«دوتيريتى».. الرئيس المؤمن!
منى بكر
«إن الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق» هكذا يقول أقطاب الصوفية، أى أن فهم البشر وتصوراتهم عن الخالق تتباين من شخص لآخر كل حسب تجربته فى الحياة والتكوين المعرفى الذى بناه لنفسه، ويقول الإمام الغزالى فى كتاب «روض الطالبين»: «معنى الوصول هو الرؤية والمشاهدة بسر القلب فى الدنيا، وبعين الرأس فى الآخرة، فليس معنى الوصول اتصال الذات بالذات، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا».
من هذه الزاوية يمكن اعتبار الرئيس الفلبينى «رودريجو دوتيريتى» مؤمنًا، فهو رغم هجومه على الذات الإلهية وقوله إنه سيتقدم باستقالته إذا ما نجح أى شخص فى إقناعه بوجود الله، لم يكن يقصد الله فى المطلق وإنما كان يقصد التصور السائد عن «الله» فى بلاده وأغلبهم من المسيحيين الكاثوليك ثم عاد واعتذر عن تصريحاته فيما بعد.
أزعج «رودريجو دوتيريتى» بتصريحاته الكثيرين داخل الفلبين وخارجها بالطبع، فالرئيس البالغ من العمر 73 عامًا شن هجومًا خلال أحد خطاباته على الكنيسة الكاثوليكية وأتباعها وطلب من معتنقى المسيحية فى بلاده أن يثبتوا له وجود إله من خلال صورة «سيلفى» معه، وتمادى وهو المعروف بعدائه للكنيسة الكاثوليكية، مطالبًا أى شخص يستطيع الصعود إلى الجنة والحديث مع الله أن يثبت له ذلك وسوف يترك منصبه فورًا.
جاء هجوم الرئيس الفلبينى على الكنيسة شرسا، بسبب جمعها تبرعات من المنتمين اليها قائلًا :«إذا كنتم حقًا تساعدون الناس فلماذا تطلبون منهم المال؟»
وعلى الرغم من الضجة التى أثيرت حول التصريحات الأخيرة، إلا أنها ليست المرة الأولى التى يتحدث فيها «دوتيريتى» فى مثل هذه الأمور الشائكة بمنتهى البساطة وربما تكون هذه المرة أقل وطأة من سابقتها، فقد جاءت تصريحاته السابقة منذ عدة أسابيع لتصدم أبناء الكنيسة الكاثوليكية فى الفلبين والذين يمثلون 81 % من إجمالى سكان البلاد، إذ تطاول على الذات الإلهية وسبها بألفاظ بذيئة بل شكك فى وجود الجنة والنار وغيرها من مفاهيم الدين المسيحى.
عندما رفضت جماعات مسيحية بالفلبين تصريحات الرئيس وطالبوه بضرورة الاعتذار كان رده بأن ذلك لن يحدث «ولو بعد مليون سنة» وقد كان لتصريحات «دوتيريتى» أثرًا سلبيًا على علاقاته الخارجية فقد أدت إلى عزلته داخليًا وخارجيًا.
حقيقة معتقداته الدينية أوضحها «دوتيريتى» عندما قال إنه يؤمن بالله مضيفًا «لكنه إلهى أنا الذى آمنت به بناء على الدروس التى تعلمتها من الحياه الصعبة»، ويذكر أن الرئيس الفلبينى نشأ فى أسرة كاثوليكية وظل متمسكًا بفكرة أنه يؤمن بوجود الله لكنه لا يؤمن بالأديان حتى جاء التصريح الأخير ليثير الجدل حول موقفه الدينى مرة أخرى.
دائما ما يكون التندر فى حالة عداء شخص ما لفكرة عن طريق استدعاء تهمة جاهزة بأن أحدا من أتباع هذه الفكرة قد اغتصب الشخص المعادى للفكرة عندما كان صغيرا لكن فى حالة الرئيس الفلبينى فالأمر لا يقف عند حد النكتة.
كان «دوتيريتى» قد اتهم أحد قساوسة الكنيسة الكاثوليكية بالتحرش به عندما كان طفلًا وعندما واجهته الكنيسة بضرورة ذكر اسم المعتدى إذا كان صادقًا وإقامة دعوى قضائية ضده، اضطر «دوتيريتى» إلى الاعتراف باسم القسيس وهو «مارك فلافى»، وقد ثبت بالفعل قيام الرجل بالتحرش بتسعة أطفال فى وقت سابق، «دوتيريتى» أشار إلى أنه لم يستطع الاعتراف فى الماضى بما تعرض له من اعتداء بسبب صغر سنه.
يذكر أن «دوتيريتى» دعا إلى تحديد النسل منذ توليه الحكم إلى جانب دفاعه عن حقوق الشواذ وهى أمور تعترض عليها الكنيسة وترفضها، لكن يبدو أن «دوتيريتى» أراد الدخول فى مواجهة معها منذ بداية حكمه. هذا فضلًا عن قراره إعادة أحكام الإعدام مجددًا فى الفلبين وهو ما كان الرئيس الفلبينى السابق «جلوريا ارويو»، المعروفة بولائها لشديد للكنيسة الكاثوليكية، قد ألغته عام 2006.
لكن دوتيريتى أرادها حربًا مع الكنيسة منذ البداية سواء فى قراراته المخالفة لتعليمات الكنيسة أو فى تصريحاته العدائية بل المهينة لها حتى إنه، فور توليه الحكم، وصف القساوسة المحليين بـ«أبناء العاهرات».. وهو نفس الوصف الذى استخدمه فى إشارة إلى بابا الفاتيكان معترضًا على الزحام الشديد الذى تسببت فيه زيارة البابا للفلبين فى يناير عام 2015. لكنه اعتذر عن إهانة البابا مؤكدًا أنه كان يقصد انتقاد أسلوب الحكومة فى التعامل مع أزمة المرور يوم الزيارة.
بخلاف موقفه العقائدى فإن دوتيريتى اشتهر بأدائه الغريب والعدوانى كرئيس دولة حيث قرر أن يقضى على تجار المخدرات من خلال قتلهم وليس تقديمهم للمحاكمة وشبه نفسه بـ«هتلر» الذى قتل مئات اليهود مشيرًا إلى أنه سيقتل عدة آلاف من المجرمين مثلما قتل هتلر اليهود.
وفى مارس الماضى قرر «دوتيريتى» انسحاب بلاده من «المحكمة الجنائية الدولية» متهمًا إياها بمحاولة تصويره وكأنه حاكم ظالم بلا قلب يخرق قوانين حقوق الإنسان ويقتل الآلاف دون محاكمات وخارج إطار القانون، وقد وصف محامو حقوق الإنسان الانسحاب بأنه موقف جبان. جاء ذلك فى أعقاب قيام محامى فلبينى بإقامة دعوى قضائية ضد الرئيس فى المحكمة الجنائية الدولية واتهمه بأنه مجرم حرب.
كانت الحملة الدموية التى شنها «دوتيريتى» على تجار المخدرات قد أثارت استياء مسئولى الأمم المتحدة وانتقادهم حتى إن المفوض السامى لحقوق الإنسان «زيد رعد الحسين» صرح بأن الرئيس الفلبينى بحاجة للعرض على طبيب نفسى. ويبدو أن الرئيس الفلبينى يحتاج بالفعل إلى طبيب نفسى بسبب ما تعرض له فى صغره من اعتداء جنسى ربما يكون سببًا رئيسيًا فى كرهه لرجال الكنيسة الكاثوليكية جميعًا وللكنيسة نفسها وفقده لإيمانه بمعتقدات دينية كان يؤمن بها فى الماضى.







