لا كرامة «للجرافيتى» فــى مـصـــر

رحمة سامي
جيوش من الرسومات لفنانين مجهولى الهوية، اتخذوا من الجدران لوحات ضخمة يعرضون فيها أعمالهم وكأنه «جاليرى» عام يجسد فيه رجل الشارع العابر الجمهور المتفرج، «الجرافيتى» حقق انتشاره الكبير مع ميلاد «25» يناير، رغم أن بداية ظهوره كانت قبل الثورة بسنوات ضئيلة إلا أنه كان أشبه بـ «الابن الضال» الذى عثر على أهله وناسه فى الميادين.
الجرافيتى يعيش عصره الذهبى فى أوروبا وأمريكا، لكنه عندنا ملعون ومجرم من الناحية القانونية، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945 قسم الحلفاء ألمانيا إلى 4 مناطق محتلة تابعة للولايات المتحدة الأمركية، الاتحاد السوفيتى، بريطانيا، وفرنسا وفى حين يعج الحدث التاريخى بالكثير من الدلائل إلا أن الجداريات التى تركها الفنانون على جانبى حائط برلين كانت وستظل العلامة الأبرز، فرسوم الجرافيتى، سواء تلك التى رسمها الفنانون فى الجانب الغربى من الجدار قبل انهياره أو تلك التى سعى سكان ألمانيا الشرقية المحرومون من التعبير لحفرها على الجدار بعد انهيار أجزاء منه، حولت جدار برلين بلا شك إلى رمز عالمى للحرية فى التاريخ.
وفى عام 2014 عرض موقع أمريكى شهير، مجموعة مكونة من 25 رسمة جرافيتى لأبرز فنانى الشارع المعاصرين فى العالم، واختار الموقع جدارية مصرية بشارع محمد محمود فى المركز العاشر بين قائمتها.
هذا الاختيار يعكس التأثير الكبير للجرافيتى فى الشارع، فهو أسرع وأشد وسائل التعبير فضلا عن قدرته على تسجيل الحدث فى مكانة، انطلق الجرفيتى، فى 2007 على يد مجموعة هواة من شباب أغلبهم مشجعون للكرة، ثم اتسع وجوده ولكن فى نطاق الألتراس وأحيانًا فى الانتخابات البرلمانية بشكل بدائى خال من الإبداع المرتبط بالحدث، حتى كان الخروج الكبير فى 25 يناير 2011 هنا اشتعلت مختلف الفنون حيوية وإبداعا خاصة القائمة على اختفاء هوية أصحابها وكان أولها فن الرسم على الجدران «الجرافيتى» فأصبحت هواية مرتبطة بالثورة وميلاده فى ميدان التحرير وميادين رئيسية كانت تهتز من قوة الهتافات، الثورة أمدت فنانيها بالأفكار ورسامو الجرافيتى ردوا لها الجميل بتوثيق الحدث الأعظم الذى شهدته مصر حتى الآن، فخلقت روح الانسجام بين الفن المشرد والثورة اللقيطة وكأن هناك عقدا مبرما بينهما بالإلهام والتوثيق، فلن يبخل الميدان على أبنائه بالأفكار والاقترحات ومقابل ذلك لم يتوقف الفنانون لحظة واحدة على ابتكار جداريات أبهرت العالم.
ارتبط فن الجرافيتى فى ظهوره ببعض الفنون الأخرى المتسمة بالغموض، والمظاهر الاجتماعية غير المعلنة كفنون الأندر جراوند، أغانى الشيخ إمام، أشعار أحمد فؤاد نجم، فتصبح كل رسمة هى لوحة مدمجة لتوثيق حدث ما مزخرف بكلمات من أشعار هؤلاء.
فأصبحت جدران الشوارع المحيطة بميدان التحرير بشكل عام وجداريات شارع محمد محمود، بشكل خاص بداية من سور الجامعة الأمريكية بوسط القاهرة، لوحة فنية كبيرة مليئة بالأحداث ووجه الشهداء، معارك الثوار، دور النساء، دماء الشهداء، فبمجرد مرورك تعيش مع فنانين مجهولى الإمضاء، حالة من الكر والفر بين الميدان والقفز على الأحداث من صورة لأخرى فتظل عالقة بالأذهان حتى بعد مسحها مرات عدة.
فن الجرافيتى هاجمته الأطراف المختلفة، بداية من قيام شباب عمرو خالد بإزالة جرافيتى الميدان بعد الثورة مباشرة بحجة محو الماضى بذكرياته المؤلمة، فى المقابل بعد الثورة وفى هوجة الأحداث الماضية تم طرح مقترح إزالة مبنى الحزب الوطنى المحروق، فاعترض شباب الثورة على محو هذا الأثر الذى يرمز لثورتهم فكيف لرسومات حية ناطقة على الجدران أن تكون رمزًا لماض بغيض يجب محوه، وإن كانت لحظاته المبهجة أتت بعد فيضان الدموع على شباب استشهد، إلا أنه يظل رمزا لثورة شباب.
شوارع وسط القاهرة امتلأت برسومات وصلت إلى الجدران الخرسانية، التى فصلت الشوارع الجانبية بشارع «محمد محمود»، والمؤدية إلى ميدان التحرير، ووزارة الداخلية.
لن ينتهى دور الجرافيتى بأفول نجم «25» يناير من الميادين، فظلت تابعات الثورة كالشريان المانح للجرافيتى وظلت الأفكار على الحوائط منتفضة بنبض الأحداث، تمثل وسيلة فعالة لتوعية المواطنين، وحثهم على الانتفاض ضد كلمة «نعم» إلا أن الأمن تعامل سريعًا مع هذه الرسوم، سواء باعتقال الرسامين، بتهمة إتلاف ممتلكات عامة، والرسم على جدران منشآت حكومية، وآخرين بتهمة تعليق لافتات تضر بالأمن العام.
لم يقتصر الهجوم على الجرافيتى فى مصر على الجهاز الأمنى، بل كان للمواطن العادى دور مهم فى اصطياد الرسامين الجرافيتى فى الأحياء والميادين، كنمر جريح فى انتظار فريسته فتعرض الكثير من رسامى الجرافيتى للحبس بعد تسليم المواطنين العابرين لهم لأقرب قسم شرطة، بتهمة التجسس وإشعال الفتنة بعلبة ألوان وإسبراى.
لكن الأضطهاد الذى لاحق الجرافيتى، كان أشبه بالتوقف فى محطة قطار لفترات، وليس انقطاعه نهائيًا ففى معظم محافظات مصر تشكلت جماعات متناثرة بعضها سرى وبعضها معلن تخصصت فى إنجاز أعمال الجرافيتى المعبرة عن قضية بعينها أو حادث مؤثر فأصبحت المحافظات جميعًا تتناول الأخبار من قبل الجداريات، والحواجز الخرسانية، ورسخت مقولة جديدة بأن «الحيطان ليست فقط لها ودان ولكن ليها صرخات كمان».
بعد مرور أكثر من 6 سنوات على 25 يناير، لم تتحقق أهدافها بعد، وهناك صعوبة فى تحقيقها، كما حدث مع الجرافيتى الذى أبهر الجميع وكان يترجم الكلمات المحبوسة فى صدورهم، ويظن - والظن هنا إثم - الجميع أنه مات أو انتهى إلى غير رجعة.