وداعا «جارودى».. هادم المعابد اليهودية

محمد نوار
كلما رحل مفكر أثار رحيله الإحساس بالخسارة خاصة فى العالم العربى الذى تراجعت فيه مشاريع الفكر والتنوير لصالح ثقافة الماضى التى تجرد المجتمعات من هويتها الحضارية بتقديم تأويلات وتفسيرات مشوهة للدين، وقد جاء التألق الفكرى لروجيه جارودى متزامنا مع هبوب رياح العولمة وبداية المد الدينى الأصولى.
لقد أثار جارودى خلال مسيرته الفكرية كثيرا من الجدل نظرا لما أثارته كتاباته من نقاش للفكر والثقافة والتراث، وبعدما رحل لم ترحل إشكالياته وتساؤلاته الفكرية، فمازال العقل العربى يتساءل والواقع العربى بحاجة لمفكرين عقلانيين يخترقون أسوار الجهل والاستبداد.
بدأ جارودى مشروعه الفكرى بنقد المعرفة الأسطورية، ونتيجة ذلك واجه العديد من التهم، لكنه واصل جهوده منجزا الكثير من المؤلفات منها: الإسلام دين المستقبل، الإسلام وأزمة الغرب، حوار الحضارات، مستقبل المرأة، المسجد مرآة الإسلام، الولايات المتحدة طليعة التدهور، الإرهاب الغربى، الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية.
وقد ولد جارودى فى جنوب فرنسا ,1913 لوالد ملحد ووالدة كاثوليكية، فى بداية حياته اعتنق اليهودية، ثم أصبح بروتوستانتيا، كما انضم إلى الحزب الشيوعى، واشترك جارودى فى الحرب العالمية الثانية ووقع أسيرا فى معارك شمال أفريقيا بمنطقة بالجزائر حيث كان هذا أول معرفة له بالإسلام.
وخلال سبعينيات القرن العشرين حاول من خلال أبحاثه فى مركز الدراسات والبحوث الماركسية أن يجمع بين تعاليم الكاثوليكية والشيوعية وفى نفس الوقت بدأ يميل إلى الإسلام، حتى أشهر إسلامه فى عام 1982 بالمركز الإسلامى فى جنيف بسويسرا، واتخذ اسم محمد رجاء جارودى.
وعندما اعتنق الإسلام اعتبر الحضارة الغربية بنيت على فهم خاطئ للإنسان، وأنه كان يبحث عن المعانى والقيم الإنسانية مثل العدالة الاجتماعية فلم يجدها لا فى القيم الرأسمالية ولا فى الليبرالية الغربية، وأنه وجد تلك القيم فى الإسلام ووجد فيه أيضا فهما صحيحا للإنسان.
كما أشار إلى أنه اعتنق الإسلام لأنه أعطى للإنسان الحق فى الاختيار بين الإيمان والكفر مما يعطى للحياة معنى، ويجعل الإنسان مسئولا بالكامل عن مصيره.
وفى كتابه «الإسلام دين المستقبل» أشار إلى شمولية الدين الإسلامى «أظهر الإسلام قدرة شاملة على استيعاب سائر الشعوب من أتباع الديانات المختلفة، فالإسلام هو أكثر الأديان قدرة على التعامل واستقبال البشر الذين يؤمنون بالتوحيد».
ويضيف جارودى أن الإسلام أظهر القدرة على إمكانية التعايش بين مختلف الحضارات مما أعطى العرب والإسلام القدرة على الانطلاق شرقا وغربا، والانتشار حتى فى أماكن لم تدخلها ديانات سماوية من قبل مثل جنوب الصحراء فى أفريقيا.
لقد كان اعتناق جارودى للإسلام مرحلة تحول فى حياته ليبدأ نضاله الفكرى ضد الحركة الصهيونية ودولة الاحتلال الإسرائيلى فى فلسطين، وكانت بداية الصدام لجارودى مع المنظمات الصهيونية التى شنت حملة ضده فى فرنسا والعالم بعد مذبحة صبرا وشاتيلا فى لبنان عام ,1982 بعد أن نشر بيانا فى صحيفة لوموند الفرنسية بعنوان «معنى العدوان الإسرائيلى بعد مجازر لبنان».
ثم واصل جارودى نضاله الفكرى ضد الحركة الصهيونية حين أصدر عام 1996 كتاب الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية قدم فيه بالحجة والدليل تفنيدا للمغالطات اليهودية حول عدد الضحايا اليهود فى محرقة النازيين مشككا من خلاله فى أسطورة الهولوكوست، ومعتبرا أن ادعاء اليهود بحدوث محرقة شملت ستة ملايين يهودى خلال الحرب العالمية الثانية هو أمر مبالغ فيه، ونتج عن ذلك ملاحقات إسرائيلية أمام القضاء الفرنسى بدعوى معاداته للسامية لتصدر إحدى المحاكم الفرنسية حكما ضده بالسجن ثلاث سنوات مع إيقاف التنفيذ بالإضافة إلى غرامة مالية.
تلقى بعدها جارودى عدة تهديدات بالقتل كما تم الاعتداء على المكتبات التى تبيع كتبه فى فرنسا وعدد من الدول الأوروبية حتى امتنعت المكتبات عن بيع كتبه.
وعند قيام المحكمة الفرنسية بمحاكمة جارودى، قام وفد من الكتاب فى مصر منهم نجيب محفوظ بوقفة احتجاجية أمام السفارة الفرنسية بالقاهرة، كما وقع شيخ الأزهر وقتها والبابا شنودة بطريرك الكرازة المرقسية على عريضة احتجاج ضد المحاكمة.
وبعد ذلك ظل جارودى مستمرا فى عدائه للإمبريالية والرأسمالية الممثلة من وجهة نظره فى الولايات المتحدة الأمريكية التى تقوم سياساتها على مختلف أنواع الظلم والاستعباد فى معاملة الإنسان لأخيه الإنسان.
وفى كتابه «حفارو القبور» يقول جارودى عن نشأة الولايات المتحدة الأمريكية: إن ما درجنا على تسميته باكتشاف أمريكا وتصفه اليونسكو على استحياء بالتقاء الثقافات ويحتفل به البابا جون بول الثانى بزهو كأنه تبشير بالإنجيل للعالم الجديد، ما هو إلا الاحتفال بمذابح الهنود وبداية العهد الاستعمارى فى التاريخ الحديث.
أما تعليقه على التدخل الأمريكى بدعوى الدفاع عن الحق فى حرب الخليج بعد احتلال العراق للكويت: «الدفاع عن الحق لا يمكن أن يكون انتقائيا، لا يمكن تطبيقه بعناد فى حالة ضم الكويت ونسيان ضم القدس، صحيح أن القدس ليست سوى مدينة مقدسة لكن الكويت مقدسة ألف مرة بما أنها محاطة بآبار البترول».
فى السنوات الأخيرة لم يعد المجتمع العربى مهتمًا بمواقف جارودى أو أفكاره وكتاباته عن الإسلام كما لم يعد المجتمع العربى مهتما بمناصرته للقضية الفلسطينية من خلال مناهضاته للأساليب الصهيونية.
وبرحيل جارودى فى 13 يونيو 2012 تكون البشرية قد فقدت واحدا من أكثر الفلاسفة والمفكرين إثارة للجدل، سواء بالنسبة للغرب وسياساته تجاه العالم الإسلامى أو بالنسبة للمسلمين حيث يعتبر جارودى أن الإسلام يمثل الخاتمة لمسيرته الطويلة التى تنقل فيها بين اليهودية والفلسفة المادية والمسيحية والماركسية.
رحل جارودى عن عمر يقترب من 98 عاما لكنه سوف يظل حيا بالنسبة للكثيرين حول العالم ممن يجدون المثال الجيد فى فلسفته الإنسانية ومؤلفاته الفكرية ومواقفه الشجاعة والجريئة تجاه العديد من القضايا العربية أبرزها القضية الفلسطينية وانتقاداته للغطرسة الأمريكية وسياستها الاستعمارية وكذلك توضيحه لحدود وإشكاليات الصراع بين الحضارات فى العصر الحديث.
هذا هو المفكر والفيلسوف الفرنسى المسلم روجيه جارودى أو رجاء جارودى كما أطلق على نفسه بعد إسلامه والذى لم يجد من المجتمعات العربية والإسلامية التكريم اللائق أو الاهتمام بمواقفه التى يرى الكثير من الباحثين أنها كانت تمثل نقطة تحول فى الفكر الأوروبى وتغيراً فى وجهة النظر تجاه القضية الفلسطينية وعلاقتها بالكيان الصهيونى وأيضا العلاقة الجدلية بين الحضارة الإسلامية والغرب.