الإثنين 8 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
الثورة على جغرافيا العشوائيات.. ماذا حدث لأطفال المناطق البديلة؟

الثورة على جغرافيا العشوائيات.. ماذا حدث لأطفال المناطق البديلة؟

لم تكن العشوائيات مجرد مبانٍ متلاصقة حد التلاحم، ولا أزقة ضيقة تتناسل منها حكايات الفقر، بل كانت حالة كاملة من التشوه الاجتماعى، وندبة على وجه المدن، ورحماً لا يهدأ عن إنجاب الغضب. كانت مشكلة مزمنة، عتيّة، استعصت على كل محاولات التجميل، حتى صارت – مع مرور الوقت – مادة خام للدراما والسينما، فانتقلت سماتها إلى الشاشة كأنها هوية راسخة، لا مجرد بيئة مأزومة. 



وللمفارقة، أصبحت تلك البيئات، فى المخيلة العامة، سبباً للمعايرة وجرحاً فى كرامة سكانها، قبل أن تكون أزمة عمران أو خدمة أو فقر.

خطورة العشوائيات لم تكن يومًا فى ضيق الشوارع، ولا فى تهالك الجدران، ولا فى غياب مياه نظيفة أو صرف صحى وتعليم. كانت الخطورة الحقيقية كامنة فى ذلك الإرث النفسى والسلوكى الذى يترسب فى وجدان النشء.طفل يتربى فى فوضى، فيتعلم الفوضى، مراهق يرى القانون غائباً، فيكبر وفى داخله سخط على الدولة، شاب يعرف أن الرزق يأتى «بالفهلوة» لا بالاجتهاد، فيتشكل وجدانه على ثقافة الالتفاف لا ثقافة المواجهة.

كانت تلك المناطق – بلا تجن – معامل مفتوحة لإنتاج أنماط اجتماعية مأزومة؛ مجرمون ومسجلون، تجار مخدرات، مطاردون، ناقمون على الدولة، ضعفاء الانتماء، ساخطون على المجتمع الذى لم يمنحهم فرصة، أو هكذا تصوروا بيئة واحدة كانت قادرة على أن تغير سلوك جيل كامل من حيث لا يدرى.

•••

هنا جاءت الدولة، لا كمنفذ حملة لإزالة مبان مخالفة، بل كجراح ماهر يتقدم إلى جسد منهك، يفتح بالمشرط، بدقة وإصرار، لاستئصال ورم خبيث ظل ينمو لعقود، لم يكن القرار سهلًا، ولا نابعاً من تبعات اجتماعية وسياسية، لكنه كان ضرورة وجودية؛ أن نعيد للإنسان مكانه الطبيعى، وأن نمنح أبناء تلك المناطق فرصة إعادة اكتشاف ذواتهم بعيدًا عن فوضى المكان وضجيج التوريث الاجتماعى.

ولم يكن الحل مجرد «نقل سكان» أو توزيع شقق. الفكرة كانت تأسيس بيئة بديلة، كاملة، متكاملة، تليق بآدمية الإنسان. طرق واسعة، مدارس تضبط سلوك الصباح، حدائق تخلق ذاكرة جديدة للجمال، وحدات سكنية بِكر، لا تحمل رائحة العشوائية ولا ترابها النفسى. فجأة وجد طفل من «عزبة الهجانة» نفسه يذهب إلى مدرسة حديثة، لا يسمع فيها صخب المشاجرات اليومية، ووجدت فتاة من «تل العقارب» أن نافذتها تطل على نسق حضارى أنيق، لا على قمامة احتلت الشوارع، وقطط تجوب السلالم المتهالكة.

وهكذا بدأت دورة التحول، تغير المكان، فتغيرت النفوس، تغيّرت البيئة، فارتفعت السلوكيات، ومع مرور الوقت انكسر ذلك «الإرث الاجتماعى» الذى كان يستولد الغضب جيلاً بعد جيل.

إن الأطفال الذين وُلدوا فى مناطق «الأسمرات»، «بشاير الخير»،و«روضة السيدة» ليسوا أبناء العشوائيات السابقة، حتى لو حملوا ألقاب أسرها.

 هؤلاء جيل جديد، خرج من رحم جديد، لم يتلوث بصخب الماضى، ولم يرث عن آبائه سوى أسمائهم لا سلوكياتهم، بيئة جديدة تصنع وجدانًا جديدًا، وهذا وحده يكفى لأن نقول إن الدولة لم تنقل السكان، بل نقلت مستقبلهم.

الأجيال التى تذهب اليوم إلى المدارس فى هذه المناطق البديلة، تتعلم الجمال قبل العلم، والانضباط قبل الضبط، ورؤية الدولة بوصفها حامية لا خصما، وهنا يكمن الفرق؛ حين يشعر المواطن أن الدولة احترمته، يبدأ هو فى احترام الدولة، وحين تعطى البيئة الإنسان فرصة للكرامة، يبدأ هو فى إعادة بناء نفسه من الداخل.

•••

لقد كان أفضل ما فعلته الدولة أنها أعادت صياغة العلاقة بين المواطن ومكانه؛ فالمكان ليس جدرانًا فقط، بل منظومة قيم. وعندما تغيّر عمران المكان، تغيّر عمران الروح.

واليوم، بعد سنوات قليلة من التجربة، يمكن القول بثقة إن اختفاء العشوائيات لم يكن مجرد إنجاز عمرانى، بل كان حدثًا اجتماعيًا يعادل ثورة صامتة، ثورة ستظهر نتائجها الكبرى حين يبلغ أطفال هذه المناطق العشرين والثلاثين، شباب تعلموا احترام النظام، رأوا الدولة عن قرب، وعرفوا معنى «الانتماء» فى بيئة تحتضنهم لا تلفظهم.

هذه ليست قصة إسكان، بل قصة وطن قرر أن يغيّر مصيره عبر تغيير الجغرافيا التى تصنع البشر، قصة جيل جديد، خرج من العشوائية العمرانية إلى الفضاء الإنسانى الرحب، جيل يليق بمستقبل مصر، وتليق به مصر.