الأحد 16 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

خيالات الشرق

خيالات الشرق
خيالات الشرق


مصر القرن التاسع عشر، صورة انطبعت فى أذهان الرحّالة والمستشرقين من خيالات قصص ألف ليلة وليلة. لم ينج إيسا دى كيروش، رحّالة برتغالى كان قد دعاه الخديو لحضور احتفالات افتتاح قناة السويس، من هذه التصوّرات. وعندما وطأت قدماه لأوّل مرّة بلاد الشرق، فوجئ بشيء آخر فى الواقع، لكنه ظلّ على وفائه لـ«المُخيّلة المُغوية». ذهب إلى مصر ليزور القاهرة «المدينة الشاعريّة الخالية، المليئة بالحب والآلهة»، فوجد مدينة تخنق الخيال، فى شوارعها «ذات البيوت الضيقة الكئيبة». فما يلبث أن يعود إلى الخيال و«مدينة ألف ليلة وليلة».

فى حالة إيسا دى كيروش هذا، فإنه فى مذكّراته وأوراقه التى جمعها كتاب «خيالات الشرق.. رحلتى إلى افتتاح قناة السويس» وصدر حديثا عن دار العربى للنشر والتوزيع - تعوزه المراجعة اللغوية وتصحيح بعض الأخطاء التى وقع فيها المُترجم من قبيل «أعزب» ويقصد «أعذب» و«ذكرتين» ويقصد المُثنّى من ذكرى «ذكريين»، ومرّة يكتب جوناس، ومرّات جوناث، ثم هناك فى صفحة التعريف بالمؤلّف، يكتب اسم نجله والمقصود بالمؤلّف هو الرحّالة نفسه- لم يستطع الفكاك من تلك «الخيالات»، حتى وهو يَطلّ كُلّ صباح من شرفة غرفته بفندق شبرد، أو وهو يمتطى حمارا فى باحة سوق شعبية، وحتى وهو يُدخّن النرجيلة على قهوة سكندرية عريقة. بل إنّنا نُصادف المزيد من الانطباعات بما تحمله أحيانا من سذاجة ومرح، وهو يصف مُرافقه، تُرجمان نوبى، بداية من ملبسه وهيئته ولون بشرته، وطباعه وحتى لغته وطريقة تفكيره.
من هنا كان اختيار عُنوان الكتاب موفّقا إلى حدٍّ بعيد. يكتب إيسا: «كُلّ شيء مُتاح للأوروبى، ما عدا الخيال»، «لا تزال هناك منطقة حُرّة، شاسعة وخصبة، للخيال بالنسبة للأوروبى فى مدينة من مدن الشرق». يُمعن إيسا دى كيروش فى إحداث الصدمة وهو يُقارن بين الصورة القديمة والعصر الحديث، ثم يخرج بنتيجة: «لا يزال العربى يعيش فى خيمة، لكنها خيمة من الحجارة»!
ينقل لنا الكتاب تجربة الرحّالة البرتغالى إيسا فى الجامع الأزهر، ويُقدّم عبر هذا الجزء ما يُشبه نقدا للحياة الدينية فى مصر. فقد جذبه هيئة المُصلّين «مُضجعين فى غفلة» على الأرضيّات الرُخامية الرطبة لأغلب المساجد. عن هيامهم ورؤوسهم المُتّكئة، كأنهم «متقوقعون كأجولة مُتراصّة».
يقول المؤلّف إنه لا يعتقد كثيرا فيما أسماه «التطرّف العربي». أزهر القرن التاسع عشر، أصبح أكثر انفتاحا مثلما خبره الرحّالة البرتغالى فى رحلته السريعة، حيث «يشرح الأئمة والخدم للأجانب داخل الجامع ويُرشدونهم بكل تواضع ولُطف».
وقت كتابة الرحلات؛ كان يرى أن الإسلام- يستخدم عبارة «ديانة محمد» للإشارة إلى الإسلام- فى أضعف حالاته أكثر حتى من المسيحية. كل ذلك فى رأيه بسبب انقسام المسلمين إلى طوائف مما يؤدى إلى إضعافهم. يكتب: «أهمّ المساجد فى مصر اليوم عبارة عن أطلال بائسة. قوافل الإبل تستريح فى مسجد قايتباى. العقارب تنتشر على نقوش أطلال جامع عمرو بن العاص. مسجد بن طولون ملاذ الشحاذين ومأوى للغِربان».
أمّا عن الجامع الأزهر، ويصفه بـ«الرائع»، فيرسم إيسا دى كيروش صورة شديدة الدقّة والإثارة للشيوخ وطلاب العلم الدينى فى مصر: «رأينا فى بعض الأشخاص تركيزا غير عادى، بدوا كأنّهم فقدوا الحياة للَحظات ثم عادت إليهم. يحفظون دروسهم بحركات صبيانية، شيوخ ذوو لحى طويلة، وعقول ضيّقة محدودة». ويقول فى موضع آخر: «يعتقد دارسو الأزهر أن من يحفظ القرآن ويعرف قواعد اللغة فكأنه أوتى العلوم جميعا».
يتكلّم إيسا عن «الصورة القديمة للجامع الأزهر»، بوصفه «قلعة الوطنية» التى «يعيش فيها العلماء المُتشدّدون والشيوخ الأجلاء والأساتذة المبجّلون». «تُحاك الثورات فيه منذ أن أنشئ»، و«فيه أثنى العلماء على ذلك المُتعصّب الذى اغتال كليبر»، وأخيرا كان «مركزا للمقاومة السلفية ضد المذاهب الأخري»، ولم «يَجرؤ أى مسيحى أن يدخله».
الشيء الذى يُنقذ يوميّات الرحلة التى قام بها دى كيروش، من الطابع الشخصى الذاتى، أو وصفها كمُجرّد انطباعات برتغالى فى مصر، ذلك الجزء الذى يُعلِمنا جامع الكتاب أنه كُتب فيما يُشبه «الدراسة»، عن المرأة فى الشرق. وأخيرا، حديث مطوّل مع ديليسبس، كان قد التقاه الرحّالة فى قطار فى الطريق إلى الإسماعيلية.
ينقل دى كيروش جميع انطباعاته عن الحريم الشرقى، من حكايات سكرتير نوبار باشا، الأرمينى، الذى سمحت له سنوات عيشه فى القسطنطينية وآسيا والأناضول، فهم الشرق جيّدا، ومن ثم نقلها إلى الرحّالة فى نوادر وإيحاءات. أثارت دى كيروش فى حكايات سكرتير نوبار باشا، مسألة «تعدّد الزوجات»، من بين اللقطات الطريفة التى نتعرّف عليها فى الكتاب؛ ما يحكيه المؤلّف من أن العاملين على المراكب النيليّة، اعتادوا على اتخاذ زوجة كل خمسين «فرسخا»، فى مسافة تمتّد إلى 200 فرسخ، وذلك طلبا للراحة فى ترحالهم! فلنتخيّل كم زوجة تستغرقها رحلات الصيد والنقل على النيل؟!
استغرقت رحلة إيسا إلى الشرق، ستة أسابيع من التفاصيل، كثير منها فكاهى، يَغلب عليها الوصف الحسّى الأدبى للطبيعة وملامح الأجواء والطقس والآثار. راقب المدن المصرية، فى كل الأوقات، والبيوت فى جميع حالتها، ليلا نهارا، فى السكون والصخب، فى جلسات العلم، وهمّة العمل، وفى تجمّعات اللهو والسُكر والرقص. حتى الحيوان، يُعدّد مثلا مفاتن الحمار فى مصر وكيف وجده أكثر همّة من الحمار الأوروبى.
إلا أن عنوان الكتاب ينطوى على خدعة، «رحلتى إلى افتتاح قناة السويس»، يجعلك، تلقائيا، تتهيأ لقراءة تفاصيل عن هذا الحدث المهيب، يوم 17 نوفمبر من العام 1869 شهادات تاريخية، صور، إلا أنه طوال صفحات الكتاب التى تُقارب الـ300 لا نقرأ حرفا عن السويس ولا حفر القنال، ولا يقترب من هذا الحدث فى أوراقه. ثم نعرف فى الصفحة الأخيرة أن هذا الجزء من الرحلة «ترك انطباعا ثانويّا فى نفس إيسا دى كيروش»!
حسبما يرد فى صفحة نبذة عن المؤلف، يُعْرَف البرتغالى إيسا دى كيروش (1845 - 1900) بأنه من أعظم كُتّاب الواقعية والرومانسية البرتغاليين فى القرن الـ19. درس الحقوق، وعمل بالسلك الدبلوماسى فى عام 1872 أدّى مهام قنصل البرتغال فى كوبا لعامين، وفى 1874 قنصلا بإنجلترا، وفى عام 1895 عُيّن قنصلا فى باريس حيث استمرّ هناك إلى وفاته فى 1900.
الكتاب - يُنشر بالعربية لأوّل مرّة بترجمة السيد محمد واصل، ويُسجّل انطباعات عن مدن ومعالم مصرية منذ قرن من الزمان - هو عبارة عن مقالات مُتفرّقة كتبها إيسا عن رحلته إلى الشرق، مصر ولبنان وسوريا وفلسطين. كان أن نشر أغلبها فى عدد من الصحف البرتغالية، دون أن تَصدر فى كتاب فى حياته. ثم بعد 57 عاما من وفاته يجمعها نجل إيسا الأكبر، جوزيه ماريا دى إيسا، فى كتاب، صدرت طبعته الأولى عام 1926 «بعد وفاة الكاتب بربع قرن»، ويضم مذكّراته المُبعثرة ويوميّات الرحلة، كان الرحّالة قد كتبها فى كرّاسات جيب وعلى أوراق فندق شبرد «الفخمة المستوردة من الهند»، وغيرها من الأوراق التى عَثر عليها جوزيه فى بيت والده فى باريس بعد وفاته.
تبدأ رحلة إيسا البرتغالى هذا، فى أواخر أكتوبر من عام 1869. ركب البحر مُتّجها من لشبونة صوب الشرق. كان وقتها قد تجاوز الثالثة والعشرين، شابا حيويّا تملؤه الحماسة والموهبة، ولا تنقصه روح السخرية والفضول. وأمكنه خلال رحلة بالقطار إلى الدلتا لقاء ديليسبس، وإجراء حديث مطوّل معه، يمكن اعتباره «شهادة» مهمّة عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى تلك الفترة من تاريخ مصر الحديث، كما يكتب المترجم فى تقديمه. وهو- الرحّالة- طوال سرد الحديث يكتفى بذكر اسم فريناند ديليسبس مرّة أو مرّتين، فيما تتكرّر الإشارة إلى كلامه بوصفه «مُهندس قناة السويس».
الأجزاء من المذكّرات/ اليوميّات، الخاصة بحديث ديليسبس، مُثيرة ومُهمّة، ومليئة بالآراء القاسية والرؤى المؤلمة التى يستخلصها المهندس الفرنسى لصاحبنا هذا. من بين تلك الآراء: «مصر فى حالة لا مبالاة شديدة. العربى يقول لكل شيء «هكذا أراد الله». مُستسلما للقدر شأنه شأن الحيوانات، فلا يُدرك أنه يعيش تعيسا».
ولمّا يسأله صاحبنا البرتغالى عن الحضارة المصرية العريقة التى تتحدّث أوروبا عنها؟ يُجيب ديليسبس بأنها: «حضارة أضواء غاز الأزبكية ونوادى القمار فى الإسكندرية»!.
من أشد آراء ديليسبس الانتقادية الجارحة، رأيه فى «البعثات التعليمية». «مهزلة» يكتب إيسا فى مذكّراته على لسان مُهندس القنال: «يختارون الطلبة من القُرى، يُلبِسونهم عند خياطين من الإسكندرية، ويبعثونهم إلى المدارس عشوائيا أوّلا لتعلّم الفرنسية، ومن بعدها يُوزّعون على مدارس أخرى لتعلّم كل شيء، «وبعد أربعة أعوام يُطلِقون لحاهم ويُصبحون بُلهاء جدا».
لكن، فيما يبدو أن دى كيروش، لم تُعجبه تعليقات ديليسبس، ففى الوقت الذى استهزأ الأخير، من الرحّالة الذين تُشترى ذممهم بالأنواط والرحلات النيلية فى «المذهبيّات»، يصف دى كيروش لقطات لديليسبس نفسه، داخل حفل راقص، مُحاطا بالنساء اليافعات، بينما يرتدى الأوسمة المصرية على حلّته!
لا يترك إيسا دى كروش أحدا ينجو من طلقات الفكاهة والسخرية، حتى نفسه. مضى فى هذا الحفل، كما يحكى، «متغطرسا بصفتى أجنبيا»، باحثا عن كرسى دون جدوى، ثم وجد نفسه فجأة على طاولة واحدة تجمعه بشيخ مصرى وعالم من بروسيا وغانية وقائد عسكرى نمساوى وصحفى بلغارى، مع طبق فيه سمكة ومخ نعامة!
فى الإسكندرية، أولى محطّات الرحلة، لا تنتهى المفاجآت فى صورة ملاحظات شخصية وآراء قاسية دقيقة. حضر إيسا إلى الإسكندرية، مأخوذا بالصورة/ المُخيّلة المُغوية: «أرض مصر السمراء، أرض الرومانسية والخلفاء».
ثم ها هو يصوّر المدينة بصورة قاتمة للغاية: «مدينة قليلة التجارة، يسكنها المستوطنون». طُرقها كما رآها ضيقة موبوءة، ومبانيها لفتت نظره رتابتها وعدم تناسقها، وألوانها المُنفّرة، يكتب عن إسكندرية القرن التاسع عشر: «حشد صاخب من العمائم والطرابيش والطواقى اليونانية، جَلَبة جميلة، غريبة وبائسة»!
ترك إيسا الإسكندرية، مُصّرا على الاحتفاظ بـ«خيالات المدينة»: «الأرض الدافئة من أثر خطو البطالمة ووقع أقدام كليوباتر». غير مُنكِر لصدمته: «بدت لنا كصفحة من كتاب تجارى قديم أُقحمت فى رواية ألف ليلة وليلة».
أحد تجليّات الوصف يخصّ بها الرحّالة البرتغالى حانة عربية فى «المحمودية»، نعم الترعة، التى كانت فى الماضى مساحة طبيعية للتنزّه. يبدو إيسا فى حانة المحمودية أنه اختبر لأوّل مرّة جلسات الشُرب العربية، حيث «الخُمول العذب»، دُخّان النرجيلة الفارسية يُدخل النعاس، وحالة «الكيف» التى تُحوّل الحياة إلى سكون وتوقظ الغرائز، يكتب عن هذه الخبرة «إنه الحيوان الذى نحسّ به داخلنا، إنه مريع».
إلى نهاية الكتاب، يُسهب إيسا فى الوصف الأدبى، ولا يترك كبيرة أو صغيرة، من حفنة رمل، حتى سحابة فى السماء. تمتلئ المذكّرات بعد ذلك بتأمّلات لافتة لا تخلو من طرافة حول مصر المُعاصرة: بدءًا بالنيل الذى يبدو للرحّالة «أبّ مُبجّل» أو إله. الفلاح المصرى «مزارع وادى النيل»، والسماء فى مصر التى «لا تُبالى بحياة البشر. صافية، عميقة، أبدية». مسلات كليوباترا، والدلتا: «مروحة خضراء فى نهايتها تقبع جوهرة صُنعت بإتقان هى القاهرة». حتى أنه يعود إلى أديرة مصر القديمة.
نتعرّف عبر هذه اليوميّات على زاوية أخرى، لأجواء مصر القرن التاسع عشر. فى متحف بولاق، شوارع القاهرة، القلعة، المقابر «مدينة الأموات على سفح المقطّم» والجبّانات. ومقابر الخلفاء فى الموسكى. بازارات الغورى كـ«مكان للكسالي». والبحث عن الأفيون فى سوق التوابل، أعجب تلك البازارات كما يقول إيسا. وليس انتهاءً بالحمّام التركى، وحنطور شارع شبرا، صحراء هيليوبوليس وسقّارة، والليالى الساحرة فى منف.■