الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

ملوك وفنانون وتجار «تحف»

ملوك وفنانون وتجار «تحف»
ملوك وفنانون وتجار «تحف»


رائحة غريبة ورائعة فى نفس الوقت، لعله التاريخ الذى ينثر عطره على كل من تسوقه قدماه أو يسوقه قدره وعشقه لتلك الهواية المجنونة التى تحتاج إلى ثلاثة أشياء «عمر نوح» و«صبر أيوب» ومن قبلهما «مال قارون». هواية جمع التحف والأنتيكات التى تأخذ صاحبها إلى متعة خاصة تتجدد كلما انفرد بمقتنياته الرائعة كى يتحاور معها ويغازلها وينفض بها هموم يومه وأرق حياته. ففيها متعة
- لمن يقدر قيمتها- لامثيل لها.

التاريخ كله على أرصفة أسواق ومحلات التحف والأنتيكات حاضر بكل تجلياته ومخترعاته، كالساعات الجدارية والمائية والرملية التى كانت تستخدم فى ضبط الوقت منذ عصر الفراعنة مروراً بعصور الإغريق والرومان، ووصولاً إلى العصور القبطية والإسلامية. هذا بخلاف أجهزة الجرامفون والريكوردر والراديو والتليفزيون القديمة التى تعود إلى أوائل ومنتصف القرن العشرين، وكذلك العملات المعدنية «ذهب، فضة، نحاس، ألمونيوم» والورقية والهواتف القديمة، والأباريق والموازين والأسطوانات والمكاييل التى يرجع تاريخها إلى العصور الماضية وحتى الأسرة العلوية مثل المكاييل المختومة بأختام «السلطان حسين» و«الملك فؤاد» و«الملك فاروق». قائمة الهواية لا تخلو أيضاً من التماثيل النحاسية والبرونزية العتيقة، والطوابع البريدية والوثائق الشحيحة والشمعدانات التى تعود لحقب تاريخية سابقة، واللوحات الفنية المميزة، كلها مقتنيات نادرة تعج بها الأسواق والمحلات فى انتظار من يعرف قيمتها. تجارة لها أصحابها، بين تجار وهواة يزينون قصورهم وبيوتهم الفاخرة، ويتمتعون بها ويتربحون- أيضاً- من ورائها حتى يعوضوا بعضاً مما ينفقونه على هواياتهم المكلفة. الهواية سواء كانت هواية فقط أو تجارة تتطلب من أصحابها أن يتمتعوا بثقافة تاريخية عالية، لتقييم التحف الفنية وتحديد قيمتها التاريخية والمادية، وكذلك لتمييز الحقيقى منها من المزور، خاصة أن الوسط يضم العديد من محترفى النصب والاحتيال.
تجارة التحف والأنتيكات أصبحت فى الربع قرن الأخير تجارة رائجة فى السوق المصرية، ويعد الخواجات ليفى اليهودي، وكاسكو الإيطالي، ومخاليدس اليوناني، أول من أسسوا صالات الأنتيكات فى مصر خلال ثلاثينيات القرن الماضى التى وصل عددها إلى نحو 10 صالات شهيرة ما بين القاهرة والإسكندرية والتى كان يرتادها عدد كبير من هواة القطع النادرة خاصة من صفوة المجتمع من الباشوات والهوانم. فئات جديدة دخلت إلى هذا العالم من الهواة والتجار فى السنوات الأخيرة كرجال الأعمال والمسئولين والفنانين والشخصيات العامة، ويقدر الخبراء حجم هذه التجارة فى السوق المصرية الآن بنحو «2» مليار جنيه، خاصة مع تزايد أعداد صالات بيع التحف والأنتيكات وقاعات الجاليري.
من أشهر الشخصيات التى عرفها عالم التحف والأنتيكات على مر التاريخ «الملك فاروق» الذى يعد على رأس قائمة الهواة، ولم يكن لديه مجال واحد فقط متخصص فيه، بل كان يعشق تجريب كل المجالات من تحف وأنتيكات وعملات وطوابع ووثائق، فكان رؤساء وملوك العالم كله يحرصون على إرسال أحدث الإصدارات من العملات والطوابع له فور صدورها، وكان يخصص لها وقتاً من يومه ما بين الخامسة مساءً وحتى السابعة لممارسة هوايته التى قدر قيمتها- آنذاك- بـ«5» ملايين جنيه مصري، وكان الجنيه المصرى يساوى وقتها جنيهاً ذهبياً وخمسة تعريفة.
«مكرم عبيد» الذى كان وزيراً للمواصلات والمالية فى عهدى الملك «فؤاد» عام 1928م والملك «فاروق» عامى 1936م و1946م كان عاشقاً للتحف والأنتيكات وقدرت قيمتها وقتها بـ«مليون» جنيه مصري، «عبيد» كان خبيراً فى التحف وماركاتها العالمية وكان يتبارى هو و«فؤاد سراج الدين»- الذى شغل منصب وزير الزراعة والشئون الاجتماعية والمواصلات والداخلية فى حكومات متعاقبة أيام الملك «فاروق»- على اقتناء أفخم الماركات وأندرها سواء الإيطالية أو الفرنسية أو الإنجليزية وكان يستطيع تمييز التحف والأنتيكات من خفة وزنها ونعومة ملمسها، ومن أكثر الأشياء التى كان يقتنيها «عبيد» ولها مكانة لديه طقم صالون ماركة «لويس الرابع عشر» بخلاف مجموعة كبيرة من فازات «الجاليه». والسيفر والكريستال والمورانو كذلك «أحمد ماهر» وزير الخارجية الراحل كان عاشقاً للساعات التى كان يقتنى منها مجموعة كبيرة وصل عددها إلى نحو 150 ساعة بماركاتها النادرة سواء ساعات الجيب أو ساعات اليد الذهبية والفضية منها «التروماي»، «ليبية»، «لونجين»، «يونيفرسال»، «هوبلوت»، «زينيت»، «باتيك فيليب». أما أشهر المسئولين فى المرحلة الأخيرة الذى كان يتنفس التحف والأنتيكات عشقاً فهو د.حسين كامل بهاء الدين وزير التربية والتعليم  الأسبق، كان عاشقاً ليس فقط على مستوى الهواية، ولكن الأمر تطور عنده لدرجة الاحتراف وكان دائم التردد على صالات المزادات قبل توليه الحقيبة الوزارية، بعدها كان يرسل من ينوب عنه لشراء أفخم المقتنيات وأندرها، كما كان دائم التردد على محلات التحف والأنتيك بوسط القاهرة. من مقولاته الشهيرة: إن التحفة يرتفع ثمنها كلما مر عليها الزمن، وكان يؤكد دائماً أن هواية التحف تحتاج إلى خبرة ودراسة ومعرفة بحركة البيع والشراء علاوة على الذوق الرفيع.
وعن كيفية تقييم وتصنيف التحف كان يؤكد رحمة الله عليه: أن التحفة التى يتعدى عمرها المائة عام فيما أكثر فهى أنتيكة أما إذا تعدت الـ 250 عاماً فتعتبر من الآثار.
أما قائمة الفنانين فتضم «هانى شاكر» الذى يعتبر من أشهر هواة التحف والأنتيكات فى الوسط الفنى، وهى هواية بدأت معه منذ ما يزيد على ثلاثين عاما، وبدأت بالمقتنيات الفضية والسيوف والخناجر، لدرجة أنه كان يخصص يوم الجمعة من كل أسبوع لتنظيف مقتنياته بنفسه والاستمتاع بها، وهى الهواية التى خرجت فيما بعد من حيز الهواية إلى حيز التجارة، وهو ما فعله أيضاً «محمود عبدالعزيز» ولكن فى مجال اللوحات الفنية المصرية والعالمية النادرة والتى تتخطى أسعار بعضها حاجز المليون جنيه، ويحرص دائماً «محمود عبدالعزيز» أن يستقبل تجار التحف والأنتيكات فى مكتبه لإنهاء الصفقات بعيداً عن صخب الأسواق والمحلات الذى كان يعشقه «نور الشريف» رحمة الله عليه، فكان يهوى النزول إلى أسواق الجمعة وخان الخليلى لشراء المقتنيات التى كان فى أغلبها كاميرات وكتب وتحف وسيوف وخناجر ووثائق قديمة، وإن كانت المسألة عند «الشريف» تختلف كونها هواية أكثر من تجارة، نفس الشيء بالنسبة لـ«فيفى عبده» التى تعشق التجول فى أسواق «الجمعة» و«المنيب» و«المطرية» لشراء التحف والأنتيكات وخاصة النحاسية والفضية، وتفضل فى كثير من الأحيان أن تصطحب معها ابنتيها «عزة» و«هنادي».. كذلك «هند رستم» و«محرم فؤاد» رحمة الله عليهما و«ماجدة» و«حسين ومصطفى فهمي» و«محمد الحلو» وظل الدافع وراء عشق هؤلاء للتحف والأنتيكات الهواية فقط وليست التجارة، ويعد رجل الأعمال «إبراهيم كامل» من أهم هواة التحف والأنتيكات والحريصين على التواجد بصالات المزادات بشكل دائم، وهو من النوع العنيد فى عشق الهواية، فإذا استهوته أية قطعة لن يتركها إلا إذا حصل عليها مهما كان ثمنها ومهما كانت قوة الخصم، ففى أحد المزادات اشترى تمثالاً بـ «250» ألف جنيه مصرى بعد منافسة قوية مع أحد المزايدين بدأت بـ«100» ألف جنيه مصري، ووصلت إلى السعر الذى رسى به المزاد عليه.
من أندر المقتنيات التى يحتفظ بها «محمد الحلو» غرفة «سفرة» دخل عليها فى منافسة حادة مع سيدة أخرى كانت ترغب فى شرائها، إلا أن المزاد رسى عليه، بعد أن ظلا يرفعان السعر حتى خرج جميع المنافسين من السباق فى ذهول من حدة المنافسة بين «الحلو» و«السيدة»، وانتهى الأمر لصالح  «الحلو» بعد وصول السعر لـ«150» ألف جنيه مصري، وهى من الغرف النادرة التى لا يقل سعرها الآن عن نصف مليون جنيه. كما يعتز «الحلو» بزجاجة قديمة لـ«كوكاكولا»، يعود تاريخها إلى عام 1898م، ثمنها وصل إلى 2000 جنيه مصري، ومن أندر المقتنيات التى يحتفظ بها «حسين فهمي» زجاجة خضراء اللون من أحد أنواع الأحجار الكريمة النادرة لأحد أنواع العطور يعود تاريخها إلى عام 1910م، وصل ثمنها 40 ألف جنيه مصرى وهى أشياء تبدو لأى شخص أنها أشياء عادية لا قيمة لها لكن فى أعين هواة جمع التحف، لها قيمتها، التى يتنافسون من أجلها ويحاربون للفوز بها بأى سعر.
كثير من الشخصيات العامة التى تهوى التحف والأنتيكات يكون لديهم حب التملك والاحتفاظ بالأشياء الثمينة، وهم يتصورون أن بامتلاكهم لأكبر عدد منها فيه إشباع لرغبتهم للدرجة التى تتخطى حدود التشبع إلى الإحساس بأن لديهم متحفًا صغيرًا.
وينفى بعضهم أن يكون وراء هذا الشغف حب المفاخرة بحجم وقيمة ما يقتنيه وإنما الأصل هو ما تحمله المقتنيات التى يقتنيها من روح إنسانية وقيمة تاريخية.
ربما الزمن أبهت قطعة الأنتيك، أو انقض على بعض تفاصيلها، لكنها تبقى حاملة لـ«نوستالجيا» تاريخية تعكس روح العصر ومزاجه الفني، وعندما نشتريها نستحضر الزمن القديم وكأننا جزء من تفاصيله، نحاول أن نحفر فى خطوط تجاعيده بعضًا من حكاياتنا الحاضرة.
فكل قطعة أنتيك نقتنيها، تروى حكاية حرفى من ذاك الزمان، أمضى يومه فى تصميمها وتشكيلها بيدين عملتا أسابيع وأشهر بدقة أخرجتها إلى الواقع فصمدت إلى أن وصلت إلى عصرنا الذى يختصر جهد الأيام بساعة، فيخرج قطعة جميلة لا تشيخ بسرعة الآلة التى صنعتها.. المزادات التى تحرص الشخصيات العامة من- سياسيين وفنانين ورجال أعمال- على حضورها تتم كل شهر فى إحدى الصالات الأربع الموجودة بالقاهرة فى «مصر الجديدة» و«الزمالك» و«المعادي» و«وسط البلد» من إجمالى 10 صالات كانت فى الماضي، وفى حالة وقوع المزاد على شخص منهم عليه أن يدفع %50 من قيمة القطعة التى حصل عليها- كعربون- إجبارى لضمان المصداقية وعمولة %10 تقسم ما بين عمولة صالة المزاد وما بين الرسم الحكومى الخاضع لإشراف وزارة التضامن الاجتماعى التى يتحتم وجود مندوب منها فى المزاد، وإذا تراجع المشترى عن قراره يضيع عليه العربون والعمولة معا.
تبقى مشكلة أن بعض رواد المزادات من الأغنياء ورجال الأعمال الجدد ليس لديهم معرفة كافية بالقيمة الحقيقية للأنتيكات والتحف المعروضة، فيرفعون الأسعار بدرجة تفوق السعر المناسب لقلة الخبرة أو حبا فى الظهور، ولذلك يمتنع كثير من  المحترفين عن الحضور خاصة من المشاهير أمثال «هانى شاكر» و«حسين ومصطفى فهمي» ويكتفون بإرسال مندوبين عنهم. أما معظم  الأنتيكات التى يتم عرضها بصالات المزادات فتأتى من قصور الباشوات القديمة عن طريق الورثة خاصة من أسرة «محمد علي»، والعائلات الأروستقراطية مثل عائلة «سراج الدين».أو من التجار الكبار الذين يمتلكون كما لا حصر له من التحف والأنتيكات.