«تحت الربع» قلعة صناعة الفوانيس المصرية!

هدي منصور
على بعد خطوات معدودة من «باب زويلة» الشهير فى مصر القديمة، تستقبلك حارة «تحت الربع»، أحد شوارع منطقة الدرب الأحمر، يرجع تاريخها إلى قاهرة جوهر الصقلى عام 358 هجرية، تميزت بطابع أثرى خاص واشتهرت بالحرف والتجارة من بينها صناعة الفانوس المصري.. تجار الحارة وصناعها يواصلون للعام الرابع على التوالى رفع شعار «المصرى يكسب» بعد أن أصبحت الأسواق مفتوحة لمنتجاتهم بنسبة 100 %، بعد قرار وزارة التجارة والصناعة بوقف استيراد فانوس رمضان من كافة دول العالم والاعتماد على الصناعة المحلية اعتباراً من 5 إبريل 2015.
بأصوات مرتفعة استقبلنا الصناع وصغار الحرفيين «قرب قرب المصرى هو الأصل»، فى موسم العيد الرسمى لفانوس رمضان، فالحارة تعلق الفرحة بجوار الزينة المتنوعة من الخيامية ومن الورق والأقمشة، وسط تلك البهجة كانت أول تفاصيل الحارة التى تستقبل الزوار بحفاوة هى أشكال الزينة المتنوعة التى يقف عشرات الأطفال فى الشارع لعرضها على الزوار القادمين، «خيامية، محمد صلاح، شكوكو، بوجى وطمطم، بابا شكشك».. كانت تلك كلمات الطفل حمادة الصغير الذى لم يتجاوز عمره العشر سنوات، فرغم أنه يجلس على ماكينة وملابسه ممزوجة بتفاصيل المعدن وألوان التصنيع ويداه لا تختلف كثيراً عن شكل خامة الحديد الذى يصنع منه هيكل الفانوس، إلا أنه ينادى على الزوار ببهجة كبيرة.
اقتربنا من «حمادة» للحديث معه فملامح الخبرة تطغى على عمره الصغير، قال: حضرت لمساندة شقيقى الكبير فى التصنيع من كثرة الطلب، أشاركه فى العمل من منتصف شهر شعبان وحتى الأسبوع الأول من رمضان، لأنها الفترة الأكثر ضغطا على السوق هنا، فقد تخصصت أسرتى فى تصنيع فانوس الخيامية الذى تبدأ أسعاره من 20 جنيها حسب الحجم، ويوجد مثلى عشرات الأطفال فى السوق لمساندة أسرهم وتعلم المهنة.
ودون توقف عن العمل والضغط على الحديد لتطويعه بالماكينة، يضيف «حمادة»: أعمل مع أخى منذ الساعة التاسعة فى الصباح الباكر حتى نهاية اليوم، وننتج أكثر من 300 فانوس خيامية بأحجامه، لكن شقيقى يبدأ تصنيع الفانوس لضخه إلى الأسواق الكبيرة بعد العيد الكبير مباشرة والجميع أيضاً يصنع بعد العيد الكبير حتى استقبال شهر رمضان، فالطلبيات كثيرة والسوق يعتمد علينا.
اقترب شقيق حمادة الأكبر ليطلب منه عشرة هياكل لفانوس الخيامية سريعاً، وبسؤاله عن تفاصيل الموسم الحالى لتصنيع الفانوس، قال أحمد مصطفي، جميع الورش الموجودة فى الشارع يعمل فيها أحفاد وأبناء الصناع الكبار السابقين فالمهنة متوارثة منذ بداية القرن التاسع عشر، ويعرفنا جميع زوارنا، ويحضر لنا التاجر المصرى والعربى والسياح الأجانب، نعمل فى تلك الفترة ليلاً ونهاراً حتى فى منازلنا لتوفير الفانوس، فالحارة تعج يومياً بآلاف الزوار وجميعهم حاضرون للشراء والاطلاع على أحدث التفاصيل التى قمنا بضمها للفانوس، وموضة الفانوس المصرى هذا العام الخيامية فى المقدمة والصاج معروف وله زواره، لكن الخيامية أسعاره فى متناول الجيمع.. ويفتخر حمادة بصناعته مشيراً إلى أن تصنيع الفانوس لا يحتاج معه من الوقت سوى عشر دقائق فقط ويكون فى يد الزبون.
وبجوار حمادة وشقيقه أحمد، أخذ ينادى «على صفوت» على المارة بالنظر على محتويات محله الصغير المليء بأشكال الزينة قائلاً: هنا محمد صلاح بـ10 جنيهات بس، وشكوكو كمان موضة وبوجى وطمطم لسه موجودين وبابا شكشك زمان لسه موجود فى «حارة تحت الربع»، وكله بـ10 جنيه، وبسؤاله عن حركة البيع والشراء والجديد من أدوات الزينة أكد على أن الزينة صناعة مصرية من الخيامية وعرق الشقيانين والزوار دائمين.. لذلك فى نهاية اليوم أستطيع بيع ما يقرب من 500 قطعة زينة ومحمد صلاح هذا العام فى المقدمة وشكوكو، وفرع النور وفرع الخيامية من القماش بـ25 جنيها والصناعة مصرية بعد ما اختفى الصيني.
كبار الصناع:
بعد عرض مفروشات ومحلات الزينة المتنوعة فى الشارع، ظهرت أحجام ضخمة للفانوس الصاج وأحجام متنوعة تؤكد أن السوق بها صناع محترفون للفانوس دون منافس، وهنا سألنا أحد أصحاب الفروشات الضخمة، فقال أحمد الأبيض، المكان هنا عبارة عن عائلات لا يزيد عددها على 5 وهى المتحكمة فى جميع الأسواق داخل وخارج مصر للفانوس المصرى المعروف بالفانوس الصاج، ونفتخر بتلك الصناعة لأن أسرارها بين أيدينا، وأنا أحد أبناء العائلات الشهيرة بالتصنيع، وحجم الفوانيس التى نقوم بتصنيعها 2000 قطعة فى الموسم ومعنا أكثر من 50 عاملا فى الورش، والمنتج معروف بأنه صناعة مصرية دون وضع كتابة عليه للتأكيد على الهوية.
ووصف الأبيض الفانوس، بأنه قابل للتطوير فى الشكل لكن الخامة خيامية وصاج لا تتغير، ولا زال فانوس «أبو الولاد» أقدم فانوس فى الحارة يتصدر المقدمة، ويتميز بأنه فانوس ضخم من الصاج مضاف له من جوانبه فوانيس صغيرة من الصاج بشكل دائري، ومن العادات الثابتة أن «فانوس» أبو الولاد موديل واحد يحضر أصحاب الفنادق الكبرى والتجار العرب من الأردن والسعودية والكويت لشرائه بالطلب ولا يتخلون عنه.
ومواطنو تلك الدول الثلاث هم الأكثر ترددا على الحارة منذ عشرات السنوات فتعتمد على الفانوس المصرى فى المقدمة، وكان فى السابق مع تلك الدول سوريا والعراق وليبيا، إلا أن تلك الدول تأثرت بالصراعات والحروب، واختفى تجارها ولا يحتفلون بتفاصيل موسم رمضان فى ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التى يعيشون فيها، لكن يحضر السوريون الذين يعيشون فى مصر والجاليات العربية الأخرى للشراء لمنازلهم هنا فى القاهرة ويروون لنا ذكرياتهم مع الفانوس المصري.
أنواع الفانوس المصري:
بجوار أحمد الأبيض، جلس الحاج صلاح العذبة الرجل الستينى الذى لم يتوقف عن العمل فى مهنة أجداده حتى الآن رغم سنه الكبير ووجود أحفاده وأبنائه حوله، قال العذبة، أنا ابن الجيل السابع فى الصناعة هنا فى حارة تحت الربع، منذ العصر الفاطمي، فالصناعة محفورة فى القلوب والأكثر صناعة هنا فانوس الغورية وهو معروف بشكل «شقة البطيخة «وهو يتميز بجوانبه المليئة بقطع هلالية مثل شقق البطيخ الصغيرة ويقبل الزوار على شرائه فى الموسم الرمضاني.
ولخبرتنا وقدرتنا الاحترافية فى الصناعة نستطيع صناعة أى حجم يطلب منا للفانوس حيث يتراوح الحجم من 50 سم إلى 6 أمتار حالياً، وعليه إقبال كبير خاصة من الفنادق الكبيرة داخل وخارج مصر.
وهناك أنواع أخرى من الفوانيس مثل فانوس «البرج» وهو عبارة عن صاج متدرج «لوتس»، ويشبه زهرة اللوتس الفرعونية وفانوس «النجمة» وهو نجمة خماسية وكذلك فانوس «الشمامة».
وعن أحدث التصميمات لعام 2018 فانوس الخيامية وفانوس «التاج» وهو عبارة عن شكل مضلع يكون على رأسه تاج وتأخذه العائلات الثرية لقصورها والفيلل الفخمة.
مراحل تصنيع الفانوس:
جلس الحاج صلاح على مقعد خاص به من القماش والخشب لتصنيع الفانوس وسط أبنائه والعمال فى المحل الضخم الذى يعج بمئات الفوانيس، قائلاً: سوف أشرح مراحل تصنيع الفانوس عمليا على فانوس «أبو الولاد» الذى يأخذ اللونين الذهبى والفضي، وأول خطوة هى تقطيع الصاج إلى شرائح ثم نقوم بتحضير شرائح أخرى من الزجاج المعشق بالألوان والآيات القرآنية وشكل الهلال ونقوم بوضعها على قطع الصاج كما تتناسب حسب الشكل فى التصميم ثم نقوم بإدخالة لعملية اللحام لأنه عبارة عن قطع مفككة، ثم نقوم بالمرحلة النهائية وهى تركيب اللمبة للفانوس والألوان الإضافية.
والفوانيس الضخمة لها ورش وصناع مهرة للإنجاز فى الوقت، لأننا نقوم بالتعاقد مع التجار ونقل البضاعة قبل رمضان بشهر كامل، وحصيلة تصنيع المحل الخاص بنا تتجاوز الــ300 ألف فانوس، وحالياً ما يرهقنا ارتفاع الأسعار فقط، بنسبة 20% على الصاج.