الأحد 23 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
تناقضات محمد سليم العوا مع الإسلاميين وضدهم!

حكيم حين يحكمون ومعارضهم حين يسقطون ومع السلطة حين تستقر

تناقضات محمد سليم العوا مع الإسلاميين وضدهم!

دائمًا ما حرص د.محمد سليم العوّا على التمسك بالوقوف فى مربع الفكر والاجتهاد، وليس مربع السياسة بالشكل التقليدى المعهود. تغيرت مواقفه وتبدلت.. ولم تستقر، ولذا يُعَد واحدًا من أكثر الشخصيات التى تجسد نموذجًا لتحولات المثقف المصرى.. الذى يُغير اتجاهاته حسب توازنات القوَى، ويعيد تقديم نفسه وتعريفها حسبما يكون التفاعل والوجود والبقاء فى المشهد.  



عرفته ضيفًا دائمًا على ندوات الحوار «المسيحى- الإسلامى»، ثم مُفجرًا لأزمات طائفية، ثم مرشحًا رئاسيًا مستقلاً، ثم محاميًا للمعزول محمد مرسى، ثم معارضًا لثورة 30 يونيو، وصولاً إلى ظهوره الأخير الذى أشاد فيه بالرئيس عبدالفتاح السيسي، رغم كل مواقفه وتصريحاته السابقة.

هذا المَقال ليس مجرد محاولة للرصد والفهم؛ بل هو تحليل سياسى لمَسيرة رجل.. ظل يتنقل بين المواقع الفكرية والسياسية فى رشاقة تبدو للوهلة الأولى منطقية.

نصف الحقيقة..

قدّم سليم العوّا نفسَه على مدار سنوات طويلة.. كأحد رموز مشروع الإسلام الحضارى، إلى جانب المستشار طارق البشرى والشيخ يوسف القرضاوى.. وألقى العديد من المحاضرات، وشارك فى مئات المؤتمرات، وكتب مقالات وأبحاثًا ودراسات رصينة عن قبول التعددية والتنوُّع والدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية.

ولكن تظل الحقيقة المخفية خلف هذا البريق اللامع.. أن العوّا لم يكن يومًا مجرد مفكر.. كما أراد لغيره أن يراه؛ بل كان سياسيًا يتقن لغة صناعة الممكن بأقصَى قدر من الاستفادة. ومَن يتابع أرشيف تصريحاته وحواراته ومقالاته.. يدرك جيدًا أنه استخدم مفردات وتعبيرات «خطاب الإسلام الوسطى» كمظلة تمنحه الشرعية الفكرية والمجتمعية، وليس باعتباره منهجًا وموقفًا سياسيًا واضحًا.

العوّا ضد الإخوان..

فى تسعينيات القرن الماضى وأوائل الألفية الثالثة.. كان سليم العوّا هو المستشار القانونى لحزب الوسط الذى قدّم نفسَه كبديل إسلامى مدنى لجماعة الإخوان الإرهابية، كما كان رئيس مجلس إدارة جمعية مصر للثقافة والحوار، التى كنت عضوًا فى مجلس إدارتها.. وهى المرحلة التى كان يتحدث فيها عن خطورة هيمنة جماعة الإخوان على الدولة، وفى المقابل؛ كان يؤكد على أن حزب الوسط هو المعادل الموضوعى.. المدنى والعاقل والمتوازن.

كانت تلك المرحلة التى تصدّر فيها سليم العوّا المشهد باعتباره خصمًا فكريًا لدودًا لجماعة الإخوان، وقدّم نفسَه وأصدقاءه؛ وبخاصة أبوالعلا ماضى وعصام سُلطان.. باعتبارهم ممثلى مشروع الإسلام الحضارى الحديث.. فى مقابل تنظيم جماعة الإخوان التقليدى.

ولكن تجمد كل ما سبق فى اللحظة التى وصلت فيها جماعة الإخوان إلى الحكم..

وفجأة أصبح الرجل الذى قضى سنوات ينتقد التنظيم وقياداته ورموزَه.. واحدًا من أقرب الشخصيات إليه.

مشعل الأزمات الطائفية..

قبل أحداث 25 يناير 2011، وتحديدًا فى 16 سبتمبر سنة 2010، ارتكب سليم العوّا واحدة من أخطر سقطاته.. فى تصريح طائفى بغيض وتحريضى مباشر لبرنامج «بلا حدود» على قناة الجزيرة؛ حيث زعم وجود أسلحة فى الكنائس والأديرة.. وقام العديد من الرموز الدينية المصرية والشخصيات العامة من مفكرين وسياسيين باتهامه بالتحريض، كما قام بعض المحامين بتقديم بلاغات ضده. وكانت النتيجة.. المزيد من تصاعد التوترات الطائفية.

كانت تلك التصريحات التى لم تتجاوز عدة كلمات فى جُمَل بسيطة؛ كفيلة بسقوط قناع الإسلام الحضارى.. ليكشف عن وجهه الحقيقى مبكرًا.. مثلما اكتشفنا الكثيرين غيره بعد اختطاف الدول المصرية على يد الفاشية الدينية لجماعة الإخوان المحظورة.. وهو ما يؤكد على استخدام سليم العوّا للدين وتوظيفه لتأجيج ملف غاية فى الحساسية والخطورة فى علاقة المواطنين المسيحيين والمسلمين المصريين ببعضهم البعض.. وهو ما رسخ حضوره وعززه فى المَشاهد التالية.

الانقلاب الأكبر..

كانت النتيجة النهائية لما سبق؛ أن المفكر الذى كان يقدم أفكارًا ونظريات فى قبول الاختلاف.. هو نفسه الذى قام بإشعال أخطر مناوشة طائفية قبل أحداث 25 يناير.. وبعدها نافس على الانتخابات الرئاسية، وترشح ضمن تصدُّر الإسلام السياسى للمشهد العام فى مصر سنة 2012.. وعاد حينها لخطابه القديم باعتباره البديل «المدنى- الإسلامى»، وأن جماعة الإخوان المسلمين خطر على الدولة، وأعلن بأكثر من صيغة رفضَه لدولة التنظيم.

ولكن بعد ثورة 30 يونيو العظيمة وعزل محمد مرسى.. كان سليم العوّا.. هو أول المحامين الذين ظهرت أسماؤهم.. ضمن فريق الدفاع عن مرسى.. وأصبح الرجل الذى أمضَى سنوات طويلة.. يشرح خطورة الإخوان فجأة.. هو درعهم القانونى.

أى منطق هذا؟! وأى تفسير سياسى لمرحلة كهذه.. سوى أن سليم العوّا.. لا يقف سوى فى المكان الذى يظن أن فيه قوة وتأثيرًا.. فحين كان حزب الوسط يحاول منافسة جماعة الإخوان؛ وقف مع حزب الوسط.. وحين وصل مرسى للاتحادية؛ وقف مع مرسى.. وحين سقط مرسى؛ وقف ضد الدولة.. وحين تغيرت ملامح المشهد السياسى؛ ها هو يطل علينا فى بودكاست «الحل إيه؟» ليقول: (السيسي تحمل ما لا يتحمله بشر) فى 14 نوفمبر 2025.

العوا ضد 30 يونيو..

رفض سليم العوّا ثورة 30 يونيو علنًا، وشارك فى مبادرات تطالب بعودة دستور 2012، ورفض الاعتراف بشرعية الوضع الشعبى الجديد.

هنا ظهر سليم العوّا بصورته السياسية الأكثر صراحة ووضوحًا.. كمُدافع قوى عن مشروع جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية.. ليقول النقيض لكل تاريخه السابق.. وهو ما أدى بالكثير إلى اعتبار أنه تحوَّل من «مفكر مستقل» إلى سياسى تابع.

حين تنقلب الطاولة مرة أخرى..

فى البودكاست المذكور، انحرف سليم العوّا عمّا هو معتاد عليه منذ ثورة 30 يونيو. وأطلق أخطر جملة، تتناقض مع مسيرته، وهى ليست كلمات عابرة، ولكنها بمثابة إعلان اعتذار سياسى رسمى وغير معلن فى الوقت نفسه عن كل مواقفه السابقة.

المفارقة الأولى أن تصريح سليم العوّا هنا هو بمثابة أهم وأخطر انقلاب فى السنوات الأخيرة لأحد أهم رموز تيارات الإسلام السياسى، الذى تحول من وصف 30 يونيو بالانقلاب.. إلى الإشادة بالرئيس الذى قاد مرحلة استعادة مصر من سيطرة الفاشية الدينية.

المفارقة الثانية أن هذا التغير جاء دون أى مراجعة فكرية معلنة.. حسب تجارب المراجعات الفكرية السابقة لتلك التيارات.. ولم يمهد سليم العوّا لذلك التصريح سواء بمقال أو كتاب أو اعتذار، وقبل كل ذلك بالاعتراف بالخطأ الوطنى الجسيم الذى وقع فيه.. وهو ما يجعلنى أعتقد أن ما فعله سليم العوّا هو بمثابة قفزة سياسية نحو اتجاه الشرعية الآن.. الذى أصبح أكثر قوة واستقرارًا.

ماذا يريد العوا؟!

فى اعتقادى من خلال معرفتى الشخصية منذ ما يقرب من 30 سنة بالدكتور محمد سليم العوا أن تصريحه لم يكن محض صدفة أو استرسال لحظى أثناء الحوار والنقاش معه.. ولذا يكون السيناريو الأول المنطقى: هل يحاول سليم العوّا استعادة مكانته المفقودة كإسلامى وسطى مقبول من جميع التيارات الفكرية والسياسية، ومقبول من الدولة أيضًا؟ وهو سيناريو يستند إلى ما يردد بين الحين والآخر عن محاولات دمج الإسلاميين المعتدلين فى المشهد السياسى، وهو ما سيمكنه من القيام بدور جسر العبور الآمن بين الطرفين.. من خلال مراجعات فكرية وهمية مزعومة.

والسيناريو الثانى، هو المعتاد من غالبية تيارات الإسلام السياسى عندما يمارسون شكلاً من أشكال التقية السياسية الواضحة عند كل أزمة تهديد للوجود والبقاء.. وذلك لحماية أنفسهم من جانب، والاحتفاظ بعلاقاتهم الوثيقة مع التشكيلات العنقودية لتيارات الإسلام السياسى من جانب آخر.. فضلاً عن تأكيد ولائهم للدولة من بعيد. 

والسيناريو الثالث، هو مغازلة النظام السياسى.. وفى الوقت نفسه مغازلة شباب تيارات الإسلام السياسى نفسه.. وهى تصريحات مزدوجة بهدف إقرار رسالة طمأنة للدولة، ورسالة أخلاقية دينية لشباب الإسلاميين من تيهه البحث عن نموذج لا يصطدم بالنظام.

أمّا السيناريو الرابع ببساطة؛ فهو محاولة أخيرة للعودة إلى الأضواء بعد تراجع حضوره تمامًا بعد ثورة 30 يونيو.. وقد يكون ظهوره الأخير.. مجرد محاولة لاستعادة دور سياسى مفقود، أو بمعنى أدق استدعائه من بعيد.

نقطة ومن أول السطر..

محمد سليم العوّا ليس مفكرًا.. حدثت له تحولات جذرية لدرجة النقيض؛ بل سياسى يختار موقعه حسب توازنات القوَى.. من الدفاع عن مشروع الإسلام الحضارى، إلى اتهام الكنيسة بحيازة أسلحة، ومن مناوأة جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، إلى التضامن معهم، ثم إلى الهجوم على 30 يونيو، وأخيرًا مدح الرئيس والإشادة به.. كل ذلك ليس مسار مفكر، بقدر ما هو مسار رجل براجماتى يقرأ السُّلطة قبل أن يقرأ النصوص.

ويظل السؤال: هل يتحول سليم العوّا مرة أخرَى إذا تبدلت الظروف وتغيرت؟ أمْ أن ظهور البودكاست هو «المسمار الأخير» قبل أن يسدل الستار على دوره السياسى؟!