
تحية عبدالوهاب
الحقيقة مبدأ .. معطيات السلام المفقود
الكل يتحدث عن سلام مرجو فى الشرق الأوسط وهذا الكل قد ينقسم إلى فئات أو مجموعات من الدول أو الفواعل من غيرها، فمنهم من يتحدث حديث الحالمين الذين يقيمون الوضع بالأمنيات لا بالمنطق المفهوم، ومنهم من يتحدث بنية الحصول على مكتسبات مادية صريحة متمثلة فى شراكات وسيطرات اقتصادية ومالية، ومنهم من يتحدث وهو لا يريد السلام من أساسه، ومنهم من يتحدث بأريحية مطلقة ونزاهة غير مشوبة بأى أطماع رغبة فى سلام حقيقى، ينسحب هذا الوصف على الداخل الفلسطينى ذاته الذى مثلما يعانى من صراعاته الداخليه على السلطة والثروة فإنه قد استقر الوضع لبعضهم بعشرات أو مئات الملايين من الدولارات التى تدفقت على مدار عقود ماضية!!
لكن ما هو مفهوم السلام ومبادئه الرئيسية التى يجب أن يقوم عليها واجتهادًا قد نصل إلى أنه يُبنى بشكل أساسى على التعامل مع الأسباب الكامنة وراء اقتتال الناس فيما بينهم فى المقام الأول إلى جانب دعم المجتمعات المتصارعة لإدارة خلافاتها ونزاعاتها دون اللجوء إلى العنف؛ إن لم يكن قد بدأ بالفعل، فالسلام فى أصله يهدف إلى منع اندلاع العنف الذى يمكن أن يبرز إلى السطح قبل وأثناء وبعد النزاعات أو تصاعده أو استمراره أو تكراره. والسلام بحد ذاته ليس أمرًا سهلا يمكن الوصول له ببساطة فهو يُعدّ عملية طويلة الأجل وتعاونية لأبعد الحدود لأنها تنطوى على تغيرات فى المواقف والسلوكيات والأعراف وأحيانًا فى المؤسسات.
ما الذى يُساهم فى تحقيق السلام؟
السلام مجرد غياب العنف أو الاكتفاء بإيقافه. ففى حين أن الفترة التى تلى توقُّف القتال والمطبوعة بالعودة إلى الحياة الطبيعية أمرٌ مرحَّب به، فإن الاستقرار غالبًا ما يخفى حقيقة أن المظالم أو الأسباب الأخرى للنزاع لم تتم معالجتها وقد تطفو إلى السطح مجددًا بل ومِرارًا. وعليه تظهر القاهرة بحضور لافت إن لم يكن طاغيًا على المشهد الفلسطينى الحالى لإرساء ما يمكن وصفه بـ «السلام الإيجابى».
ولفهم بناء السلام بمفهومه الشامل، نحتاج إلى تقدير العوامل التى تُساهم فى إرساء عملية السلام، والتى قد يؤدى غيابها إلى النزاع أو إلى عودة العنف إذا ما هو السلام الإيجابى المتعلق بالصراع العربى الصهيونى:
حين يعيش الجميع فى أمان، دون خوف أو تهديد بالعنف، ولا يسمح القانون أو ممارسته المحلية أو الدولية بأى شكل من أشكال العنف مع آليه واضحة للتطبيق والإنفاذ.
حين يكون الجميع فى الدولتين سواسية أمام القانون والمجتمع الدولى، وتكون أنظمة العدالة موثوقة، وتحمى القوانين العادلة والفعالة حقوق كلًا من الفلسطينيين والإسرائيليين دون النظر إلى أى اعتبارات.
وداخليًا فى فلسطين حين يكون كل فرد قادرًا على المشاركة فى صياغة القرارات السياسية دون النظر للانتماء الفصائلى أو الهوى السياسى فى ظل تشكيل حكومة مدركة أنها المسئول الوحيد أمام الشعب.
حين يتمتع كل فرد بإمكانية الوصول العادل والمتساوى إلى الاحتياجات الأساسية التى تضمن رفاهة، مثل الغذاء والمياه النظيفة والمأوى والتعليم والرعاية الصحية وبيئة معيشية لائقة.
يتمتع كل فرد بفرص متساوية فى العمل وكسب الرزق، بغض النظر عن الجنس أو العرق أو أى جانب آخر من جوانب الهوية.
هذه هى العوامل التى إذا ما اجتمعت تمد الناس بالقدرة على الصمود التى تسمح لهم بالتعامل مع خلافاتهم ونزاعاتهم دون التفكير فى العودة إلى اللجوء للعنف.
علامَ يشتمل بناء السلام؟
تتعدّد وتتنوّع مقاربات وأساليب بناء السلام، ولكنها تعمل كلها فى نهاية المطاف لضمان أن يكون الناس فى مأمن من الأذى ولتحقيق ذلك نحتاج إلى:
إعادة جمع لجميع الفصائل والمجموعات المختلفة معًا لبناء الثقة وتعزيز المصالحة الوطنية أولًا ؛ ثم الانضواء تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية والتى يجب أن تتخلى «فَتح» عن وصايتها عليها.. وذلك للبناء على مكتسبات -حتى وإن كانت شكلية أو منتزعة الفائدة- أوسلو 1993.
تشكيل مجموعة سياسية جديدة متوازنة التمثيل من جميع حركات المنظمة وليست تحت رئاسة السيد محمود عباس.
الانخراط الواقعى فى أشكال مختلفة من الدبلوماسية والمفاوضات الجادة والملزمة لدعم عملية سلام حقيقية قابلة للتطبيق وتحمل الصفة الرسمية.
تعزيز الديمقراطية والسياسة الشاملة فى الداخل الفلسطينى (على سبيل المثال، تضمين الفئات المهمشة، إطلاق مبادرات المواطنة النشطة، وما إلى ذلك والتخلص من الحوائط الجليدية بين الضفة والقطاع، فكلتاهما تحت العلم الفلسطينى وليستا دولتين أو إقليمين تحت الحكم الذاتى.
تحسين أنظمة العدالة مثل، مبادرات مكافحة الفساد، الإصلاحات الدستورية، الوصول إلى مبادرات العدالة، إنشاء لجان الحقيقة، وما إلى ذلك بغرض البناء لا بغرض الثأر أو الانتقام.
العمل الفورى على تحسين أمن المجتمع وتشكيل سلوك القوى الأمنية الداخلية.
العمل بالتعاون مع قطاعات الأعمال والتجارة لخلق وظائف مستدامة وتحسين ممارسات التوظيف فى هذا القطاع.
وضع الخطط والتصورات المتعلقة بتحسين البنية التحتية والتخطيط الحضرى والريفى استعدادًا لما بعد الحرب.
خلق إعلام مجانى وشامل يلبى احتياج المواطن للمعرفة وليس بغرض الشحن المتبادل أو التجييش بين الفصائل وبعضها البعض.
العمل على وضع أطُر لبرامج التنمية (الصحة، التعليم، التنمية الاقتصادية) فى جميع المناطق الفلسطينية دون تفريق ودون أى تقصير وبشكل أكثر حساسية تجاه ديناميكيات الانتماء الفصائلى بحيث تُساهم عمدًا فى تثبيت المجتمع واستقراره مما يُساهم بفاعلية فى إرساء السلام.
فلسطين تحتاج إلى ذلك أكثر من أى وقت سبق بل ودون انتظار الوصول إلى إيقاف كامل لإطلاق النار وحتى قبل الجلوس على مائدة مفاوضات حل الدولتين، وذلك لقطع طريق التذرع بالتفتت الفلسطينى أمام تل أبيب وواشنطن من جهة، وكذلك أمام بعض القوى الإقليمية دولًا كانت أو من حتى الفواعل من جهة أخرى للعبث بالفصائل.
هنا على الجميع أن يستوعب بشكل كامل وتام أن بناء السلام يتحقّق بشكل تعاونى، على المستويات المحلية والوطنية والإقليمية والدولية. ويلعب الأفراد والمجتمعات ومنظمات المجتمع المدنى والحكومات والهيئات الإقليمية والقطاع الخاص أدوارًا عديدة فى بناء السلام أو عدم الحفاظ عليه. وللحفاظ على التغيير الإيجابى المأمول، يجب أن يُشارك كل شخص والحديث هنا للداخل الفلسطينى والإسرائيلى وكل شعوب المنطقة بل وكل متأثِّر بهذا الصراع القائم فى عملية بناء السلام.
دون ذلك سنظل جميعًا نبحث عن مفتاح لصندوق السلام المفقود بدلًا من البحث عن الصندوق نفسه.
وتحيا مصر.