الثلاثاء 22 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

«أسطوات» قهروا المستحيل

لم يركنوا إلى الإعاقة التى ألمت بأجسادهم ويجلسوا منتظرين المساعدة سواء من الأسرة والمحيطين أو من الدولة، وإنما قرروا أن يشمروا عن سواعدهم ليبنوا مستقبلهم بذواتهم. أثبتوا للجميع أن الإعاقة الحقيقية فى العقل وطريقة التفكير وليس فى الجسد، لم تكن بداياتهم سهلة على الإطلاق، لكنهم أصروا أن يستكملوا الطريق لنهايته، قضوا سنوات عديدة يتنقلون خلالها بين الورش والحرف المختلفة، إلى أن اهتدى كل منهم لضالته ووجد الطريق.



هناك من أتقن حرفة الكهرباء وأنشأ شركة على الإنترنت للمقاولات، وآخر تفرد بنجارة الموبيليا فصار يبدع ويفنن ويضع لمساته فيما يصنعه، وثالث استنبط مهنته من خلال رحلته فى الحياة، فاختار أن يكون «ميكانيكى» للموتوسيكلات والدراجات، تلك الأشياء التى ساعدته أن ينتقل إلى كافة الأماكن رغم إصابته بشلل الأطفال. «روزاليوسف» التقت بمجموعة من ذوى الاحتياجات الخاصة الذين تميزوا فى حرف قد تبدو صعبة لغيرهم من الأسوياء، لكنهم أتقنوها واستطاعوا أن يبنوا لأنفسهم فيها قاعدة عريضة من الزبائن والعملاء.

أول صنايعى فى العاصمة الإدارية

حصل على دبلوم فنى صناعي، قسم تبريد وتكييف. حاول البحث عن فرصة عمل فلم يجد، فى هذا التوقيت انتهى والده من بناء مسجد على نفقته الخاصة، فقرر أن يستكمل العمل فيه بمساعدة أصدقائه، طلب منهم أن يعاونوه فى عمل الكهرباء الخاصة بالمسجد لكنهم رفضوا، وجد نفسه وحيدًا أمام معدات شديدة الخطورة منها «الصاروخ، والشنيور»، فكيف يستخدمها وهو يعانى من رعشة فى يديه فضلًا عن إصابته بشد فى أوتار القدم وضمور فى خلايا المخ، لكنه لم يستسلم وقرر الاعتماد على ذاته، وخاض المغامرة بقوة، التى انتهت باكتشاف حبه لمجال الكهرباء ورغبته فى أن يصبح «صنايعي» ذا كفاءة عالية بها. مضت 15 عامًا على عمل «محمود عبدالله عبدالجواد» صاحب الـ 30 عامًا بمهنة الكهرباء، تعلم خلالها كل شيء بجهده دون مساعدة أحد: «شغال كهربائى سلسيون، حبيتها وخدتها هواية محدش علمنى والحمد لله بقيت متمكن فيها رغم إن مفيش ولا حد فى العيلة شغال فيها، كنت عاوز أتعلم واخد خبرة بس ملقتش حد يعلمني، لحد ما بقيت أشتغل بصاروخ وهيلتى الحمد لله، كنت بروح لناس كانوا بيقولولى إنت إزاى كهربائي، لما يشوفوا شغلى يقولوا للناس عليا وهكذا لحد ما اتعرفت، من جمال شغلى مبقتش ملاحق على الشغل وكنت بضغط جدًا». لم يكتف الشاب الثلاثينى بعمله فى الكهرباء، ولكن تطلع للعمل كمقاول وأنشأ شركة على الإنترنت يستقبل عن طريقها الشغل على موقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك»: «بدأت اخد شغل مقاولات، واسلم  الشقة متشطبة سوبر لوكس للزبون، وعملت شركة أونلاين اسمها شركة الجودة للمقاولات»، موضحًا أن إصابته لم تمنعه من أن يستخدم «الصاروخ، والهيلتي، والشنيور، والأجنة، والمطرقة، والمفكات، والبنس»، كما أنه تعرض لبعض الإصابات خلال عمله: «كان عندى ضغط شغل جامد ومكنتش بنام ومكنش فيه تركيز وأنا شغال الصاروخ عور إيدي، أخطر حاجة بشتغلها شق السقف بالصاروخ، وخلال مشوارى ناس كتير أحبطتنى وقالولى إنت إزاى تشتغل كده هتموت نفسك». عمل «محمود» فى كهرباء مستشفى النيل بـ «شبرا الخيمة» لمدة 9 أعوام، إلى أن ذاع صيته وتمكن من الحصول على فرصة عمل بالعاصمة الإدارية ليكون الأول من ذوى الاحتياجات الخاصة هناك، يقول: «ناس كهربائية زمايلى كلموا مهندس فى العاصمة عليا، رحت عملت الاختبار وحطونى فيه 3 أيام بعدها طلعت كفاءة ومعاهم بقالى 7 شهور الحمد لله، بمسك الرسم الهندسى وبفهمه وبنفذه، ودورى هناك إنى أنور الأماكن اللى هيشتغلوا فيها فى حى الوزراء». لم يلجأ البطل لأحد طيلة عمله وكان يُعَلّم ذاته كل شيء: «أنا عارف إن مفيش واحد هيعلم معاق، فكنت بلقط معلومة من هنا وهنا لحد ما اتعلمت، ودلوقت اتعلمت جبسون بورد كمان، الناس مستغربة إزاى معاق ومعايا كمية الشغل دي، والناس السليمة معهاش الشغل ده، كل شوية يقولولى ارحم شوية خلينا نشتغل»، يقضى الشاب الثلاثينى 4 أيام متواصلة فى العاصمة الإدارية ثم يعود إلى منزله، معتبرًا أن أكبر إنجاز حققه هو مساعدة أسرته فى مصاريف المعيشة إضافة إلى شراء شقة خاصة به وتشطيبها استعدادًا للزواج: «عايش مع والدتى وإخواتى وأنا الكبير، شايل مصاريف البيت من بعد والدى الله يرحمه، نفسى شركتى تكبر وتبقى موجودة فى الواقع مش على النت، وفخور إنى المعاق الوحيد فى العاصمة الإدارية».

«محسن» نجار رغم «شلل الأطفال»

يقف داخل ورشته بمنطقة «بهتيم» التابعة لشبرا الخيمة، منهمكًا فى عمله، الأخشاب تغمر المكان رائحتها متناثرة فى كافة الأرجاء، دقت الساعة معلنة أنها السابعة مساءً وإذا بهاتفه يرن، لقد كان أحد زبائنه يطلب منه المجىء لأجل عمل، حاول «محسن فايز إسكندر» 42 عامًا، أن ينتهى مما يقوم به على عجالة ليذهب، ويعود إلى ورشته مرة أخرى للاستعداد إلى عمل اليوم التالي. خرج «محسن» من الصف الأول الإعدادى وقرر التفرغ إلى مهنة النجارة، حلمه الذى طالما تمناه، يقول: «عندى شلل أطفال فى الساق اليمنى، كنت غاوى النجارة، اتعلمتها فى ورشة قعدت فيها 10 سنين، علمهالى صنايعي، دايمًا كان بيقولى عينك اللى هتعلمك، اللى حابب الحاجة بيعملها، والحمد لله أحسن من غيرنا، كان حلمى أطلع نجار موبيليا، ومكنتش غاوى التعليم، عشان مهنة فيها فن وأداء، ونجار الموبيليا كل شغله على البنك». يستخدم الرجل الأربعينى «الصينية»، وهى إحدى معدات عمله، صنعها بذاته إضافة إلى «الصاروخ، والشنيور، والديسك، والأركيت»: «الصينية صنعتها بإيدى وجبت ليها ماتور 4 حصان»، مؤكدًا أن الصعوبة الوحيدة التى واجهته خلال عمله هى حمل الأشياء والسير بها وأيضَا تركيب الأبواب والشبابيك: «لو حد من جيرانى أو قصدت يشيل معايا محدش بيقولى لاء، مش بفضل شغل الباب والشباك لأنه عاوز مجهود، وأنط وأركب، بصنعها لكن مش بركبها»، قضى «محسن» 10 أعوام يعمل لدى أحد الصنايعية فى ورشة، حتى قرر الاستقلال بذاته بسبب أجره الضعيف: «لما مشيت من عنده كان معايا العدة بتاعتي، كنت بطلع شغل لوحدي، بس الماديات كانت ضعيفة أوى كنت باخد 100 جنيه فى الأسبوع، وآخر يومية خدتها قبل ما أمشى كانت 40 جنيه». بدأ رحلته فى البحث عن عمل بعدما ترك الورشة، التحق بإحدى شركات القطاع الخاص، عمل فيها لمدة 22 عامًا وانتهى عمله فيها بإصابة فى عينيه: «كنت فى قسم النجارة، جتلى إصابة عجز 60% فى عينى وإصابة فى إيدى الشمال، سويت معاش واتفرغت للورشة، والدى الله يرحمه فتحهالي، بعد ما هدينا البيت وبنيناه» مضت 12 عامًا على استقلال «محسن» بذاته فى الورشة، تعلم خلالها عمل «التابلوهات» كما يذهب إلى العمل فى أماكن نائية عنه مثل العاشر والحرفيين وغيرها، ويضيف: «بعمل تابلوهات عالى وواطى ودوران عادى ومسطرة لسماعات التوكتوك، بقيت ماشى مع السوق، وتابلوهات العربيات السوزوكى والدبابة والميكروباص وأشطبها، وخامات الشغل بجيبها من أماكن قريبة مني».

«سعيد» ميكانيكى المواقف الحرجة

لا يغلق ورشته أبدًا، يعمل كل يوم بلا كل وبلا ملل، كرس وقته وجهده لزبائنه، يذهب إليهم أينما كانوا، فيحمل عُدته على الموتوسيكل الخاص به ويذهب لتصليح أعطالهم على الطرقات، منذ نعومة أظفاره وهو يحلم بكل شيء، حرفة يتكئ عليها، وأسرة تؤنسه فى حياته. مضت السنوات، كان يحاول ويجتهد ويتحمل إلى أن حقق ما تمناه ذات يوم. ترك «عليوة يونس» المشهور بـ «سعيد العجلاتي» ابن الـ 43 عامًا التعليم فى الصف السادس الابتدائى وقرر الاتجاه إلى الحياة العملية، عمل فى عدة ورش إلى أن قرر أن يتخصص فى تصليح العجل والموتوسيكلات: «اخترت الحاجتين دول لإنى كنت بسوق عجلة زى السليم وببدل بيها وكانت بتكملنى فعلًا». عمل الرجل الأربعينى فى إحدى ورش تصنيع العجل، حتى أتقن تصليحها وعمره 13 عامًا، ثم تطرق بعدها إلى تصليح المكن الصيني(الموتوسيكل)، يقول: «والدى قالى كفاية كده وفتحلى الورشة، بفك المواتير واستخدم المكن والشاسيه، وبصلح التروسيكلات برضه، بستخدم المفاتيح والأجنة واللقم، كنت معتمد على ربنا ثم نفسي، لما بحس إنى تعبان بوقف الشغل وبطلع شقتي، لو جالى شغل حد مثلا مش بيعرف يمشى من غير مكنته ممكن أشتغل فيها وأخلصهاله على الفجرية»، لدى «سعيد» 4 أبناء أكبرهم طالبة بالثانوية العامة، عمل معه بالورشة العديد من الأشخاص العاديين لكنه لم يستمر معهم: «شغلت معايا صنايعية سليمة بس منفعش، محدش كان عاجبه الشغل ومعندهمش طولة بال، كله عاوز حاجة خفيفة، لكن ويوطى تحت مكن أو يشد جنزير ويفك فردة كاوتش محدش كان حابب ده». أعظم عمل يقوم به عليوة الآن هو تعليم أبنائه، الشيء الذى دفعه إلى الاجتهاد فى عمله ليوفر لهم حياة كريمة، ويضيف: «أنا خدام لقمة عيشي، طالما ربنا كارمنى بالحلال ومحدش بيخبط ليا على باب، ناس كانت بتستغرب إزاى رجلى فيها إعاقة وشغال ميكانيكي، قالولى اركب توك توك ولا شوف شغلانة مريحة، بس أنا مرتاح وبحقق اللى أنا عاوزه، وبتمنى عيالى يتعلموا بشهاداتهم أحسن من بهدلة الشغل، كل الشغل بيجيلى هنا فى الورشة، لو حد مكنته عطلت فى أى مكان أشد العدة وأروحله، وفى ناس عطلت فى التجمع الخامس وروحت ليها وأماكن تانية بعيدة،  لإنى مينفعش أخسرهم وهما فى موقف صعب زى ده».