الأربعاء 20 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

مجانين بمصر


عبدالله كمال 14 أغسطس 2010 3:00 م
 
بالتأكيد هذا فعل مجنون.لكن بعض الجنون يصنع التاريخ، وقليل منه قد يكون دفقة حيوية في الصحافة. إنه تعبير عن عشق البلد.. ولايخلو عشق من جنون.. إن لم يكن كله كذلك.

لقد اعتادت الصحف، حين تقرر أن تلتحم برحيق الإبداع وروح الثقافة، أن تنشر بعضا من القصائد.. أو قدرا من الإبداع لمؤلف من هنا أو هناك.. وفي بعض الأحيان تفرد صفحة في مجلة لقصة أديب ليس معروفا.. أو علي أقصي تقدير، تخصص بابًا.. يفقد دفعته بمضي الوقت.. إما مللا أو تململا.. أو لأن الصحف لاتريد أن تواصل مثابرتها في البحث عن الكنوز في عمق تربة مصر. لكننا تجاوزنا في هذا العدد كل هذا. ذهبنا إلي أقصي حد.. قررنا أن يكون العدد برمته من أوله إلي آخره مخصصا للشعر العامي.. وهو سلوك لم يسبقنا إليه أحد.. وبقدر كون هذا عملا فريدا وغير مسبوق وغير معتاد.. فإنه لاشك يتمتع بقدر مميز من الجنون.. فهل أنت تقوي علي احتماله؟.. أعتقد أنك كذلك. فهو في النهاية جنون مفيد ولذيذ.

سوف أشرح لك الأمر وما هي مبرراتنا.

سأعود بك إلي العدد الذي أصدرناه قبل نحو الشهر. عدد كان من أوله إلي آخره (صفحات كاريكاتير).. في هذا العدد كنا نجدد الالتحام بمقومات شخصية «روزاليوسف» وطبيعة المجلة.. التي منذ أن نشأت كانت ولم تزل بيتا للنقد الساخر والحاد.. خصوصا من خلال الكاريكاتير.. الذي يمثل ملامح شخصية مجلة «روزاليوسف» طيلة 85 عاما.

هذا العدد، الجديد الذي بين يديك، يصب في هذا الاتجاه، التحام آخر بروح المصري الساخرة والناقدة، فالشعر العامي باعتباره روح الثقافة المصرية وصوت الشارع غير الخاضع لأي أچندة.. يمثل نقدا صادقا لجوانب الحياة المختلفة.. للسلطة وللعادات وللمصريين أنفسهم الذين ينطق الشعر باسمهم ويعبر عنهم.. إنه تجسيد لملامح شخصية «روزاليوسف».. كما أنه سعي إلي مزيد من البهاء لمصر.

إن الأدب أقرب إلي أن يكون تعبيرا عن حالة اكتئابية.. فالأديب بطبعه لايكون راضيا.. يأسره الحلم.. ويحتله الطموح.. ولا يقنع بما حوله.. ويعتقد أن هناك ما هو أفضل، لابد أن نسعي إليه متحفزين بإبداعه ومتشجعين بما يكتب.. ومن ثم فقد تعثر علي السوداوية بين السطور.. وعلي الرفض معلقًا في رقاب القوافي.. وعلي الغضب كامنًا في بحار الأبيات.. ولكن الصفحات في إجمالها رسالة مفعمة بالأمل.. ترفض الاكتئاب وتهرب إلي الأحلام.

ولكن هؤلاء الشعراء- حتي لو كان فيهم الغاضبون - فإنهم صادقون. لاتحركهم أچندات.. وإنما تدفعهم روح الإبداع. ولاتسيطر عليهم رؤي مسبقة.. ولكن تخالجهم نفوس قفازة.. وليسوا- في الأغلب- أسري برامج سياسية.. حتي لو كانت تطيح برءوسهم الشعارات.. ومن ثم فإنهم محبون مخلصون.. ونحن ننحاز إلي هذا النوع من الحب.. وليس إلي الزيف.. لانؤيد الادعاء.. ولانفر إلي الكذب الملتحف بوطنية مزورة تخفي مصالح،الله أعلم بها.

أنا شخصيا أختلف كثيرا جدا مع مضمون قصائد عديدة يتضمنها هذا العدد. ولو أعملت عقلي السياسي فيها ما كنت قد وافقت علي نشرها.. ولكنها نشرت.. بكل أريحية وترحيب.. لسبب بسيط جدا وهو أنها ليست منشورات.. وليست حتي مقالات.. وإنما قصائد ورباعيات وأغان.. أي إبداع.. وفن.. لايجب أن نتعامل معه بمنطق الأسير الذي ينتظر قرار الإفراج عنه.. خصوصا أنه صادق.. ومحب.. ووطني.. ويرفل في نعيم عشق هذا البلد.. و«روزاليوسف» معبد للفن بكل أشكاله، والإبداع بكل صوره.

والشعر العامي بطبيعته ثائر.. فائر.. هادر.. وفي كثير منه يسارية تفوق ما يؤمن به اليساريون.. ولكنه ليس برنامجا سياسيا.. إنه صوت الشارع.. الذي يحتج.. ولايهدم.. لن تجد قصيدة عامية يمينية.. لأن الشعر العامي لم يولد إلا في الأكواخ والحارات والقري البعيدة.. مستلهما روح البساطة المصرية.. بعيدا عن تعقيد النظريات الاقتصادية.. وهو يتميز بالتحرر.. والأفق المفتوح.. ومن ثم فإنه يخلو من التطرف.. يرفض الأسلمة والمسحنة.. ولايتعلق في لحية.. ولايلعق أحذية القداسة.. وهو بطبيعته ضد القيود التي يفرضها المتطرفون.. ومن هنا يتسق هذا مع رسالتنا.. وفي زمن سبق، كانت ولم تزل مطبوعات «روزاليوسف» المنبر الأهم للشعر العامي.. ومناصريه.. هنا كانت تنشر القصائد الأهم للشاعر الراحل العظيم «فؤاد حداد».. وهنا في هذا البيت عاش وتربي وأبدع شاعر العامية المبهر والصحفي الكبير والكاريكاتيرست المدهش الأستاذ «صلاح جاهين» صاحب أشهر رباعيات مصرية.. المعجون بتربة هذا البلد.

وحين ننشر تلك القصائد في هذا العدد، الذي نعتقد أنه أقرب ما يكون إلي (ديوان مصر)، فإننا ننحاز إلي الثقافة المصرية.. إلي روحها ورحيقها.. إلي أصولها وعمقها ورونق مضمونها.. هذا الشعر هو جذر (المصرية).. لأنه موجز التراث العريق والأمثال اليومية ومن قلب حديث الناس.. لم تلوثه الاتجاهات الأدبية المتصارعة.. ولم تدهسه صرعات الحداثة.. ولم تقترب من بكورته أصابع العبث.. رغم أنه يتطور وينضج وتتضح فيه معالم جديدة ولغة مذهلة ومفردات مدهشة.. وفي هذا العدد سوف تكتشف من خلال الصفحات قاموسا محتشدا للغة أهل مصر في 2010 .

كما أن هذا انحياز منا للمبدعين الذين لم تسمع عنهم.. ولم تقترب منهم إضاءات.. ولم تسلط عليهم كاميرات.. لقد تعمدنا، ونحن نجهز هذا العدد ،ألا ننحاز إلي رموز الشعر العامي المصري الذين يملأون السمع والبصر.. مع كامل الاحترام لهم.. أتحنا المسرح لغيرهم.. علما بأن من لم تجدهم هنا هم ملوك المسرح والأساتذة الذين نوقرهم.. ولكننا رأينا أن جزءا من رسالتنا أن نبحث عن الكنوز التي لن تعثر عليها ببساطة، وعن الإبداعات التي سوف تجد صعوبة في أن تصل إليك.. وهذه هي بعض من ملامح «روزاليوسف» بيت الفن الذي أسسته سيدة الفن.


ولاشك أن العدد بمواصفاته تلك يناسب الأجواء الرمضانية.. غير أنه ليس نوعا من وقود المسامرة وحطب التسلية.. ففي مضمون القصائد أعمال عقل عاصف.. وفي قلب الشعر الذي ننشره خيال مفتوح وأفق لا محدود.. يمثل رسالة إلي الجميع - خصوصا النخبة المنغلقة علي ذاتها - مؤداها أن في مصر آخرين غيرهم.. لديهم اهتمامات مختلفة وشئون وشجون وهموم.. ولابد من التعامل مع هذه المضامين علي أنها نداءات من عمق مصر.. ينبغي الإنصات لها.. خصوصا من تلك النخبة التي تعيش في غرف معزولة وتظن أنها تعرف كل شيء.

إنه في النهاية أغنية. إذ إن كل شاعر من هؤلاء هو مشروع أغنية تبحث عن طريقها إلي القلوب والأفواه والآذان.. أغنية وضع فيها كل شاعر قدم لنا إبداعه بيتا أو شطرا.. وقد غنيناها معهم.. وحاولنا أن نساهم في تلحينها.. وسعينا إلي أن ندون النوتة التي سوف تتردد في خلفيتها.

هذا عدد مجنون. ولكنه جنون حميد فيما نعتقد. جنون المحبين. وقد كان قيس محبا، وإن وصم بالجنون. وكم في مصر من مجانين يحبونها بمشاعر جارفة تفوق وله قيس ابن البادية.. خصوصا أنهم ليسوا من أبناء عمومة البلد - كما كان قيس لليلي - بل من رحمها وشغاف قلبها ولفائف عمرها.

في ختام هذا التقديم، لابد أن أوجه التحية إلي الثلاثي الرائع الذي بذل جهدا كبيرا في إعداده.. وتقديمه بالصورة التي هو عليها.. إلي الأستاذ الشاعر أسامة عبدالصبور الذي ترصع قصائده صفحات «روزاليوسف» منذ أشهر.. متميزا بموهبة متفجرة.. وقدرة إبداعية مذهلة.. وروح وثابة.. وقد أصبح فيما بيننا منا كما لو أنه قد ولد بين ظهرانينا منذ عقود.. وهو الرجل الذي قضي أسابيع في جمع القصائد والسعي وراءها والوصول إلي كاتبيها.. إذ تربطه شبكة علاقات ومتابعات متسعة مع عديد من شعراء العامية في مصر.. وقد كان موضوعيا في اختياراته وراقيا في انتقاءاته.. متسما بترفع عن ذاتيته.. ولايوجد شاعر لايعشق ذاته.. فالشعر ذاتية مفرطة قبل أن يكون أي شيء آخر.

وأحيي زميلي وصديقي الأستاذ محمد هاني مدير التحرير.. المتعدد.. وكنا في الجيش نعرف بعض الأسلحة بأنها «متعددة».. ذلك أنه تحمس لفكرة شاعرنا «أسامة».. وأمسك بعنقودها ولضم جواهره.. ونقل إلينا جميعا في فريق المجلة حماسه وانشغاله بالفكرة غير المسبوقة.. وسهر طيلة الأسبوع الماضي علي تجهيز هذا العدد الذي يمثل نوعا مختلفا من التحرير الصحفي، بمعاونة فريق مخلص من محرري «روزاليوسف».

كما أسجل احترامي المتجدد لفنية زميلي وصديقي الدكتور «سامح حسان».. الأستاذ المساعد في كلية الفنون التطبيقية.. والمدير الفني لـ«روزاليوسف» «الجريدة والمجلة».. الذي قدم طرازا مختلفا من الفن الصحفي في عدد الكاريكاتير.. ولم نكد نهضم ما أبدعه قبل شهر حتي فاجأنا بهذه الوجبة الفنية المختلفة والفريدة متفوقا علي نفسه.. إذ لايوجد من يضارعه في إخراج المجلات في مصر ومحيطها.
 


عبد الله كمال

يمكنكم مناقشة الكاتب وطرح الآراء المتنوعة على موقعه الشخصى

www.abkamal.net

أو موقع روزاليوسف:


www.rosaonline.net

أو على المدونة على العنوان التالى:

http//alsiasy.blospot.com

أو على صفحة الكاتب فى موقع الفيس بوك أو للمتابعة على موقع تويتر:

twitter.com/abkamal

البريد الإلكترونى

Email:[email protected]