السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

أهل الصبر.. والبحر!

أهل الصبر.. والبحر!
أهل الصبر.. والبحر!


بامتداد شط إسكندرية وغيره من المدن الساحلية، لا ترى أعينهم إلا البحر.. يناجونه بهمومهم وأحلامهم وأمنياتهم.. يتوافدون عليه يوميًا، الملل لا يعرف طريقًا إلى نفوسهم.

يتناثرون على ضفاف البحر مع إشراقة شمس كل يوم، حتى ساعات متأخرة من الليل، يتنقلون بمهارة وحذر فوق الصخورالعائمة، يرمون خيوط صنارتهم فتغوص فى مياه البحر، تبحث عن الأسماك الجائعة التى تتقاذفها الأمواج.. فصيد الأسماك من أبرز الهوايات التى يستمتع بها ويتقنها أهالى الإسكندرية، وبعضهم خاصة من عشاق البحر اتخدها مهنة له، ومصدر رزق، يجدون متعتهم فى النظر إلى البحر وانتظار خروج الخير منه معلقًا فى فخ الصنارة.
الفرحة والابتسامة التى تعلو  وجه الواحد منهم مع خروج كل سمكة، تشعرك كأنه طفل صغير، يقضون ساعات طويلة من النهار أو الليل أمام الشاطئ،  غير مبالين بما يدور خلفهم فى أمور الحياة لا يشعرون بمرور الوقت، كلما ملوا من الوقوف يجلسون على مقاعد خشبية صغيرة أحضروها معهم.
الهواة من الصيادين يفصل بين عالمهم الساكن والعالم الآخر الصاخب سور كورنيش الإسكندررية، يهربون من صخب الحياة إلى البحر.. الصنارة سلاحهم الوحيد للانفصال عن الواقع وما فيه من تناقضات وحكايات مأسوية أحيانًا.
«رنا حسين» فتاة فى الرابعة والعشرين من عمرها تجلس بمفردها على صخور مصدات بحر الإسكندررية ترتدى قبعة تشبه قبعات الصيادين، تمسك فى يدها صنارة تلتقط من خيطها سمكة وقعت بفخ الطعم، تبتسم كلما نجحت فى اصطياد سمكة وفى كل مرة تلتقط سمكة تفرح وكأنها سمكتها الأولى.
رنا إحدى هاويات الصيد من بحر الإسكندررية، تقول: «ورثت الصيد من والدى الذى كان من أشهر هواة الصيد فى الإسكندرية».. وحرص على نقل حبه للصيد لها وعلمها منذ صغرها أصوله وكان يحرص على اصطحابها معه فى جميع رحلات الصيد.
على درب الأحبة
بدأت رنا رحلتها فى الصيد بمفردها منذ عام، بعدما تُوفىّ والدها.. حيث كان لها البحر الملجأ  الوحيد لذكرياتها مع والدها، وتشعر وهى تجلس أمامه أن والدها لا يزال بجانبها، وكلما شعرت بالحنين إليه.. تقصد البحر: «فى أحد الأيام سألنى صياد عن ترددى المستمر والجلوس على مصدات البحر وأنا أنظر للصيادين قائلا لي: إنت بتدورى على حاجة... فكان ردى عليه أننى أفتقد والدى الصائد الهاوى المحب البحر فنصحها الصياد بأن تكمل مسيرته».
تقول رنا: «سرعان ما بدأت فى تنفيذ نصيحته، وفى صباح اليوم التالى أخذت صنارتى التى كانت إحدى هدايا والدى، وارتديت أحد قمصانه وقبعته التى دائمًا ما كان يرتديها فى يوم الصيد واتجهت للبحر بمنطقة سبورتنج.. وكان ذلك أول يوم صيد بدون والدى، ونجحت فى صيد الكثير من السمك.. بعدها بأكثر من ساعة جلس إلى جوارى رجل خمسينى وفرح عندما وجد أن هناك فتاة عشرينية تصطاد، وفوجئ من قدرتى على اصطياد هذا الكم من السمك»..واستغرقت رحلتها فى أول يوم صيد 6 ساعات متواصلة.. أحست وقتها أن الرجل الذى جلس إلى جوارها وتحدثت معه رسالة من أبيها لإكمال طريقه ودعمها فى الصيد.
تذهب رنا للصيد مرتين  فى الأسبوع، تحرص فى كل مرة على الاستيقاظ فى الصباح الباكر، وتصل إلى البحر فى حوالى السابعة صباحًا، ولا تستطيع تحديد وقت معين للعودة أو الانتهاء من الصيد،  حيث تعود لمنزلها عندما تشعر أنها حققت رغبتها من صيد الأسماك، فهى لا تسعى لمكسب من وراء عشقها الصيد، ولا تبيع ما تصطاده، بل تعود لبيتها وتبدأ فى تنظيفه وطهيه.
منذ بدأت رحلتها المنفردة فى الصيد قبل نحو عام، تعرفت رنا على العديد من الصيادين، من مختلف الأعمار يجمعهم حب الصيد والبحر، تقول: « أغلب الهواة فوق الـ50 عامًا وقليلًا ما يصادف أن تقابل صيادين فى عمر العشرين»، موضحة أنها لم تنشر الفكرة بين أصدقائها أو أقاربها، حتى تواصل العيش فى الهدوء والسكينة، فالصيد يحتاج لصبر «ومبيحبش الصحاب لأنك بتروحى تصطادى علشان هربانة من اللى حواليكي، الصيد بيحب الهدوء وصوت المزيكا ولو مفيش فصوت البحر كفاية، الصيد مبيحبش الكلام وكفاية لمة الصيادين وشكل الشط  وكل واحد ماسك صنارته وعايش فى ملكوته».
وعن والدها تحكى رنا قائلة: «الصيد بالنسبة لبابا مكنش مجرد موهبة أو هواية بيحبها، كان الصيد زى الطاقة إلى بتشحنه عشان يقدر يكمل أو الحاجة إلى بتفصله وتنسيه أى حاجة مر بيها، وكان غالبا بينزل يصطاد كل يوم وممكن يبات برا لمجرد إنه بيسافر عشان يصطاد، كان بينزل كل يوم الساعة 3 الفجر وأصحابه فى الصيد بيتجمعوا تحت البيت عندنا ويروحوا البحر سوا، وكان كل يوم بيرجعلنا بسمك كتير وأشكال وأنواع جديدة علينا».
الصيد أصبح يسبب لرنا حالة من السعادة تغمرها، مع الصبر فالوقت يمر مع صوت أم كلثوم أو محمد عبدالوهاب وفيروز مع فرحة أول سمكة تلتقطها الصنارة.
غرام وفسحة
أما محمد ونور..  زوجان فى الثلاثين من عمرهما، يحرصان على الذهاب للصيد فى أيام عطلتهما الجمعة والسبت فى كل أسبوع، تقول نور: «فى البداية كان يذهب زوجها للصيد فى فترات متباعدة وقررت أن تشاركه وتذهب معه فقط لكى تجلس على شاطئ البحر، وعندما رأت أول سمكة وهو يلتقطها من الصنارة طلبت منه أن يعلمها كيف تصطاد وتخوض تجربة الصيد وبالفعل بدأ فى تعليمها وبدأت فى الصيد.. بمشاركته فى نفس الصنارة عندما تذهب معه إلى الشاطئ».
بعد فترة حرص محمد على شراء صنارة خاصة لزوجته نور، وأصبح يوم الجمعة والسبت يوم العطلة والصيد لهما: «إحنا بنحرص على الخروج للصيد كل أسبوع منذ ما يزيد على العام وبلاقى نفسى السيدة الوحيدة التى تصطاد على شط البحر».. ومع مرور الوقت أصبحت فتيات كثيرات يقصدن البحر للصيد والاستمتاع ومنهن من وجدت فيه وسيلة لكسب الرزق.
فى صحبة «القطط»
ممدوح زيدان رجل فى الـ 67 من عمره، حرص على تخصيص يومى الجمعة والأحد من كل أسبوع وهما عطلته من العمل من أجل الصيد، حيث بدأ فى عشق  الصيد منذ 20 عامًا، وقتها لم تكن هوايته وبدأها بدافع الفضول،  إلا أنها  تحولت إلى أكثر الهوايات التى تدخل السعادة إلى قلبه، يقول: «أذهب دائمًا للصيد بعد صلاة الفجر وأستمر فيه إلى وقت العصر ودائمًا ما أتردد على منطقة بحرى للصيد،  وتعرفت على كثير من الصيادين ولكن كانوا دائمًا رجالًا من أصحاب المعاشات ونادرًا ما كنت أرى شابًا بينهم».
وأضاف: إن من أفضل أوقات الصيد صباحًا عندما يكون البحر هادئًا من دون أمواج، مؤكدًا أن أولاده وزوجته من مُحبى السمك الذى يصطاده وأنهم دائمًا يشجعونه وأحيانًا يحرص على اصطحاب أحفاده معه لتعليمهم الصيد والصبر، فحفيده الأكبر يستمتع بالصيد معه كثيرًا، وكثيرًا ما يفكر فى ترك مهنته للتفرغ لاصطياد وبيع السمك، فالصيد دائمًا يسعد روحه ولا يسبب له أى ضيق أو حزن، والنظر لموج البحر يخفف عنه همومه، موضحًا أنه يأخذ معه للصيد صندوقًا به ثلج وصنارته وحقيبة الطعم وراديو صغير، وأكثر من جاوروه فى صيده وشاركوه الصبر «القطط» منتظرة السمك الذى يصطاده.