الخميس 16 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

تركيا الصغرى!

تركيا  الصغرى!
تركيا الصغرى!


تزامنًا مع بدء الاحتفال بذكرى قيام الجمهورية التركية، أطلق الرئيس رجب طيب أردوغان تصريحاته المثيرة للجدل حول ما أسماه بـ«النهضة الجديدة» التى أعلن فيها أن المرحلة المقبلة هى مرحلة تحقيق مبدأ «تركيا الكبرى»، وأن هذا المبدأ، وإن كان ذا بعد جغرافى، إلا أنه لا يحمل بالضرورة طابعًا توسعيًا.

هذه الرغبة فى تدشين «تركيا الكبرى»، وبعيدًا عن مبالغات أردوغان ودراويشه، تكشف بوضوح عن تراجع حاد فى طموح خليفة الإخوان ومجموعته التى أطلقت على نفسها سابقًا اسم «العثمانيين الجدد»، بعدما فشل مشروعها الضخم فى الهيمنة على المنطقة عبر تفكيك دولها باضطرابات الربيع العربى.
وإذا كان المشروع الأول للهيمنة الإخوانية، الذى فشل على أعتاب القاهرة مفهومًا من حيث طبيعته ومداه فى ضوء أدبيات حركات الإسلام السياسى وخبرة السنوات الماضية، فإن المشروع الجديد يحتاج إلى مزيد من التوضيح حول أطره وملامحه وأوجه اختلافه عن سابقه.
أهداف مشروع الخلافة..
 هكذا تحدث هانتنجتون
بداية مشروع الرئيس التركى وأحلامه فى تأسيس الخلافة العثمانية الجديدة - التى تقلصت مؤخرًا إلى تركيا الكبرى- لم تبدأ كما يعتقد البعض فى دروب أنقرة واسطنبول ولا كانت مشروعًا إخوانيًا خالصًا، بل ظهرت ملامحها لأول مرة وبشكل واضح عام 1995 فى كتاب «صدام الحضارات» للمفكر الاستراتيجى الأمريكى صامويل هانتنجتون.
فى فصله المعنون باسم «دول المركز والنظام الحضارى» وتحت عنوان فرعى: «الإسلام.. وعى دون تماسك»، تناول المفكر والسياسى الأمريكى جميع الدول الإسلامية الكبرى عبر بيان نقاط ضعف كل منها، ليوضح عدم قدرة أى منها على التحول لدول مركز وقطب أعظم فى العالم الإسلامى، على غرار الولايات المتحدة فى العالم الغربى وروسيا فى عالمها الأرثوذكسى والصين والهند كلٌ فى عالمها.
وفى الفقرة الخاصة بالدولة التركية، لم يكتف هانتنجتون بمجرد توجيه الانتقادات وبيان أوجه ضعفها التى تحول دون قيادتها للعالم الإسلامى كما فعل مع الآخرين، بل أفرد لهذه الدولة - ولهذه الدولة وحدها - سطورًا خاصة من كتابه شرح فيها بوضوح كيف يمكن لتركيا تصحيح نقاط ضعفها والعمل على قيادة العالم الإسلامى وفق خطة عمل قابلة للتطبيق.
وفى ختام شرحه لهذه الخطة، كتب هانتنجتون: «مادامت تركيا سوف تستمر فى تعريف نفسها كدولة علمانية فلن تكون لها زعامة الإسلام، ولكن ماذا لو أعادت تركيا تعريف نفسها؟.. عند نقطة ما يمكن أن تكون تركيا مستعدة للتخلى عن دورها المحبط والمهين كمتسول يستجدى عضوية نادى الغرب واستئناف دورها التاريخى الأكثر تأثيرًا ورقيًّا كمحاور رئيسى باسم الإسلام وخصم للغرب».
ويضيف المفكر الأمريكى: «من المتصور أن تقلد تركيا جنوب إفريقيا كأن تتخلى عن العلمانية كشىء غريب عن وجودها كما تخلت جنوب إفريقيا عن الاضطهاد، وبالتالى تحول نفسها من دولة منبوذة فى حضارتها إلى دولة زعيمة لها».
ويكمل: «لكنها لكى تفعل ذلك لابد أن تتخلى عن تراث أتاتورك وعلى نحو أشمل مما تخلت به روسيا عن تراث لينين، كما أن عليها أيضًا أن تجد زعيمًا بحجم أتاتورك يجمع بين الدين والشرعية السياسية ليعيد بناء تركيا وتحويلها من دولة ممزقة إلى دولة مركز».
الخطة التى دشنها هانتنجتون فى سطور كتابه منتصف تسعينيات القرن الماضى، تضمنت أيضًا عمل تركيا على إعادة اتصالها التدريجى بالعالم العربى، وإطلاق إصلاحات تتجاوز السياق العلمانى التقليدى، وإعادة تعريف هويتها وصبغتها الإسلامية، فى إطار برنامج عمل متكامل.
وسرعان ما تلقف الإخوان الأتراك هذه الخطة وفى عام 2001 أعادوا صياغتها بالتفصيل فى كتاب «العمق الاستراتيجى.. موقع تركيا ودورها فى الساحة الدولية» للكاتب والسياسى الإخوانى أحمد داود أوغلو.
وخلال فترة قصيرة للغاية من إطلاق المشروع النظرى، دشن رجب طيب أردوغان نفسه كزعيم عملى لهذا التيار الذى أعاد انتشاره بهدوء تدريجى فيما عرف وقتها بسياسة «صفر- مشاكل»، تمهيدًا لاستيلائه على زمام الأمور فى المناطق التى انضوت قديما تحت لواء الخلافة العثمانية وامتدت فى نطاقها الإقليمى من حدود المغرب حتى العراق.
وفى السنوات الأولى من انطلاق البرنامج حقق المشروع الإخوانى زخمًا كبيرًا لما صاحبه من رضا دولى واسع، واستثمارات أوروبية وأمريكية هائلة تدفقت على تركيا نظير امتيازات لم يكن ممكنًا الحصول عليها من قبل، حتى فى ظل حكم النخب العلمانية والقومية التى حكمت الدولة قبل ذلك.
الزخم الأكبر إذا كان اقتصاديًا، بعدما دشن المشروع نجاحه على أكتاف الآخرين، مستغلاً فى ذلك تضحيات الحكومات التركية المتعاقبة فى التسعينيات بشعبيتها من أجل تنفيذ إصلاحات صعبة تماثل ما تطبقه الدولة المصرية حاليًا.
 فيما ورثت الحكومة الإخوانية جهد سابقيها عبر مزايدات انتخابية مكنت حزبها من القفز على السلطة فى المرحلة الأخيرة من تطبيق برنامج الإصلاحات، ما ساعدها على جنى مكاسب اقتصادية هائلة فى فترة وجيزة دون جهد يذكر.
هذا الزخم سرعان ما نبتت ثماره على هيئة «دراويش السلطان» الذين كشفوا عن أنفسهم بشكل كامل أثناء اضطرابات الربيع العربى مع اعتقادهم أن خطة تدشين الخلافة الإخوانية ماضية فى طريقها، وأن العام 2024 سيشهد قيام دولة إخوانية كاملة تحت الهيمنة التركية الشاملة فى ذكرى مرور 100 عام على انهيار سابقتها العثمانية.
لكن.. بعد عامين ونصف من الثورات والاقتتال الأهلى فى المنطقة العربية، ورغم استعدادات المشروع الإخوانى لالتهام باقى دولها، خاصة ليبيا وتونس واليمن ثم الأردن ودول الخليج العربى، مثلت ثورة 30 يونيو صدعًا هائلاً فى جدار المشروع بعدما خسر بالضربة القاضية فى واحدة من ميادينه العظمى.
وأعادت الثورة مصر «الجائزة الكبرى» إلى أحضان شعبها وجيشها من جديد، ضاربة عرض الحائط بالخطط والمؤامرات الدولية الهادفة إلى إعادتها للحظيرة التركية كدولة «تابع» لا وطنا مستقلا ذا إرادة.
بالمثل، حقق الصمود السورى المدعوم من الحليفين الروسى والإيرانى كابوسًا آخر لأردوغان وأعوانه، بعدما تبين أن دمشق أكبر من أوهام الإخوان، ما مثل الضربة الثانية للمشروع الكبير الهادف للسيطرة على المنطقة برمتها، وتسبب فى دخول القوات العسكرية التركية لحسم الصراع على الأرض لصالح خطتها بدلا من إدارته عن بعد.
الضربة الثالثة واجهها المشروع الإخوانى التركى فى الجانب الاقتصادى، بعدما حلت مواعيد سداد فواتير التمويل الضخمة التى أغدقها أردوغان على عملائه وطابوره الخامس طيلة السنوات الماضية من أجل الترويج لمشروعه فى وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل والقتال لصالحه أيضًا إذا دعت الحاجة لذلك.
من الهيمنة الإقليمية إلى التوسع المحدود
الضربات الثلاث الكبرى التى واجهها مشروع الإخوان بقيادة أردوغان فى المنطقة، بالإضافة إلى غيرها من التطورات الدولية مثل خسارة الحليف الديموقراطى فى البيت الأبيض بمجىء الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى سدة الحكم، تسببت – رغمًا عن الرئيس التركى ودراويشه - فى إجراء مراجعات فعالة لمشروعه على الأرض، فى ظل صعوبة تنفيذه التى أصبحت تقترب من الاستحالة.
وبعد ثبوت الخسارة التركية فى مصر وسوريا وتأرجحها فى ليبيا وتونس واليمن، وفشلها فى الهيمنة العملية على الإمارات والكويت والأردن المملكة العربية السعودية - رغم محاولات الابتزاز القائمة حاليًا- قرر أردوغان منذ صيف 2016 الذى شهد إطلاق عملية «درع الفرات» الاكتفاء بتثبيت قدميه فى المناطق الحدودية فى سوريا والعراق، بحثًا عن تحقيق مكسب محدود هو بالتأكيد أفضل من لا شىء.
وفى إطار تخليه عن الحلم الإخوانى المصبوغ بصبغة دينية، استبدل أردوغان مشروعه الطموح بآخر ذى صبغة قومية، وروج «دراويشه» منذ فترة خاصة فى الداخل عن حلمه الجديد المسمى بـ «تركيا الكبرى»، رابطين إياه بمعاهدة «لوزان الثانية» التى رسمت الحدود الحالية للدولة التركية فى طور ما بعد انهيار الخلافة عام 1923.
ولأن «الدولة التى لا تنمو.. تموت» كما أصّل لذلك أنصار النظريات الشمولية والنازية فى علم «الجيوبولتيك» فى ثلاثينيات القرن العشرين، يبحث أردوغان حاليًا عن تمدد حدودى ملموس على حساب العراق المضطربة والمحتلة إيرانيًا بشكل عملى وسوريا الجريحة بعد سنوات الحرب الداخلية، بما يسمح له بإعلان انتصاره– حتى لو كان فى شكل ونمط يختلف عن مشروعه القديم الذى دشنه فى سنوات صعوده.
وفى إطار العمليات العسكرية التركية فى المناطق الشمالية للعراق وسوريا، والتصعيد الاستفزازى فى المياه الإقليمية لليونان وقبرص فى شرق المتوسط، يمكن فهم أبعاد الخريطة الجديدة كما تدور فى ذهن أردوغان، الباحث عن فرض هيمنته على محافظتى الموصل العراقية وحلب وإدلب السوريتين، لأهميتهما الاستراتيجية، بالإضافة إلى الاستيلاء على مكامن الغاز المرتقبة فى مياه المتوسط.
 ليس صحيحًا إذا أن المشروع الجديد لـ «تركيا الكبرى»، والمنتظر تدشينه عام 2023 فى الذكرى المئوية لمعاهدة «لوزان الثانية» لن يكون ذا بعد توسعى، فالحقيقة التى يمكن لمسها فى شمال العراق وسوريا والمناطق الاقتصادية لقبرص واليونان تؤكد أن القدم الثقيلة للأتراك حاضرة بقوة وأنها موجودة بكامل تسليحها العسكرى خارج حدود الدولة التركية.
أنقرة تخطط إذا لرسم خارطتها الجديدة على حساب المناطق التى تعتقد أنها خسرتها خطأ فى معاهدة 1923، على حساب المناطق الشمالية من الهلال الخصيب، والمناطق الاقتصادية فى شرق المتوسط لترسم بذلك حدود «تركيا الكبرى» الجديدة.
وإذا كانت هذه ملامح «تركيا الكبرى» التى يبشر بها أردوغان فهى بالتأكيد ستجعل تركيا أكبر كثيرًا مما هى عليه حاليًا، إلا أنها فى الوقت ذاته ستكون أصغر كثيرًا من حدود الإمبراطورية العثمانية التى بشر بها دراويش السلطان لعدة سنوات وعملوا على تأسيسها على حساب دول المنطقة.
والسؤال هنا: هل يستطيع الزعيم الإخوانى - فى ظل الرضا الدولى عنه بعد اتجاره بقضية خاشقجى على حساب المملكة السعودية ورضوخه لإملاءات الرئيس الأمريكى فى قضية القس أندرو برانسون- أن يضم إلى دولته فى السنوات المقبلة ما كان يسمى قديما بـ «إيالة الموصل» و«إيالة حلب» أم إن دمشق وبغداد سيكون لهما رأى آخر فى ظل التقارب الروسى مع الأولى والنفوذ الإيرنى فى الثانية؟
وهل سيصمت الغرب مرة أخرى على عبثه فى مياه المتوسط فى إطار الخوف المستمر من طوفان اللاجئين واضطرابات الإسلاميين فى القارة العجوز أم سينجح التحالف الثلاثى بين قبرص واليونان ومصر فى ردع مغامرة أردوغان الجديدة؟
وأخيرًا.. هل بإمكان أردوغان النجاة بفعلته هذه المرة فى ظل تقلص حجمها أم سيكون مصير مشروعه الجديد الأقل طموحًا مثل مصير سابقه الذى فشل تماما بعد نشر الخراب فى عموم المنطقة؟