الإثنين 17 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

وخــراب يا إسكنـدريـة

وخــراب يا إسكنـدريـة
وخــراب يا إسكنـدريـة


«مرحبا بك فى الإسكندرية».. تلك عبارة تدغدغ القلب، لها وقع خاص عند كل «إسكندرانى» شد القلوع إلى مرافئ الغربة، وعند كل مصرى يعشق «العروس الفاتنة» ويتنسم فى رائحة اليود المنبعثة من أمواجها سحر التاريخ.. ولا يلتمس تاريخ الإسكندرية فى بحرها الذى يقول عنه شاعرنا الراحل أحمد فؤاد نجم إنه حضن مصر المفتوح على القارة العجوز، فمبانيها التاريخية أيضا تروى قصص الذين مروا فعاشوا فأصبحوا جزءا من مفرداتها الثقافية.

لكن.. هذا التاريخ يتعرض لهجمة خرسانية شرسة، تستبدل الذى هو قبيح بالذى كان جميلا، فخلال الأعوام الثمانية الماضية خرج 36 مبنى أثريا وڤيللا من مجلد التراث الذى يضم المبانى التى لا يجوز هدمها، ومن هذه المبانى 28 تم رفعها خلال العامين الماضيين وحدهما.
هذا الهدم أو التجريف لمعالم المدينة الحضارية وذاك المسخ المنهجى لشخصيتها يجرى بمباركة مسئوليها الذين ينحازون بقراراتهم البربرية إزاء المدينة إلى القبح ويشيعون «القباحة».
الراية البيضاء
أخيرا رفعت ڤيللا «مفيد أبوالغار» الراية البيضاء، صحيح أن العمل الدرامى الذى كتبه الراحل أسامة أنور عكاشة انتهى قبل 22 عاما نهاية مفتوحة، حينما اقتعد المدافعون عن الجمال الأرض فى وجه «فضة المعداوى»، إلا أن النهاية المفتوحة أصبحت «مقفولة».
ڤيللا أبوالغار هى ڤيللا «عثمان باشا محرم»، شيخ مهندسى مصر والعرب ووزير الأشغال فى 14 وزارة قبيل ثورة يوليو، أصبحت أطلالا، وإلى جوارها ڤيللا أخرى للرجل لم يدركها «البلدوزر» فلم تتركها يد الإهمال، فإذا بجدرانها تحمل لافتة «للهدم».
وإلى «بولكلى» وبالتحديد دير سانت كلير الذى اشترته شركة «العمران للإنشاء والتعمير» بهدف إقامة مشروع تجارى مكانه رغم أن لجنة توجيه الهدم التابعة لمديرية الإسكان والمرافق بالإسكندرية أصدرت تقريرا عام 2004 ينص على «عدم الموافقة على هدم العقار لأنه ضمن مجلد حفظ التراث المعمارى بالمدينة»، إلا أن أعمال التخريب بدأت به، دون الالتفات إلى قيمته التاريخية التى تعود لآواخر القرن التاسع عشر أو إلى قيمته الفنية وتصميمه المميز.
وفى 16 يوليو 2011 انتهى المبنى الرائع وتناثرت أحجاره وزجاجه المعشق وانتشر الركام فى حديقته التى كانت تضم أندر النباتات.. وحاليا بدأت عمليات إقامة الكتل الأسمنتية القبيحة على الطراز الأمريكى البارد.
يد التشويه لم ترحم ڤيللا النقيب فى «أبوقير» التى تعود إلى أحمد باشا النقيب الطبيب الخاص للملك فاروق وكانت المقر الصيفى للنقيب أثناء وجود الملك وأقامت بها الملكة ناريمان بعد زواجها من نجله الطبيب أدهم النقيب ثم أقام بها أكرم النقيب نجل الملكة ناريمان، حتى قرر فجأة هدم الڤيللا دون إبداء أسباب رغم وجودها فى سجل الحفاظ على التراث السكندرى.
وفى بداية يوليو عام 2012 أزيلت الڤيللا التى كانت تهجع وسط الأشجار ودون إظهار ما يفيد استخراج رخصة هدم، والآن ليس فى مكانها سوى إعلان عن تشييد برج سكني.
وإن أردت أن تمنح نفسك قسطا من الراحة بعد ما شاهدته من أمور مفجعة، بمشاهدة فيلم فى إحدى أقدم دور السينما بالإسكندرية، «سينما ريالتو» التى تعد واحدة من الدور التاريخية لن تراها، لأنها تركت عمدا فريسة للإهمال، حتى اشترتها إحدى شركات «الاستثمار العقارى» ثم أعلنت عن تطويرها لإنشاء «ريالتو مول».
بقايا «إمبرون» و«إجيون»
«المطر يتساقط فى الغالب قبيل الفجر، فيثير قشعريرة الهواء.. يغسل أوراق النخيل والحواجز الحديدية للبنوك والأرصفة».. هذه الكلمات سجلتها« رباعية الإسكندرية»، للروائى البريطانى «لورانس دوريل»، فى هذا المكان: ڤيللا «أمبرون» التى وصلت شهرتها أنحاء  مختلفة من العالم مما جعل صحيفة « تليجراف» البريطانية تناشد الناشطين ومحبى رباعية الإسكندرية بذل جهدهم لإنقاذ المبنى التراثى من الهدم.
ترجع أهمية الڤيللا إلى كونها تحمل الطراز الإيطالى لعام 1920 وتضم الأعمدة الرومانية، وكانت مملوكة لعائلة المقاول الإيطالى «إمبرون» وزوجته الفنانة التشكيلية «إميليا»، وتضم برجا أثريا يجعلها تجمع بين سمات الڤيللا والقصر معا.
 كما أقام فيها «داريل» خلال الفترة من 1942م حتى 1956، حيث استأجر الطابق العلوى وعاش فيه حتى غادر الإسكندرية، كما عاش بها فنانون مصريون مثل عفت ناجى وسعد الخادم وجاذبية سرى حتى قرر آخر ملاكها هدمها لبناء برج.
المالك قال: «نعم نعرف أن لورانس درويل لديه أصدقاء ومحبون كثيرون، إذا كانوا يريدون شراء الڤيللا فأهلا بهم، فإذا كانوا يقدرون درويل وأعماله فلماذا لا يشترون المكان؟ وبعد ذلك شيد عمارتين داخل حديقة الڤيللا.
 ڤيللا «أجيون» التى يعود تاريخها لعام 1930، وهى من تصميم المعمارى الفرنسى «أوجوست بيريه» رائد استخدام الخرسانة المسلحة فى إنشاء المبانى، وفى 5 فبراير عام 1914 صدر ترخيص هدم الڤيللا، وبعد ضغوط شعبية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أوقف محافظ الإسكندرية حينها اللواء طارق المهدى قرار الهدم ووعد بترميم الڤيللا بعد تدخل القنصلية الفرنسية والتى هددت باللجوء إلى اليونسكو، وهو ما نقلته الصحف حينها تحت عنوان : فرنسا تنتفض لوقف  هدف ڤيللا (جوستاف أجيون)، ولكن يبدو أن القرار جاء متأخرا لأنه لم يعد هناك ڤيللا يمكن الحفاظ عليها بعد أن تم هدم جزء كبير منها، ولا تندهش  عندما  تعلم أن اليونسكو أدرجت الأبنية التى قام المعمارى بيريه بتصميمها فى قائمة التراث العالمى بسبب قيمتها الفنية والمعمارية العالية، والتى يحرص الآلاف من كل  دول العالم على زيارتها.
 زيزينيا التى كانت
 أيقظ دوى آلات الهدم سكان الشارع الذى يقع فيه ( قصر عبود) فى زيزينيا، رغم أنه مسجل بمجلد الحفاظ على المبانى التراثية بالمحافظة، ومعتمد بقرار من رئاسة الوزراء عام 2008 تحت رقم 4009 وكان قد تم تقديم تظلم من وكيل مالك القصر لحذفه من التراث وتم رفضه وإصدار قرار بترميمه، ثم حذفه من مجلد التراث بقرار من وزير الإسكان، حتى جرى الهدم خلسة فى الليل .
 القصر كان ملك (أحمد عبود باشا) والذى يعد واحد من أهم رجال الاقتصاد فى مصر إبان الحقبة الملكية، وإن ذهبت لرؤيته الآن لن ترى له  وجودا، وبذلك لحق قصر (عبود) بالڤيللا رقم (26) بشارع أحمد يحيى بزيزينيا، والتى تم هدمها بنفس الطريقة.
إلى جانب ما سبق، هناك 92 مبنى فى انتظار الهدم، منها ڤيللا (شيكوريل) التى أقيمت عام 1930 على طراز (آرت ديكرت) بأيدى أشهر المهندسين  الفرنسيين ثم جاءت قوانين التأميم ووضعت الڤيللا ضمن ممتلكات الدولة فى السبعينيات، وكان الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك مقيما بها أثناء (انتفاضة الخبز) 1977 حين كان نائبا للسادات وقتها، وتجمع المتظاهرون حينها أمام الڤيللا وحاولوا أن يقتحموها، حتى فوجئنا على يد جمعية أهلية  اشترتها من الشركة العربية للملاحة البحرية .
ومع بدء عملية الهدم، تحرك النشطاء والمثقفون وتم وقف أعمال الهدم بصورة مؤقتة حتى يصدر القضاء كلمته الأخيرة .
وليست ڤيللا (شيكوريل) فقط المعرضة للهدم، بل هناك مبان تراثية اصبح من الواجب حمايتها قبل أن نستيقظ فنجد مكانها أبراجا، ومن هذه المبانى ڤيللا (حافظ باشا عفيفي) رئيس الديوان الملكى للملك فاروق والتى أقيمت على التراث الإنجليزى، وحاليا تخربها إحدى الشركات حتى تعجل بإصدار قرار بهدمها ليحل مكانها مطعم .
ولا يختلف الحال كثيرا بالنسبة لڤيللا (سباهي) التى تشهد عملية وضع أحجار حمراء مكان الشبابيك والأبواب الخشبية، وتعلية السور المحيط بها، وهو نفس ما حدث مع العديد من المبانى التراثية قبل البدء فى هدمها ليلا، وهو ما جعل الناس تتحدث عن اتجاه مالكها إلى هدمها أو تشويهها، وهى الڤيللا الوحيدة بالإسكندرية التى شيدت على يد معمارى مصرى يدعى (على ثابت)، ذات تصميم مميز متأثر بالطراز الإيطالى، وأيضا ڤيللا (أمير البحار) بمنطقة (كفر عبده)، والتى يعود تاريخ إنشائها إلى مطلع القرن العشرين، والتى فوجئ أهالى المنطقة ببدء عمليات هدمها فأبلغوا الأجهزة الأمنية التى أوقفت أعمال الهدم، وألقت القبض على سبعة عمال وبحوزتهم المعدات .
من المسئول ؟
الدكتور زكى البحيرى أستاذ التاريخ بكلية التربية، جامعة المنصورة، يقول: إن ما يحدث من هدم للڤيللات ما هو إلا فوضى وعدم احترام للتراث، والأمر يقتضى أن نعطى اهتماما لتاريخنا، وتؤيده الدكتورة سحر درغام، أستاذ مساعد بقسم التصوير بكلية الفنون الجميلة جامعة الإسكندرية التى تقول: إن هدم التراث يمثل خسارة كبيرة لكل القيم الحضارية والمعمارية خاصة أن تراث الإسكندرية، تراث نادر مميز يجب أن نحافظ عليه، كما أن التصدى لهدم التراث  يتطلب رغبة قوية من الأفراد فى المحافظة على الجمال .
 وترى الزهراء عوض وهى مرشدة سياحية بالإسكندرية  ومتخصصة فى سياحة التراث، أن فقدان المبانى  التراثية، يفقدنا جزءا من تاريخنا وجزءا من (سياحة الجذور) وهناك عائلات كثيرة تأتى لرؤية الأماكن التى عاش بها أجدادهم بالإسكندرية مما يجعلهم يقيمون بالمدينة مدة أطول ويدعون غيرهم إليها .
وتنوه سالى سليمان مرشدة سياحية وباحثة فى التراث المصرى أن هدم المبانى التراثية يحدث من فترة طويلة لكن بدأ طرحه إعلاميا بعد الثورة، كما أن المشكلة لم تقتصر على القاهرة والإسكندرية فقط بل تعانى منها أغلب المحافظات، والملف ليس مطروحا على طاولة المسئولين، كما أن قطاع التراث يعانى من الإهمال  والجميع يشترك فى الانتهاك لذا يجب تحسين المنظومة بأكملها ودعم أصحاب العقارات حتى لا يكون لديهم مبرر لهدم  تلك المباني، كما أنهم جزء من (حدوتة التراث) .
ويؤكد المهندس أحمد حسن، عضو مؤسس بمبادرة ( أنقذوا الإسكندرية)، أنهم لم يجدوا استجابة من المسئولين عندما تقدموا بعريضة تتضمن حلولا للمشكلة، موضحا أن الحل بين ايدى المسئولين، فكثير من المبانى التراثية ضاعت بسبب عدم تطبيق القانون وعدم اهتمام الجهات المسئولة بملاحقة من يخربون التراث، معتبرا أن أغلب ملاك العقارات التراثية (مظلومين) وبحاجة للتعويض والدعم حتى لا يضطروا للخيارات المرة.
ويوضح محمد سعد خيرالله المحامى أن ما يحدث هو تحايل على القانون لخروج المبانى من المجلد ومن ثم تهدم لصالح مافيا العقارات والأراضي، مضيفا أنه توجد ثغرات بالقانون ويجب تلافيها.