الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

تحوّلات علىّ الدين هلال: السياسي الذي هزم المُفكّر

تحوّلات علىّ الدين هلال: السياسي الذي هزم المُفكّر
تحوّلات علىّ الدين هلال: السياسي الذي هزم المُفكّر


حضر عليّ الدين هلال في أواخر ستينيات القرن الماضي إلى كندا مبعوثًا لنيل الدكتوراه في العلوم السياسية، تسبقه سُمعته كأحد الكوادر اللامعة في منظّمة الشباب، التي كانت إحدى أذرُع الاتحاد الاشتراكي في ذلك الوقت. أنجز دراسته في جذور الفكر الاشتراكي، وعاد ليُمارس حياة سياسيّة صعد فيها بسُرعة لافتة، وطغت على عمله الأكاديمي والبحثي والفكري. بماذا يُفسّر أستاذ العلوم السياسية، هذه التحوّلات التي صاحبت مسيرته الفكرية، ولماذا لم يؤسّس «مشروعًا ثقافيًا» للنظام، يقول إنه افتقر إليه عهد مبارك ما أدّى إلى سقوطه؟ ما الذي كان ينقُص أمين الإعلام والتدريب والتثقيف السياسي وقتها في الحزب الحاكم وشغله كي لا يُشارك في صياغة «رسالة فكرية» للنظام، واكتفى بالانخراط معه في «مُمارسات» ستفنى، عن صياغة «الأفكار» التي تبقى، بحسب ما يقول في ختام مقدّمته الطويلة للدراسة التي صدرت أخيرًا في كتاب عن مركز المحروسة للنشر الذي يُديره فريد زهران، أحد أبرز قيادات الحركة الطلّابية في السبعينيات، ويشغل حاليًا نائب رئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي.

هل الدكتور عليّ الدين هلال مسئولٌ عن هذا الإغفال؟ تسبق الإجابة عن هذا السؤال، ديباجات الاعتراف بمساهمات الرجل، كأستاذ جامعي، ومفكّر يُولي اهتمامًا لائقًا بالفكرة العلمية، ويحظى بصداقات وعلاقات طيبة مع جميع الأطراف التي يبدو تنافرها من بعيد وللوهلة الأولى. فها هو الدكتور سعد الدين إبراهيم يذكر في مقالة عن د.هلال إنه «منهجيّ متوحّش» بحسب ما يُطلق هو على نفسه، وإنه بفضل «خبرته الفريدة، ودراسته العلوم السياسية، كان من الأصوات الوطنية الناضجة، التي ساهمت في إعادة زرع الأمل في رفاقه بعد الهزيمة».
فريد زهران نفسه قدّمه في حفل إطلاق الكتاب بأنه أحد القلائل من أوجه النظام التي بقى على تواصل معها، تواصلٌ إنساني ومعرفي. وأنه على أية حال فضلّ رجل الأكاديميا، الباحث والأستاذ الجامعي، عن الرجل السياسي الذي أصبحه عليّ الدين هلال فيما بعد.
أنجز د.عليّ الدين أطروحة الدكتوراه من جامعة ماكجيل، أشهر الجامعات الكندية، عن «جذور الفكر الاشتراكي.. تجديد الفكر السياسي المصري الحديث»، عام 1973. وظلّت هذه الدراسة حبيسة الدوائر الأكاديمية، فقد ضمّت طبعة جامعية عن معهد البحوث والدراسات العربية، جزءًا ضئيلًا منها فيما يُشبه «مذكّرة جماعية»، صدرت باللغة العربية عام 1975. ويُمكن القول أن هذه الدراسة كُتبت في خضم موجات تجديد وتغيير شاملة، طالت المجتمع المصري والحياة السياسية وقتها.
بعد هزيمة 1967، كفر أغلب الشباب المتحمّس بالحلم الناصري والاشتراكي، ولكن عليّ الدين هلال كان أكثر تمسكًا بثوابت ثورة يوليو و«الدولة المصرية». تعاطف مع المشهد ككل، لكنه لم يُشارك فيه. الدولة في نظر عليّ الدين هلال هي الوحيدة القادرة على التعبئة والحشد، وهو تقريبًا ما حدث بعدها بست سنوات في 6 أكتوبر 1973. كتب سعد الدين إبراهيم: «سيظلّ عليّ الدين هلال على امتداد العقود الثلاثة التالية، هو الأكثر واقعية، والأكثر استخدامًا للمعلومات الميدانية، والأكثر استشهادًا بالوقائع التاريخية».
كانت محاولات الأستاذ الجامعي، عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية الأسبق، أمينة وحثيثة لفعل شيء مما يدعو إليه في كتاباته ودراساته، لكنها محاولات لم تصمد كثيرًا أمام «الرغبة في الاستبداد». يشهد سجلّه بمحاولات في مركز دراسات الوحدة العربية فى بيروت للتخطيط لبرنامج علمي دراسي «لتحقيق وحدة عربية على أسس علمية واقعية راسخة»، تمثّل هذا في كتابه «النظام الإقليمي العربي» الذي كتبه بمشاركة جميل مطر، وظهرت منه عدّة طبعات منذ مُنتصف السبعينيات. ثمّ أسّس بصُحبة السيد يسن الجمعية العربية للعلوم السياسية، وكان د. عليّ الدين هلال نفسه أوّل رئيس منتخب لها، لفترتين متتاليتين.
اليوم؛ يُفضّل الدكتور عليّ وضع كتابه في سياق أكبر، حيث انشغل جيل من المفكّرين من بداية القرن الـ19 بالإجابة عن سؤالين، الأوّل: لماذا تخلّفت الشعوب العربية؟ والثاني: كيف نخرج من هذه العثرة؟ ومن وحي الإجابات وُلدت التيارات السياسية الكُبرى، فمنها من رأى أن سبب التخلّف هو الابتعاد عن الدين، فوُلدت من رحم هذه الإجابة التيّارات الإسلامية بتفسيرها الفاشي العنيف للدين. ومنها من رأى أن سبب التخلّف هو الاستبداد وغياب الحريّة، ومن رحم هذه الإجابة وُلدت التيّارات الديمقراطية الليبرالية. وهناك من رأى في غياب العدالة الاجتماعية سببًا في التخلّف، فانضمّ أنصار هذا الفريق إلى الأحزاب الاشتراكية والماركسية والشيوعية في مُحاولة لإيجاد الحل. ثم هناك من رأى التخلّف من جرّاء التجزئة التي سبّبها الاستعمار ونشأت عن ذلك التصوّر التيّارات القوميّة العربية. وأخيرًا تعريف التخلّف بسبب التبعية للمستعمر، وهو التوجه الذي انبثقت عنه حركات الاستقلال الوطني والوحدة العربية.
يبحث الكتاب/ الدراسة في العلاقة بين الاشتراكية والديمقراطية، التي يرى د. عليّ الدين في تزاوجهما الخيط الجامع بين كل الأفكار السياسية المتناقضة ظاهريًا. وما يهمّ الدكتور عليّ الدين هلال في المقام الأوّل مثلما يّقدّم لكتابه، هو «الأفكار»، الأفكار السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتطوّرها في مصر، باعتبار هذه الأفكار «مصدرًا لشرعية النظم والسياسات»، وبوصفها «دروس الماضي والمُرشد نحو المستقبل»، وبغيابها تُصبح السياسة «لُعبة قوّة بلا مبرّر أخلاقي»، وتتحوّل العلاقات السياسية إلى صراعات نفوذ. ويُطالب بأن نُعيد للأفكار اعتبارها وقُدسيّتها وأهميّتها، بدلًا من أن يُركّز الحوار العام على أحداث ووقائع وأفعال، كلّها زائلة. فما الدستور ومواده، والسياسة العامة وأدواتها والتخطيط ومشاريعه إلّا مجموعة من الأفكار.
يتحدّث الكتاب إذن عن تاريخ الأفكار والأيديولوجيّات باعتبارها جانبًا مُهمًّا من تاريخ أي مجتمع، وما يُصاحبها من تجديد وتحديث عقلي وفكري. لهذا جاء على ذكر «هجرة الأفكار» و«توطين الأفكار» كعمليات مُصاحبة لاستيراد الأفكار وتجربتها وإكسابها الطابع المحليّ. وفي حال الاشتراكية؛ فبحسب د. عليّ، في إطار بحثه حول تاريخ الأفكار الاشتراكية، نُقلت الفكرة مع تغيير المضمون الأصلي لها، وإعادة ترتيب عناصرها، ما أكسبها مضامين ودلالات أخرى مُغايرة عن بيئتها الأصلية. ويسأل: ما الذي دفع للكتابة عن الاشتراكية قبل ثورة 1917 في مجتمع زراعي متخلّف كمصر؟ أين أوّل مرّة استُخدمت كلمة اشتراكية؟
ويلخص، عبر مراجعة أفكار أربعة من روّاد الفكر الاشتراكي في مصر، سلامة موسى، شبلي شميّل، مصطفى حسنين المنصوري ونقولا حدّاد، «كتّاب الاشتراكية الأوائل»، إلى أنّ الاستعانة بالاشتراكية والتفكير فيها كان جزءًا من منظومة تحديث الفكر والعقل المصري في القرن العشرين، ولمدّة أربعين عامًا.
الحُجّة الرئيسية للمقدّمة الطويلة التي كتبها الدكتور عليّ الدين هلال خصيصًا للكتاب، أن الاشتراكية والديمقراطية وجهان لعملة واحدة، وأن الفكرين الليبرالي والاشتراكي لم يتطوّرا كطرفيّ نقيض، وأن عددًا من روّاد الفكر الاشتراكي في مصر حرصوا على تأكيد الصلة بين الاشتراكية والديمقراطية، بينما أكدّ آخرون ممثلين للفكر الليبرالي على العدالة الاجتماعية كشرط للديمقراطية، ففي إطار البحث عن العلم والمدنية، والسعي نحو التنمية ورفع مستوى المعيشة وخلق فرص للناس وتحقيق العدالة الاجتماعية، ظهر أكبر حزب سياسي في مصر القرن العشرين، وهو الوفد، وانبثقت عنه الطليعة الوفديّة. برز محمّد مندور، وإسماعيل مظهر الذي كان معاديًا للشيوعية في البدء ثم أعلن أنه اشتراكي، حتى رفعت السعيد، الذي أصبح ماركسيًّا في العشر سنوات الأخيرة من عمره، آمن بأنه لا عدالة اجتماعية بدون ديمقراطية. وجميع هؤلاء ربطوا بين الاشتراكية والديمقراطية. حتى ثورة 1952، و«الميثاق الوطني». ثم يُعلّق د. عليّ: ربما انهماك ثورة يوليو في البحث عن العدل الاجتماعي جعلها لا تُعطي للحريّات السياسية مكانتها، وهو ما سمح بعد ذلك بتجاوزات وانتهاكات حقوق الإنسان.
الاشتراكية التي يدرسها ويفهمها دكتور عليّ الدين هلال في هذا الكتاب هي «التغيير ببطء»، التصاعد التدريجي نحو الديمقراطية بأساليب سلميّة، اشتراكية «تربية الجمهور على الحكم النيابي حتى يتشرّب بها وتُصبح غريزة فيه»، اشتراكيّة التنوير والإقناع. اشتراكيّة الحفاظ على الخصوصية الثقافية.
هُنا بدا اختلاف الناشط السياسي المخضرم فريد زهران مع الطرح الذي قدّمه هلال في الكتاب الذي نشره زهران! في المناقشة التي أعقبت إطلاق الكتاب، ردّ زهران بأن حُجّة الخصوصية الثقافية تلك «زائفة» و«مزعومة» وغير ذات معنى. وأنه – أي زهران – هجر الحركات الماركسية عندما رفعت شعار «لا ديمقراطية لأعداء الشعب». ويعتبر نفسه اليوم «ديمقراطي اجتماعي».
 احتفى فريد زهران بالكتاب قائلًا: «هو في وقته تمامًا». وأن قيمة الكتاب العلمية تكمن في التعرّف على كيفية استجابة المصريين للتغيّرات التي طالت جميع الجوانب في مصر منذ عصر محمّد علي. بحسب فريد زهران، واجهت التيارات الاشتراكية في مصر تحدّي ذروة الإحباط في الفكر العربي. فهناك من حاول إضفاء المشروعية على تخلّفنا بحجّة الحفاظ على الخصوصية الثقافية، والاهتمام ببناء شىء مختلف لا يُركّز على اللحاق بالتطوّر، والتمسّك بدلًا عنه بشعائر الدين. ووقع التيّار القومي في نفس المأزق، فظهرت الاشتراكية القوميّة، ووقع الماركسيون في نفس الفخّ، من التجاوز وحرق المراحل.
كتاب د. عليّ الدين هلال عن الفكرة الاشتراكية في مصر، نكأ جراح الماضي.  فريد زهران يؤمن، عكس د. عليّ الدين هلال، بأن أهمّ ما شغل الفكر الاشتراكي في مصر هو محاولة بناء نموذج مختلف بدون رفض التطوّر، وبدون لعق الكلام الفضفاض المُكرّر بحُجّة الخصوصية تلك، وأنه شخصيًا – أي زهران - حاد عن مسار الخطاب الماركسي بسبب التمسّك الزائف بالخصوصية، ويلخص إلى نفس فكرة الدكتور هلال بأن هناك فرقًا بين الممارسات السياسية وبين الأفكار، لكنه خالفه مرّة أخرى في الطرح، بأن الأفضل هو تكوين فكرة جديدة وليس جمع تيّارين قديمين، مثل الليبرالية واليسارية، لأن التجربة تقول بأن اتجاه الاستبداد هزم اتجاه الديمقراطية الوطنية.
يذهب د. عليّ الدين هلال في دراسته إلى أن التجربة الديمقراطية الليبرالية في مصر خلال فترة الدراسة من 1882 حتى دستور 1923 وحتى بعد يوليو «لم تكن مُكتملة»، وسقطت مؤسّسات الديمقراطية الليبرالية في أيدي من امتلك الثروة واستطاع شراء الولاء السياسي والاجتماعي، وغيرها من التداعيات التي حملت توفيق الحكيم إلى الحديث عمّا أسماه «جموح الديمقراطية» في سلسلة مقالات في صحيفة الأهرام في عام 1938، جمعها بعد ذلك في كتاب «شجرة الحكم السياسي في مصر 1919 - 1979» صدر عام 1985.
ثم من بعد منتصف الأربعينيات، تبلورت جميع التيارات الرافضة مثل: الطليعة الوفدية والتنظيمات الشيوعية السريّة وحزب مصر الاشتراكي، الذي كان اسمه في البداية «حزب مصر الفتاة»، حول لواء واحد، هو الربط بين النضال السياسي وبين النضال الاجتماعي. أمّا ثورة يوليو، فهي بالنسبة لعليّ الدين هلال، تبنّت «منهجًا ذرائعيًّا» في مواجهة مشاكل المجتمع المصري، كتب هذا بنفسه في مقالة بمجلة الفكر العربي تحت عنوان «تطوّر الأيديولوجية في مصر: الديمقراطية والاشتراكية»، حيث اعتبر عبد الناصر الأحزاب «سفسطة كلاميّة»، وبدا الاتجاه نحو تحقيق «توافق وطني قوميّ عربيّ» بدلاً عنها: «كُلنا نعمل من أجل رفعة هذا الوطن، لا عمل للجماعات ولا عمل للأحزاب». من خطاب عبد الناصر في 14 نوفمبر 1958، يستعين به د. هلال في الكتاب.
ويذهب عليّ الدين هلال إلى أن القيود على حريّة التعبير وقتها والالتفاف الجماهيري حول ناصر حالت دون مُناقشة جادّة للخطاب الرسمي للاشتراكية والديمقراطية، ثم سرعان ما انتبه عبدالناصر إلى غياب «الدليل الفكري» أو «التصوّر الأيديولوجي للثورة المصرية» كما يقول د. هلال، ومن هنا جاءت فكرة «المؤتمر الوطني للقوى الشعبية» الذي دبّ الأمل والروح في الحياة السياسية، وخرج عنه الميثاق الوطني الذي لخّص الاشتراكية في «الكفاية والعدل»، وبدأ منذ ذلك الحين الحديث عن «المفهوم الراديكالي للديمقراطية»، أن يكون في البلاد تنظيم سياسي واحد هو الاتّحاد الاشتراكي العربي، ما دعا كاتب ماركسي إلى وصف الميثاق بأنه «خليط من الاشتراكية العلمية والخيالية، وأفكار البرجوازية الصغيرة، والقوميّة الضيّقة، والانحيازات الدينيّة». هل يُقدّم د. عليّ الدين هلال مُراجعاته في النُسخة الحديثة من هذه الدراسة؟!
كتب د. عليّ الدين هلال أطروحته وناقشها في السبعينيات، حيث حقبة انتعاش الجدل الفكري وتعدّد الآراء حول القضايا الكُبرى، تمامًا مثلما مهّد في كتابه. لكن السؤال الذي يمكن طرحه بتأثير من قراءة الكتاب، هو لماذا لم يتجذّر الفكر الاشتراكي في مصر؟ هل لأنه كان خطابًا نخبويًا، هل بسبب القيود السياسية على الحريّات، هل بسبب موقف أنصار الفكر الاشتراكي من العلمانية التي تعارضت مع مجتمع متديّن ومُحافظ؟! كلها أسئلة مشروعة وصحيحة.