فنون تحت الحصار!

أمانى أسامة
وسط الرُكام المتناثر، والأسلاك الشائكة، يولد الفن، كروح تضفى على ما حل من خراب ألوان البهجة.. تضمد الجروح الغائرة.. بهدوء فى مواجهة صخب الحرب.. وابتسامة تكفكف الدموع.. وفرشاة رسم تغلق فوهة البندقية.. لتعلى صوت السلام على دوى القنابل، لتحكى الفنون عن المعاناة لكن من دون ضجيج.
أسلاك شائكة
«الأسلاك التى يجدها الناس على الأرض ينتهى بها المطاف فى كثيرٍ من الأحيان إلى مكبِ النفايات، لكنى قررت أن أغير نظرة الناس إلى الأمر» هكذا بدأت الحكاية مع محمود صاحب الـ 21 عامًا، أحد المقيمين بمخيم البريج فى غزة.. إذ قرر صنع أشكال فنية من الأسلاك الشائكة لمواجهة بطش الاحتلال.
بدأ محمود فى جمع الأسلاك الشائكة وتحويلها لتماثيل فنية، واعتبرها مصدر رزق جديدًا له قائلًا: «بدأت أجمع الأسلاك منذ سنتين، وأنحت عليها لأخرج بهذه الأشكال اللطيفة..وكل نتيجة رائعة أصل إليها تأخذ منى ساعات كاملة من التركيز، وجروح اليد، وألم الأعصاب».
من غرفة صغيرة فى بيته خصصها لنحت الأشكال الفنية، حقق حلمه الصغير قبل شهرين فى عرض أول أعماله بمعرض خاص للأسلاك الشائكة «أطلقت معرضى الأول، وبعت مئات الأعمال؛ لذلك أنا راضٍ عما وصلت إليه».
لا ينسى حتى الآن من سخروا من فكرته، ويحاول أن يجعل ذلك أحد دوافعه للنجاح «أذكر أن شخصًا أعرفه سخر منى فى بداية الرحلة، بالقول إن مشروعى عديم الفائدة إلى أن جاء قبل فترة ليشترى أحد أعمالى،أستحضر هذا الموقف لأبرهن أننا قد لا نحصل على التقدير الكافى فى بداية أى رحلة، لكن الوقت الذى نبذله لنخرج بالنتيجة الطيبة، هو سبب ما أنا عليه اليوم من تقديرٍ لأعمالى».
حقيبة لاجئ
يعيش الفنان التشكيلى السورى محمد حافظ، فى أريكا، بعد أن قضى فى المملكة العربية السعودية طفولته ومراحل دراسته المدرسية.. ويركز فى أعماله الفنية ومنحوتاته على محاكاة سوريا بشوارعها ومنازلها، من خلال أعمال فنية ينقل من خلالها تفاصيل الحياة اليومية فى سوريا.
حقائب صغيرة مرفق بها سماعات أذن لسماع حكاية كل لاجئ سورى،تلك كانت فكرة الفنان التشكيلى قائلًا: «أحاول أن أقدم صورًا لمدينتى دمشق وحلب ما قبل الحرب وما بعدها، أريهم أيضا صورًا لأهلى وبيتنا ما قبل الحرب وما صرنا عليه اليوم، أخبرهم بأن عائلتى تضم خمسة إخوة وأن كل واحد منهم اليوم فى بلد، وأؤجل التعريف بهويتى بهدف الوصول إلى أكبر شريحة ممكنة من الأجانب الذين لو عرفوا منذ البداية هويتى لربما صموا آذانهم عن رسالتى ولن تصبح لها فائدة». وصل حافظ إلى الولايات المتحدة بعمر السابعة عشرة، لدراسة الهندسة المعمارية ومن ثم جاءت الأحداث متتابعة إلى أن أصبحت عودته إلى سوريا وزيارة بيته وأهله أمرًا يكاد يكون مستحيلًا، فافتقد مدينته وكل ما يذكره بها.
ومع بداية عام 2017 كان البعض من عائلته وأفراد أسرته قد أصبحوا لاجئين فى السويد، مما جعله يفكر بطريقة ما لنقل هذا الشوق من ناحية، ولتصوير تجربة اللجوء عبر الفن من ناحية أخرى «أتتنى فكرة الحقيبة التى ستحكى قصص العديد من اللاجئين ليس فقط السوريين، بل أيضًا اللاجئين من السودان وإيران وأفغانستان والعراق وغيرها، وأقمت أول معرض لـ UNPACKED استطاع أن يجول فى أكثر من متحف أمريكى تابع لجامعات أمريكية».
لقى هذا المشروع ترحيبًا كبيرًا وخاصة من العائلات اليهودية والأيرلندية فى أمريكا، على اعتبار الظروف المشابهة التى عاشها اليهود الذين هاجروا إلى أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، وما تعرض له آباؤهم وأجدادهم حينذاك من هجمات شرسة تشبه إلى حد كبير الهجمات التى يتعرض لها اللاجئون اليوم، فما كان منهم إلا أن أهدوه الحقائب التى تعود إلى آبائهم وأجدادهم والتى كانوا قد احتفظوا بها على مدى الثلاثين أو الأربعين عاماً الماضية ليحكى حكايتهم بفنه.
طاقة من طوب
لأكثر من عشر سنوات، ظلت الفلسطينية مجد ماهاراوى،تعانى هى وأبناء بلدتها فى الظلام، يأكلون، ينامون، يلعبون ويضحكون فقط فى الظلام، محاصرين من قِبل الاحتلال الإسرائيلى فى غزة: « فى غزة لدينا الكثير من اللاشىء، لذا قررت صناعة شىء ما من لا شىء، حيث عشت فى مجتمع معزول تمامًا عن العالم الخارجى،ووجدت أن كل ما أحتاجه هو التفكير خارج الصندوق بطريقة مبتكرة».
التفكير بشكل مختلف أوصلها «مجد» إلى طريقة لمعالجة مشاكل مجتمعها الذى يفتقر إلى الطاقة ومواد البناء: «كانت الحرب قد انتهت لتوها على مدينتى غزة.. بيوت ومُنشآت كثيرة على الخط الشرقى للمدينة أصبحت ركامًا، فلمعت فى بالى وصديقاتى فكرة الاستفادة من كل هذا الركام، أعدنا تدوير الكثير منه إلى حجارة من الطوب يمكن استخدامها، وصديقة للبيئة.. فقمنا بإنتاج أول قالب لصناعة تلك الحجارة، ونجحت فى هذا الأمر، ثم فكرتُ فى إضاءة المدينة، والأحياء المهمشة تحديدًا، عن طريق ألواح الطاقة الشمسية ونجحنا أيضًا إلى حد كبير».
نجحت «مجد» وفريقها فى صناعة مواد البناء وتوصيل الكهرباء للعديد من الأحياء الفقيرة «التغيير لا يحدث فى يوم وليلة، وإذا أردتَ أن تُغير فابدأ من محيطك الصغير.. حيث نجحت مبادرتنا الصغيرة فى خلق وظائف لأكثر من خمسة وستين شخصًا.. ونحن فى طريقنا لإحداث فرق أكبر».
سينما الرُكام
فى مقر سينما مهجورة، وسط البيوت المحطمة، انطلق مهرجان السجادة الحمراء لأفلام حقوق الإنسان، داخل أنقاض سينما «عامر» فى غزة.. ويقول منتصر السبع، المدير التنفيذى أن «الفكرة بدأت قبل خمس سنوات، لأن السجادة الحمراء مرتبطة فى أذهاننا بأنها تُفرش على أبواب القصور والمبانى الفارهة، لكننا وضعناها بين ركام البيوت المدمرة، والميناء والأحياء المهمشة وفى الحارات، لندعو العالم للمرور من خلالها إلى قضيتنا الفلسطينية».
حضر المهرجان للدورة الخامسة على التوالى عدد كبير من الشباب والفنانين ومازال يحقق نجاحات عامًا تلو الآخر: «نحن اليوم أمام سينما عامر بغزة المغلقة منذ زمن طويل، أردنا من خلال وقفتنا هذه أن نوصل رسالة مفادها أننا بحاجة إلى سينما ودور عرض، حيث غزة هى المدينة الوحيدة فى العالم التى لا يوجد فيها دور سينما، إضافة إلى مليون إنسان محاصرين لم يدخلوا فى حياتهم دار سينما».