياز الحالى لشركة قناة السويس 99 عاما مقابل أن تدفع الشركة للحكومة المصرية ولمدة 99 عاما نسبة 1٪ «واحد فى المائة» من إجمالى الربح الصافى!!
وفشلت الفكرة بعد معارضة البرلمان البريطانى لهذه الاتفاقية، وكان ذلك فى جلسة بتاريخ 23 يوليو 1883 وهكذا نامت الفكرة ولو مؤقتا!!
ونأتى للمحاولة الثانية، والتى جرت وقائعها ربيع عام 1886وكانت شركة قناة السويس قد بدأت برنامجها لتحسين القناة، وكان ذلك مما زاد من اهتمام الحكومة البريطانية وأصحاب السفن والشركات الملاحية التى تعبر القناة، وبدأت مفاوضات سرية لبحث موضوع مد الامتياز!!
وفشل اللورد كرومر فى إبعاد «نوبار باشا» رئيس النظار - الوزراء - عن هذه المفاوضات المباشرة مع الشركة، وعارضت الحكومة المصرية عملية توسيع وتعميق القناة دون موافقتها الرسمية!
وفى جو من السرية والكتمان جرت المفاوضات بين الشركة والإنجليز!! وطلبت وزارة الخارجية البريطانية رأى كل من وزارتى «البحرية» و«التجارة»، وافقت وزارة البحرية، أما المثير للدهشة فقد تضمنه رد وزارة التجارة وقولها: «من الصعب الرد على الاستفسار الخاص بمد الامتياز لأنه من المستحيل التنبؤ بما سيكون عليه الوضع السياسى للعالم أو لمصر عام ,1968 وبدون معرفة ذلك فإنه من الصعب تكوين رأى حول أثر مد الامتياز من جهة أو الخاص بوضع القناة بين أيدى الحكومة المصرية من جهة أخرى».
وماتت المحاولة الثانية كما ماتت الأولى!!
وبعد أربع سنوات عادت الفكرة من جديد إلى أرض الواقع، وكان ذلك صيف عام 1890، وتضمن المشروع الذى أعده «ديلسبس» امتيازات لشركة القناة منها مد الامتياز لفترة 33 سنة أخرى، أما الامتيازات الخاصة بالحكومة المصرية وإنجلترا فلعل أهمها أن يسمح لمصر بفائدة سنوية 5٪ من صافى الأرباح!!
ومن جديد درست بريطانيا هذا العرض، واعترضت وزارة التجارة على مبدأ مد الامتياز لثلاث وثلاثين سنة وأكدت أن ممرا ملاحيا بأهمية قناة السويس يجب ألا يظل طويلا فى أيدى شركة تعيش من أجل الربح!!
وأن القناة تزداد أهميتها عاما بعد عام، وأصبح من الضرورى أن تظل مفتوحة أمام تجارة العالم، وتحصل فقط على الرسوم اللازمة والضرورية لتشغيلها وصيانتها وملكية معتدلة لصاحب السيادة الذى تجرى القناة عبر أراضيه!!
وماتت المحاولة الثالثة كما ماتت الأولى والثانية!!
جرت تلك المحاولات الثلاث فى سرية وكتمان وفى الغرف المظلمة بعيدا عن الرأى العام المصرى، ولعبت بريطانيا الدور الرئيسي فى إفشال هذه المحاولات ليس حرصا ودفاعا عن مصر بل حرصا على مصالحها فى المقام الأول!
ثم تمضى السنوات، أكثر من 18 سنة، حيث نصل إلى أواخر عام 1908 خلال شهرى نوفمبر وديسمبر حيث جرت مفاوضات سرية بين شركة قناة السويس وممثلى سلطات الاحتلال البريطانى فى القاهرة!
وطوال سنة كاملة دارت المفاوضات والمباحثات فى القاهرة، وأثناء ذلك قام «درانبرج» رئيس شركة قناة السويس بزيارة سرية للقاهرة للتفاوض مع الحكومة المصرية بشأن مد الامتياز لمدة أربعين سنة أخرى بشكل غير رسمى!
فى ذلك الوقت كان الحاكم الفعلى فى مصر ليس الخديوى «عباس حلمى الثانى» بل السير «جورست» المعتمد البريطانى الذى جاء خلفا للورد «كرومر» عام 1907 بل وصل الاعتراف بذلك من الخديوى نفسه عندما قال: إن المعتمد البريطانى - جورست - لا يستطيع حكم مصر وحده، وأنا مستعد للتعاون معه، والاحتلال البريطانى أفضل من أى احتلال آخر!!
وبعد مفاوضات سرية توصل رئيس شركة قناة السويس «دارنبرج» والسير «جورست» المعتمد البريطانى إلى خطوط عامة لاتفاق مبدئى لمشروع اتفاقية مد الامتياز، جاءت بعض بنوده كما يلى:
أولا: مد امتياز الشركة أربعين عاما أخرى اعتبارا من عام 1968 «وهو تاريخ انتهاء عقد الامتياز الخاص بالشركة»، ومعنى ذلك ببساطة إتاحة الفرصة لشركة قناة السويس الاستمرار مائة عام تبدأ من عام 1908 وتنتهى عام 2008 «أى منذ خمس سنوات فقط».
ثانيا: يتم خلال مدة الأربعين سنة توزيع الأرباح مناصفة بين شركة القناة والحكومة المصرية، ولأنه من المستحيل التنبؤ بمعرفة إيرادات الشركة فى عام 1968 فيؤخذ متوسط السنوات الخمس (1965 - 1970).
ثالثا: تدفع الشركة للحكومة المصرية 2,3 مليون جنيه مصرى تقسم على السنوات الأربع ابتداء من سنة .1910
رابعا : تمنح الشركة الحكومة المصرية نصيبا من أرباح القناة اعتبارا من سنة 1911 ويوزع كالآتى:
- من عام 1911 حتى 1920 نسبة 2٪.
- ومن عام 1921 حتى 1930 نسبة 4٪.
- ومن عام 1931 حتى 1940 نسبة 6٪.
- ومن عام 1941 حتى 1950 نسبة 8٪.
- ومن عام 1951 حتى 1960 نسبة 10٪.
- ومن عام 1961 حتى 1968 نسبة 12٪.
وما أكثر المعلومات والحقائق والوثائق التى حدثت ودارت فى الخفاء، ونجح الدكتور «السيد حسين جلال» فى كشفها عبر كتابه الثمين والخطير «مؤامرة مد امتياز شركة قناة السويس «1908 - 1910»، لكن أخطر ما يكشف عنه الكتاب فى خضم المعركة ضد هذا المشروع المريب هو أن الزعيم الكبير «محمد فريد» زعيم الحزب الوطنى - بعد مصطفى كامل - طالب بتأميم شركة قناة السويس!
وكانت صحيفة «اللواء» صحيفة الحزب الوطنى هى أول من نشر أخبار هذا المشروع بعد أن أشارت إليه صحيفة «البورص» الفرنسية بتاريخ الخامس من أكتوبر سنة 1909 حيث كتبت أن الحكومة المصرية تتفاوض مع شركة قناة السويس لمد امتيازها أربعين عاما».
ونجح «محمد فريد فى الحصول على نسخة من المشروع المشبوه ودرسه بفهم وعمق وبدأ فى نشر أول مقالاته بتاريخ 28 أكتوبر سنة 1909 فى جريدة اللواء قائلا ومتسائلا ودون لف أو دوران:
كيف يجوز لهذه الحكومة أن تتساهل فى أمر إطالة أمد الشركة مع علمها أن هذه القناة كانت السبب فى ضياع استقلال مصر، وكل مصرى حر يتوق لأن يراها ملكا لمصر، حتى لا يبقى لأوروبا وجهة للتداخل فى أمورنا». وطالب «محمد فريد» الحكومة بعرض المشروع على نواب الأمة قبل البت فيه، ثم يكتب «محمد فريد» أخطر مقالاته على الإطلاق بتاريخ 30 يناير 1910 بعنوان «مسألة قناة السويس: اعتبارات سياسية» وجاء فيه:
«لو كانت مصر حرة، وكانت أعمالها بيد نوابها، لفضلت استرداد الامتياز من الآن فى مقابل تعويض مالى يدفع للشركة مرة واحدة أو مقابل جزء من الأرباح يحسب على نسبة صافى إيراد خمس السنوات أو عشر السنوات الأخيرة، ويدفع لها فى مدة السنة الباقية من الامتياز كما فعلت الدول التى استردت امتياز سككها الحديدية».
وقال «محمد فريد» إن الأمة ومصالحها فوق إرضاء أصحاب الحل والعقد، كما طالب نواب الأمة بالجهر برأيهم حتى لو خالفوا فى ذلك «رأى أعظم وزير أو أكبر أمير».
ولم يكن «محمد فريد» وحده فى تلك المعركة المجيدة على صفحات «اللواء» فقد كان هناك العشرات من الصحفيين وأصحاب الأقلام الحرة الشريفة!
كان هناك «طلعت حرب» الذى كتب عدة مقالات خطيرة سرعان ما أصدرها فى كتاب مهم هو «قناة السويس» أكد فيه بالأرقام والوثائق «أن المشروع من كل وجهة قلبناه عليها مشروع ضار لا تصلح الموافقة عليه . وأن خسارة مصر تصل إلى مبلغ 5,127 مليون جنيه!
ويكتب الشيخ «على يوسف» فى صحيفته «المؤيد»: مصلحة مصر ظاهرة للأعمى والبصير، والعاقل والمجنون فى رفض المشروع لا فى قبوله». وأفسحت الصحافة الوطنية صفحاتها لمقالات وآراء تندد بالمشروع وتهاجمه، بل إن صحيفة اللواء دعت القراء لإرسال برقيات وخطابات احتجاج إلى الخديوى!وكعادة الحكومات المصرية - أمس واليوم - فقد سدت أذنها وطال صمتها حتى إن صحيفة «الجريدة» التى يرأس تحريرها «أحمد لطفى السيد» كتبت تقول:
وكلما زادت الحكومة فى كتمان المشروع، زاد ارتياب الرأى العام وطلب إعلانه»!
ولم تجد الحكومة مفرا من دعوة الجمعية العمومية للانعقاد ومناقشة المشروع، وتشكلت لجنة من خمسة عشر عضوا لدراسة بنود الاتفاق، وتعددت وطالت المناقشات.
وعن طريق الصحافة الوطنية تابع المصريون ما يدور أولا بأول وكتبت «اللواء»: «إذا أرادت الحكومة تنفيذ المشروع رغما عن إرادة الأمة فإنها تأتينا ببرهان جديد على أنها ليست حكومة مصرية فى مصر بل إنها عبارة عن شركة لاستغلال وادى النيل»!
وقالت أيضا: «حياة مصر فى قبضتكم يا أعضاء الجمعية العمومية»!
ووسط هذا الجو المشحون بالغضب تم اغتيال رئيس الوزراء «بطرس غالى باشا» ظهر يوم الأحد 20 فبراير سنة ,1910 وفى اعترافات القاتل الشاب «إبراهيم ناصف الوردانى» «25 سنة» قال: عن دوافعه فى قتل رئيس الوزراء أنه «خان الوطن، ورأس محكمة دنشواى ويحاول مد امتياز القناة».
كانت مصر تغلى، والغريب أن الصحف الموالسة للحكومة استغلت الحادث وكتبت قائلة: إن الأمة المصرية لا تغسل هذا الجرم الذى ارتكبه فرد منها إلا بالموافقة على مد الامتياز!!وتتالت اجتماعات الجمعية العمومية، وفى اجتماع يوم 7 أبريل كان يحاصر مبنى الجمعية أكثر من عشرين ألف مصرى يطالبون أعضاء الجمعية برفض المشروع المريب!
وبعد مناقشات ومداولات صاخبة وغاضبة أعلن رفض المشروع بإجماع الآراء وعمت الفرحة كل أنحاء القطر المصرى، وقال «محمد فريد» هذا عيد قومى!
وقالت «الإهرام»: الأمة فرحة طروبة!
وهكذا فشلت المؤامرة بامتياز!!
ومساء 26 يوليو 1956 - أى بعد 46 سنة - عادت القناة لمصر بعد القرار التاريخى لجمال عبدالناصر بتأميم القناة، ذلك الحلم الذى طالب به الزعيم الوطنى «محمد فريد» شتاء عام .1910