عاطف حلمي
روح روزا لن تجدها فى أى مؤسسة صحفية أخرى
30 سنة فى بلاط الملكة
منذ 30 عامًا تقريبًا دخلت عالم روزاليوسف من بوابتها الذهبية الصديق الأستاذ أسامة سلامة بعدما تركت العمل فى صحيفة الدستور، قدمنى الأستاذ أسامة سلامة إلى الأستاذ والمعلم عادل حمودة لتبدأ رحلتى مع روزاليوسف فى فترة من أروع فتراتها وأحد أبرز عصورها الذهبية، وكان أول من تعرفت عليهم الصديق عصام عبدالجواد (ابن خالتى أنا وأسامة سلامة ولهذا قصة سوف أحكيها لاحقًا).
على مدار ثلاثة عقود من الزمان عشتها فى أروقة روزاليوسف تعلمت الكثير، تذوقت طعم النجاح وعايشت لحظات الانكسار والنهوض من الكبوات، سوف أسرد بعضًا منها فى السطور التالية.
أسانسير كشف معادن البشر
بعد أقل من شهرين من وجودى فى المجلة طُلب منى الذهاب إلى مجلس الدولة للسؤال وتقصى حقيقة دعوى قضائية مرفوعة على وزارة الإعلام متهم فيها ابن الوزير بتعطيل اتفاق على بث الفضائية المصرية عبر «الكيبل» فى أمريكا الشمالية، ذهبت إلى مجلس الدولة فى الجيزة ولم أجد أى أثر لهذه القضية، وأثناء عودتى مشيًا على الأقدام وعند كوبرى قصر النيل فوجئت بسيارة حمراء يصدر عنها صوت «الكلاكس» لكننى لم أنتبه إليها إلى أن فوجئت بالأستاذ عادل حمودة هو من يقود تلك السيارة وإذ به ينادى علىّ من أجل ركوب السيارة ليباغتنى بقوله: «أنت صعيدى؟!» .. أجبته ضاحكًا: «آه.. أنا صعيدى»، فضحك وهو يلومنى على عدم انتباهى لكلاكس السيارة وهو يحاول أن يستوقفنى، ووجدته رغم حداثة عهدى بالمجلة يعرف اسمى ويعرف المهمة التى ذهبت لأجلها فى مجلس الدولة، ثم اصطحبنى برفقته إلى المجلة لأستقل معه الأسانسير إلى الدور الخامس، وما أدراكم معنى أن تدخل المجلة وتستقل نفس الأسانسير مع الأستاذ والمعلم عادل حمودة وأنت لا تزال تتلمس طريقك فى بلاط الملكة «روزاليوسف».
نفس الأسانسير كان شاهدًا على واقعة أخرى بعد نحو السنوات الثلاث مع أحد من نصفهم بالصحفيين الكبار أصحاب الحوارات والموضوعات المهمة والبرامج التليفزيونية المشهورة، كنت فى ذلك الوقت محررًا بالديسك المركزى وكان رئيس الديسك الراحل عبدالله كمال، رن جرس التليفون الوحيد فى غرفة الديسك فرد عليه الراحل عبدالله كمال، ثم وضع السماعة وقال لى إن الأستاذ «فلان» يريدك فى مكتبه، صعدت إليه وفور دخولى قال لى الأستاذ المشهور إنه معجب بموضوعاتى ويتنبأ لى بمستقبل باهر، تعجبت كثيرًا لأنه لم تجمعنى به معرفة سابقة، ثم بطريقة مسرحية أشار بإصبعه فى أمِّ عينى وباغتنى بسؤال: أنت كنت فى مدينة «كذا» بالصعيد؟.. صمت وقلت لنفسى «همّا بيقفشوا اللى بيسافر الصعيد ولا أيه!»، وبعد برهة أجبته نعم كنت أنا وزميلى عصام عبدالجواد نجرى تحقيقًا صحفيًا هناك، فقال: قابلتم فلانًا وفلانًا ضِمْن هذا التحقيق، قلت له: قابلناهما بالفعل، فطلب منّى الاهتمام وضرورة وضع صور لهما ضمن التحقيق لأنهما من أقارب زوجته.
خرجت من مكتبه وأنا متعجب من طلبه منّى ذلك، وأنا ما زلت صحفيًا صغيرًا، فى حين أنه كان يمكنه وهو الكاتب المشهور أن يطلب ذلك من رئيس التحرير، وعدت إلى «الديسك» وأخبرت الراحل عبدالله كمال بذلك وجاء رده بما أشعرنى مدى حبهم لهذا الصحفى المشهور!!، وطُبعت المجلة وجاء التحقيق خاليًا ليس فقط من صور أقارب زوجة الصحفى المشهور بل ومن أى كلام لهما.
مرت الأيام ونسيت تمامًا ما حدث إلى أن تصادف أن تقابلت مع هذا الصحفى المشهور أمام باب الأسانسير فألقيت عليه التحية لكنه لم يُجب وتجاهلنى كما لو كنت شبحًا غير موجود، وما أن وصل الأسانسير إلى الطابق الأرضى فوجئت بالصحفى المشهور يدفع عامل الأسانسير خارجًا ويدخل بمفرده ويمسك بباب الأسانسير بحركة عصبية ويغلقه بنفسه حتى لا أدخل برفقته، فوقفت مذهولًا للحظات.. وهنا تذكرت واقعة أقارب زوجته ودخلت فى نوبة ضحك وصعدت إلى الدور الخامس مرتقيًا السلالم ودخلت غرفة الديسك وأنا لم أزل فى نوبة الضحك ليسألنى الراحل عبدالله كمال عن السبب فقصصت له ما حدث فأطلق ضحكته العالية المميزة، وهنا أدركت الفرق بين الأستاذ والمعلم عادل حمودة وهذا الصحفى المشهور المتعالى، وكان هذا الأسانسير بمثابة جهاز يكشف معادن البشر.
الديسك
أمّا قصة دخولى الديسك المركزى (المطبخ الصحفى) فيعود الفضل فيها إلى الراحل عبدالله كمال، فبعد بضعة أشهُر من وجودى فى روزاليوسف وجدته يمسك بكتفى بقوة ويخبرنى بأنه اختارنى للعمل بالديسك وأن الأستاذ عادل حمودة اشترط استمرارى فى عمل التحقيقات الصحفية بجانب عملى بالديسك، وبالفعل خلال عملى تعلمت الكثير من الراحل عبدالله كمال، وكان خير مُعين ومساند لى، ولعل أبرز ما تعلمته منه إعلاء قيم المهنية فوق أى شىء، فكثيرًا ما كنت أجلس معه على مقهى فينا فى شارع قصر العينى، ورغم ذلك عندما أقدم موضوعًا دون المستوى لم يكن يتردد أن يضعه فى سلة المهملات، وفى بعض الأحيان نكون متخاصمين لا يُحدّث أحد منا الآخر، وعندما أقدّم موضوعًا جيدًا يتلقفه ببهجة شديدة دون النظر لأى خلاف بيننا.
أبناء خالتى
أعود إلى ما ذكرته عن ابن خالتى وصديقى عصام عبدالجواد، ففى بداية عملى بالمجلة كنت أعمل فى التحقيقات الصحفية مع الراحل عبدالله كمال وفى قسم الأخبار مع أبرز مخبر صحفى فى روزاليوسف والصحافة المصرية الرائع إبراهيم خليل، وكانت معاملة إبراهيم خليل معى فى بعض الأحيان جافة بينما فى واقع الأمر ومَن يقترب منه يجده صاحب قلب ناصع البياض، وفى ذات مرة شكوت لعصام عبدالجواد من قسوة إبراهيم خليل، فأخذ بيدى وذهبنا إليه ومن باب تلطيف الأجواء والدعابة أخبره أننى ابن خالته، وبعد بضعة أشهر كان عيد الميلاد أو القيامة لا أذكر على وجه التحديد، وإذ بإبراهيم خليل يقابلنى وبصحبتى عصام عبدالجواد ويسألنا: «إزاى انتو ولاد خالة وأحدكما مسلم والآخر مسيحى؟!»، فأجابه عصام: «أنا ليّا هنا ثلاثة أبناء خالة.. أسامة سلامة ابن خالتى المسلمة وعاطف حلمى ابن خالتى المسيحية وهناك شخص ثالث ابن خالتى اليهودية».. فسأله إبراهيم خليل: «مين هو ابن خالتك اليهودية؟» فأجاب: فلان... وهنا ضحك إبراهيم خليل على توصيف هذا الزميل بهذا الوصف من باب الدعابة.
مولانا وسيدنا
كنت والصديق عصام عبدالجواد لكوننا من الصعيد ومن المركز نفسه (القوصية ـ أسيوط) بين فترة وأخرى ننتهز فرصة عمل أى تحقيق صحفى بالصعيد من أجل التقاط الأنفاس؛ إذ كنا ننتهى من التحقيق ثم نرسله بالفاكس، فلم يكن الإنترنت منتشرًا فى ذلك الوقت، ثم نستغل الأمر فى قضاء يومين أو ثلاثة مع الأهل فى الصعيد.
وفى إحدى المرات كنا نجرى تحقيقًا صحفيًا فى إحدى مدن الصعيد، وقابلنا أحد الشخصيات المؤثرة فى تلك المدينة وكان رجلًا دمث الخلق صاحب شعبية كبيرة وله شقيق أزهرى كان معارًا للتدريس فى إحدى الجامعات الإسلامية خارج مصر، وكان حاضرًا اللقاء وعندما علم أننا من مجلة روزاليوسف غضب ووصف المجلة بالعلمانية الكافرة، وبعد قليل حان موعد صلاة العِشاء فذهب الحضور للصلاة باستثناء مولانا الشيخ، وهنا باغته عصام بسؤاله لماذا لم يذهب للصلاة؟ فأجاب أنه غير متوضئ.. ودخل عصام مع مولانا الشيخ فى وصلة سجال ونقاش يمكن وصفها بوصلة «غسيل ومكوَى» لم تنتهِ إلا بعودة الحضور من الصلاة.
المثير فى الأمر أن مولانا الشيخ بعدها بسنوات تولى منصبًا دينيًا مُهمًا وكانت أولى المطبوعات الصحفية التى أجرت حوارًا معه هى روزاليوسف؛ بل إنه كان حريصًا على كتابة مقالات بها بشكل شبه منتظم.
موقف آخر مع قيادة دينية مسيحية، ففى ذات يوم اتصل بى المتنيح القمص صليب متّى ساويرس وأخبرنى أن هذا القيادة الدينية «زعلان منّى» بسبب موضوع كتبته.. وعرض عليً التوسط لعمل مصالحة، وبالفعل ذهبت معه لمقابلة القيادة الدينية وعندما هممت بمصافحته أشاح بوجهه عنّى ومضى فى طريقه، وكانت صدمة لى فكيف يعظ عن التسامح ويرفض مصافحة شاب صغير أتى إليه، وعلمت لاحقًا أن هذا القيادة الدينية كان صاحب مقولة «أصفح ولا أنسى»، ولكن اتضح لى أنه لا يصفح ولا ينسى!
كبير الرحيمية قبلى
ذات مرة أجريت برفقة صديقى عصام عبدالجواد تحقيقًا عن قبائل قنا وتأثير الفكر القبلى على سلوك المجتمع هناك، وبعد نشر التحقيق اتصل شاب فى نهاية الثلاثينيات من عمره بعصام وطلب مقابلتنا باعتباره «كبير الرحيمية الأصلى»، ولأننى أنا وعصام معجونان بمية عفاريت كانت فرصة لعمل موضوع كوميدى ظريف؛ حيث حضر الشاب وبدأ يروى لنا ما يثبت أنه كبير الرحيمية.. ونشرنا الموضوع مع صورته، وكان موضوعًا طريفًا إلاّ أن ردود الفعل التى قابلها «كبير الرحيمية» من الناس جعلته يحضر إلينا غاضبًا؛ خصوصًا أنه كان يعمل فى إحدى الصحف الصغيرة والموضوع جعله عرضة للسخرية والتندر، ولا أعلم كيف استطاع عصام إقناعه بصواب موقفنا وأنه لا يجب أن يغضب.. وخرج صاحبنا وهو سعيد بعدما دخل غاضبًا.
عنبر الأنبياء
فى أواخر تسعينيات القرن العشرين، وقع حادث إرهابى، بطل الحادث كان مريضًا يعالج فى مستشفى العباسية للأمراض النفسية والعصبية، قَتَل موظفة بالسفارة الأمريكية خلال حفل للسفارة فى أحد الفنادق الشهيرة ليتضح فيما بعد أن الضحية ليست موظفة عادية بل هى عنصر فى المخابرات المركزية الأمريكية، وكان هذا الحادث بوابة للدخول إلى العوالم الخفية لهذا المستشفى وتعرَّفت وقتها على الدكتور محمود عبدالسلام ـ رحمه الله ـ أحد الأطباء العاملين بهذا المستشفى، وأجريت تحقيقًا صحفيًا معلوماتيًا عن خفايا هذا العالم وكيف أنه أصبح بوابة لهروب الإرهابيين والمجرمين وتجار المخدرات من خلال تقارير تصدر عن المستشفى بأن هؤلاء غير مسئولين عن الجرائم التى ارتكبوها لكونهم يعانون أمراضًا نفسية، وبعد قضاء فترة داخل المستشفى يخرجون مرة أخرى لممارسة حياتهم العادية، ومنهم هذا الإرهابى الذى قتل عنصر المخابرات الأمريكية، وهناك أيضًا شقيقة فنانة مشهورة ضبطت تتاجر بالمخدرات أمام أحد الفنادق الشهيرة، وكان بينهم أيضًا شقيق وزير مرموق ضبط بمحاولة تهريب مخدر «اكستا سى».. ومن المفارقات ضبط نفس الشخص منذ فترة قريبة بتهمة الاتجار فى الآثار، والغريب فى الأمر أن تقارير هؤلاء كان يكتبها مدير المستشفى منفردًا، رغم أن فترة المراقبة النفسية البالغة 45 يومًا يصدر بعدها تقرير من لجنة وليس فردًا، والأكثر إثارة أن المرض الذى كان يتم تشخيصهم به حسبما أذكر «الفصام الذهانى» وهو علميًا يعنى أن المصاب به يكون فى حالة تبلد وعدم الرغبة فى مغادرة المنزل والانسحاب من المجتمع، فى حين أنهم وقت ارتكاب جرائمهم كانوا على خلاف ذلك.
مع ترددى على المستشفى كتبت أكثر من موضوع، كان بينها موضوع طريف عن عنبر بالمستشفى، كانوا يطلقون عليه مجازًا مسمى «عنبر الأنبياء»؛ نظرًا لأن جل نزلائه من مدعى النبوءة.. الطريف فى هذا التحقيق لم يكن فقط فى قصص هؤلاء من مدعى النبوّة؛ بل فى أحد أطباء المستشفى نفسها، وهو مشهور بفشله فى علاج أى حالة أسندت إليه، وكان نظام العلاج بالمستشفى يعتمد فى جزء منه على خروج المريض بعد مرحلة معينة من العلاج ليعيش بين أهله ويتردد بشكل مستمر على المستشفى لمواصلة العلاج، وذات مرة كان هذا الطبيب «الفاشل فى علاج مرضاه» جالسًا فى حديقة المستشفى برفقة بعض الأطباء، وبينما هم جالسون جاء مقبلًا عليهم أحد مرضى هذا الطبيب بعد خروجه للعيش مع أهله، فبادره أحد الأطباء بالسؤال: إيه أخبار النبوّة؟ فأجابه المريض: «لا خلاص أنا مبقتش نبى»، فتعجب الأطباء من تمكُّن زميلهم فى علاج هذا المريض، لكن ما هى إلا لحظات حتى باغتهم المريض بقوله»: «أنا مبقتش نبى أنا بقيت ربنا أرسل الأنبياء»!!.
المحكمة الجنائية الدولية
لعل أجمل ما فى التحقيقات الصحفية تنوعها، ومن ثم تنوع اهتمامات المحقق الصحفى؛ وكان من بين اهتماماتى قضية استقلال القضاء، عايشت إنشاء المركز العربى لاستقلال القضاء والمحاماة على يد المحامى الحقوقى والنائب السابق ناصر أمين، ولعل روزاليوسف ـ من خلال ما كتبته ـ كانت أول مطبوعة مصرية وربما عربية تحذر من المحاولات الأمريكية لوأد المحكمة الجنائية الدولية قبل أن تولد، عندما حصلت على مضمون وثيقة مسربة أرسلتها وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) إلى الملحقين العسكريين الأمريكيين فى مختلف دول العالم تطلب منهم الإيعاز للقيادات العسكرية فى هذه الدول لحث حكومات بلادهم على رفض الانضمام لهذه المحكمة بدعوى أنهم سيكونون أول من تحاكمهم بتهمة ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وبعد مرور ربع قرن على إنشاء هذه المحكمة لا تزال الولايات المتحدة تحاصر هذه المحكمة لأنها تكشف عن ما ترتكبه واشنطن وتل أبيب من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
خُط الصعيد 98
حضورى واقعة مطاردة أحد الأشقياء فى الصعيد وبالتحديد فى بنى مزار، كان كاشفًا عن كيفية صناعة أسطورة إجرامية من شخص ممن يعيشون على هامش المجتمع، مستغلًا سلاح الخوف، وأذكر أن هذا الشقى كان اسمه «عيد»، ارتكب 37 جريمة قتل ابشعها كانت بحق خطيب مسجد لم تعجب خطبته هذا المجرم، فاقتحم منزله عقب صلاة الجمعة فوجده جالسًا مع أسرته أمام «طبلية» يتناولون الطعام فأمطرهم بوابل من الرصاص ثم ولج إلى «الزريبة» وقتل المواشى الموجودة بها. تسبب هذا «الخُط» فى حالة من الرعب ولم يكن أحد من الضباط يعرف شكل هذا المجرم، الذى كان يتجول كما يشاء معتمدًا على خوف الناس منه رغم أنه كان شخصًا قصير القامة لا يتمتع بأى بنية جسدية قوية، ولم يسقط فى أيدى رجال الأمن إلا بعد أن وشى به أحد رجاله المقربين منه بعدما شك فى وجود علاقة آثمة بين زوجته وهذا «الخُط»، تمامًا كقصة عتريس فى فيلم «شىء من الخوف».
فى تلك الأثناء كنت فى بنى مزار أتابع عملية مطاردة الخُط فى إحدى ليالى شتاء 1998، وبعد تبادل لإطلاق النار تمت تصفية «الخط»، وحتى يطمئن الناس ويتأكدوا من مقتله تم الطواف فى الشوارع بجثته على سيارة ربع نقل.
هذه الواقعة كشفت كيف يصنع الخوف أسطورة من لا شىء، وأن وجود الإجرام فى حد ذاته ليس الخطر؛ إنما الخطر كل الخطر فى أن يتملك الخوف من أى مجتمع ويحول بينه وبين مواجهة مثل هذه الظواهر الإجرامية.
البقرة المعجزة
إذا كان الخوف أخطر من الجريمة؛ فإن الجهل أخطر منهما معًا.. أذكر أن أحد الأشخاص فى إحدى محافظات الدلتا استغل جهل المجتمع واستطاع التربح من لبن بقرة أضفى عليها هالة من القداسة الأسطورية، وادّعى أن حليبها يشفى الكثير من الأمراض أبرزها مرض السكرى، فتدفق إليه جهلاء من كل حد وصوب وحتى من خارج مصر، ومع تدفقهم تدفقت إلى جيوبه أموالهم على أمل زائف فى الشفاء من هذا المرض أو ذاك.
المحتال ادّعى أنه اكتشف معجزة حليب هذه البقرة عندما حاول ذبحها إلا أنها استعصت عليه بشكل إعجازى.. والغريب أنه أثناء جلوسى مع هذا المحتال كان هناك العديد من الأشخاص أحدهم ادّعى أنه شيخ أزهرى وراحوا جميعًا يؤمِّنون على كلامه بصفتهم مُصدقين لهذا الإعجاز الطبى.
وقتها كان هناك إعلان شهير عن دواجن مجمدة، وفيه أغنية «ادبحنى يا مَعلم.. قطعنى يا مَعلم»، فكانت مصدر إلهام لكتابة عنوان لهذه القصة الخرافية.
وإذا كان النصاب يبحث عن الطماعين للإيقاع بهم فى شِباكه مستغلًا غمامة الطمع التى تعمى بصائرهم؛ فالمؤسف فى عمليات الاحتيال مثل قصة البقرة المعجزة أن ضحاياها من البسطاء الذين يوقف الجهل عقولهم عن العمل، وللأسف قد يجد هؤلاء المحتالون بعضًا ممن يدّعون أنهم علماء دين للترويج لهم.
مافيا المكملات الغذائية
وإذا كان هناك محتالون يستغلون الجهلاء هناك محتالون من نوع آخر يسعون لسلب المرضى أموالهم بأدوية لا تشفى عليلًا ولا تنقذ مريضًا أنهكه المرض، فلكونى خريج كلية العلوم، أحرص دائمًا على قراءة النشرة الداخلية لأى دواء قبل أن أتناوله، وذات مرة عانيت ألمًا شديدًا فى عيني، ووصف لى الطبيب دواءً وبينما أقرأ النشرة الداخلية وجدت أنه يعالج عشرات الأمراض ولو صح ذلك لنال مخترعه جائزة نوبل، وبحثت فى الأمر فعرفت أنه مكمل غذائى وليس دواءً علاجيًا، وأن تراخيص هذه المكملات تخرج من معهد التغذية، ولا علاقة لهيئة الرقابة الدوائية به، وأجريت عدة تحقيقات عن المكملات الغذائية وكيف يتم استغلالها لبيع الوهم للمرضى، فما يوجد بها مجرد فيتامينات، يستند مصنعوها على مبدأ «إذا لم تفد لن تضر»، فى حين أنها تضر بصحة وجيوب المرضى فى ظل غياب الرقابة وتغول مافيا هذه المكملات.
كما تضمّن واحد من هذه التحقيقات عملية نصب طبى بطلها مصرى مقيم فى الولايات المتحدة أنشأ شركتين وهميتين هناك تصدران مكملات غذائية إلى مصر تحتوى على بعض الفيتامينات، إلا أنه كان يضعها فى عبوات مختلفة وتحت أسماء مختلفة ويتم بيعها للمرضى فى مصر باعتبارها أدوية ذات فعالية، وتمكنت من كشف هذا الاحتيال، وحاول صاحب هاتين الشركتين جاهدًا وقف هذه الحملة وتقديم رشوة مالية ولم تنجح محاولاته معى، وبعد هذه التحقيقات تم إسناد عملية التراخيص لهذه المكملات الغذائية إلى هيئة الرقابة الدوائية مع التشديد على كتابة عبارة «مكمل غذائى» على هذه العبوات، واستمر هذا الوضع إلى أن أسندت تراخيص المكملات الغذائية منذ بضع سنوات إلى هيئة الغذاء مع متابعة من هيئة الرقابة الدوائية.
مقلب لا يُنسَى
رغم ما يمكن أن نصفه بمفرمة العمل التى لا تهدأ فى روزاليوسف؛ فإن العلاقات الإنسانية بين أبناء فاطمة اليوسف كانت لا تخلو من الدعابات والمشاكسات الطريفة، ويبدو أنها سمة أصيلة فى «مجتمع روزا»، ومن هذه المواقف مقلب لن أنساه، نصب شباكه الصديقان الفنان عمرو سليم والناقد الفنى عصام زكريا، ففى أواخر التسعينيات كنت أبحث عن شقة تناسب إمكانياتى المتواضعة، لأجد عمرو وعصام يقفان فوق رأسى وهما فى منتهى الجدية ليعطيانى رقم هاتف أرضى ويطلبان منّى الاتصال بصاحبه الذى توجد لديه شقة تناسبنى، وأكدا لى أنهما يعرفان هذا الرجل جيدًا ووجدا أنه يمكن الوصول معه لاتفاق جيد.
انصرف عمرو وعصام وتركانى أتصل بصاحبهما مالك الشقة، ودار بيننا «حوار طرشان»، الصوت على الطرف الآخر لرجل وقور شديد الجدية لكن تظهر من نبرته حالة من التململ الشديد لندخل سويًا فى حوار يشبه موقفًا كوميديًا مألوفًا فى الكثير من الأفلام، وبعدما شعر الرجل بأن هناك خللًا ما فى الأمر، سألنى: «أنت عايز تدفع كام؟»، أجبته بكل ثقة: «زى ما قولت لعمرو وعصام»، فقال لى وقد نفد صبره: «يعنى كام؟»، قلت: «35 ألف»، هنا سمعت وصلة سُباب لم أسمعها فى حياتى من قبل، انتهت بغلق الخط من طرف واحد، وأنا فى حالة وجوم شديدة لا أعلم ماهى الجريمة التى ارتكبتها.
صعدت إلى الدور السادس لأستفسر من عمرو وعصام عن سبب غضب صديقهما مالك الشقة، لأكتشف كم هما شريران، أخذ عصام بيده الصفحة الأولى لإحدى الصحف اليومية وبها إعلان عن بيع شقة يبدأ بعبارة «شقة لعظيم» وسعرها مليون جنيه بالتمام والكمال، وما أدراك ما المليون جنيه فى ذلك الزمان، كان نصف هذا المبلغ يكفى لشراء فيلا فى 6 أكتوبر وعليها عروسة وسيارة كمان.
هنا أدركت أننى وقعت فريسة لشريرَيْن لا يرحمان، وحمدت الله أن صاحب الشقة اكتفى بوصلة السباب المحترمة، وأيقنت أن مثل هذه المقالب جزء من جينات أبناء روزاليوسف، وتذكرت قصة روتها لى الراحلة مديحة عزت وكيف شاركت مع عدد من نجوم روزاليوسف فى مقلب حيك بدهاء للراحل الدكتور مصطفى محمود عندما كان صحفيًا فى روزاليوسف منتصف القرن العشرين، فأوعزوا إليها أن تكتب بخطها الأنثوى رسالة إلى الدكتور مصطفى محمود تخبره فيه أنها شديدة الإعجاب بكتاباته وترغب فى مقابلته للتعرف عليه بشكل أكبر، وأعطته موعدًا فى حديقة الأسماك على ما أتذكر، وبالفعل ذهب الدكتور مصطفى محمود فى الزمان والمكان المحددين وهو فى قمة الشياكة ليجد فى انتظاره أشرار روزاليوسف، فثارت ثائرته وتركهم غاضبًا وظل معتكفًا فى بيته أسبوعين رافضًا العودة للمجلة.
المَلكة والمَمْلكة
القصص والذكريات مع «روزاليوسف» كثيرة، ولكن يبقى أمرٌ بالغ الأهمية لا يدرك معناه إلا من عاش حياته المهنية فى مؤسّسة مثل روزاليوسف، وتحديدًا فى مجلة روزاليوسف، فهى مَدرسة فريدة لا تتكرر، مثل العنقاء أو الفينيق، ذلك الطائر الأسطورى الذى يعود من رماده للحياة مرة أخرى، هكذا مجلة روزاليوسف التى ظن البعض فى فترات عصيبة مرت عليها من وقت إلى آخر خلال قرن من الزمان أنها ماتت فإذ هى فى كل مرة تبعث من جديد أكثر قوة من ذى قبل.
السِّر فى هذه المجلة الأسطورة، يكمن فى مَدرستها وفى روحها التى تتسرب شيئًا فشيئًا فى دماء مَن يدخل محرابها، تتلبسه دون أن يدرى وهو على أولى عتباتها، هى مصنع صحفى من طراز نادر، رغم تنوع العاملين بها؛ فإن القاسم المشترك والصفة التى لا تزول هى «روح روزا» التى لن تجدها فى أى مؤسّسة صحفية أخرى.
مؤسّسة ليست الأكبر من حيث الدار كمبنى أو عدد الإصدارات؛ لكنها الأعظم من حيث المهنة والتأثير والمشاركة فى أبرز الأحداث المفصلية التى مر بها الوطن، هى جزء من هويته وتاريخه ومرآة تعكس حالته ومنحنيات مسيرته، ودرع متين فى الدفاع عنه عندما يتخاذل الآخرون، لا يمكن تصور حال الصحافة المصرية والعربية من دون وجود «روزاليوسف»، فبلاط صاحبة الجلالة لا معنى له من دونها، فهى المَلكة والمَمْلكة.







