عم عبد الراضى حارس الذاكرة
رشدي الدقن
فى تاريخ «روزاليوسف»، لا تُروَى الحكايات فقط عن الكُتّاب العظام، ولا عن رؤساء التحرير الذين صنعوا المعارك السياسية والفكرية؛ بل هناك أيضًا شخصيات صغيرة فى ظاهرها، كبيرة فى أثرها، ارتبطت بالمكان والناس وصارت جزءًا من روحه.. من بين هؤلاء يبرز اسم «عم عبدالراضى،» الذى عُرف لعقود طويلة بصفته «ساعى مجلة «روزاليوسف»»، لكنه كان فى واقع الأمر أكثر من مجرد موظف يؤدى عملًا ظاهره بسيط وباطنه عظيم، لدرجة أنه تحوّل إلى رمز من رموز الكواليس فى الدار الأعرق والأهم والتى نتشرف بالانتماء لها.
يحالفنى الحظ أن ألتقى عم عبدالراضى لكنى تزاملت سنوات مع ابنه المرحوم خالد عبدالراضى، الذى كان مسئولاً عن وحدة الكمبيوتر فى المؤسّسة.. كل من رآه قالوا إنه نسخة مصغرة من عم عبدالراضى فى الشكل والأخلاق.
المرحوم «خالد» كان مثل والده مقربًا من الجميع صحفيين وإداريين وعمالاً.. وهذه إحدى ميزات «روزاليوسف» التى لن يراها ولا يشعر بها إلا أبناء روزا.. فهى المؤسّسة الوحيدة التى ينصهر فيها الجميع عمالاً وإداريين وصحفيين.. لن ترى هذا الترابط فى أى مكان آخر.. الكل أبناء روزا.. والكل بينهم من الود والحكايات ما يملأ كتبًا.
هذا الترابط جعل من أسطورة مصرية كبيرة اسمها «صلاح جاهين» عندما انتقل للعمل فى الأهرام يعلنها صراحة: لا أجد نفسى هنا لا أستطيع أن أرسم ولا أكتب..أريد العودة إلى «روزاليوسف».. وعندما سألوه عن السبب قال ما رآه البعض «مزحة»: الساعى هنا يقدم لى القهوة وهو يرتدى ببيونة.. ضحك كل من سمعوا تعليقه أما هو فكان يتحدث بصدق ووجد الحل فى الذهاب إلى مكتبه فى روزا يرسم ويكتب ثم يذهب لينشر فى الأهرام.
صلاح جاهين كان صادقًا جدًا.. فالرجل لا يجد الود والمحبة التى عاشها فى «روزاليوسف».. لم يعد يستطيع أن يتناول إفطاره مع الجميع.. فهنا لا فرق بين عامل وإدارى وصحفى أيًا كان موقعه حتى لو كان رئيسًا للتحرير.. الكل يتناول الفطور معًا..وغالبًا يكون على حساب عم عبدالراضى الذى كان يقرض الجميع بمن فيهم رؤساء التحرير.. ورؤساء مجالس إدارة.. ومن النوادر التى تحكى هنا أن عم عبدالراضى كان كادرًا مهمًا فى الاتحاد الاشتراكى.. وكان يرأس رئيسىّ مجلس الإدارة والتحرير فى التنظيم فى الاجتماعات الليلية.. وفى الصباح ينقلب الوضع ويعود مرءوسًا للاثنين.

إقراض «عم عبدالراضى» للصحفيين كان بمثابة قرار تعيين.. فهو لا يقرض إلا الموهوبين ومن لهم مستقبل فى المكان.. كان له نظرة ثاقبة فى كل من يدخل المؤسّسة.. كان يعلم الكثير والكثير من الأسرار.. خزانة أسرار مغلقة.. لا يفتحها لأحد ولا يفضح أى شخص.. يترفع بأخلاق كريمة عن الصغائر ويتعامل بنُبْل رجل صعيدى جدع وشهم..حتى من أساءوا له ويعلم عنهم ما ينهى مسيرتهم المهنية تحمّلهم ولم ينطق بكلمة عليهم.
«عم عبدالراضى» كان جواز مرور مهم جدًا لكل المتدربين.. مَن ينال رضاه يصبح فى حمايته فلا أحد ينغص عليه عيشته ولا أحد يرهبه.. ولو أقرضه مالاً فيكون من المقربين المحظوظين يفتخر بأنه بات قاب قوسين أو أدنى على دخول عالم روزا المسحور.
عندما شرفنى الصديق العزيز أحمد إمبابى رئيس التحرير بأن أكون أحد كتّاب العدد التذكارى بمناسبة مرور 100 سنة على إصدار المجلة- وهو شرف لو تعلمون عظيم- فمن هنا مَرّ منها كل نجوم ومشاهير المهنة على مدار تاريخها.. قفز فى ذهنى شخصية عم عبدالراضى.. الحكايات التى سمعتها عنه جعلت منه حارسًا للذاكرة فى «روزاليوسف».. وجدته النموذج الأبرز للعلاقة الأسرية التى تربط أبناء روزا على مدار تاريخها.. فحتى ونحن لم نعش زمن كثيرين نظل مرتبطين بهم وننتمى ونفخر بهم.
لا يعرف أحد على وجه التحديد متى التحق عم عبدالراضى بالمجلة الأعرق والأهم فى العالم العربى كله، لكن ظهوره يرتبط بزمن ازدهار «روزاليوسف» كمَدرسة صحفية وفكرية كبرى، منذ منتصف القرن العشرين حتى عقود لاحقة.
لم يكن صحفيًا ولا كاتبًا؛ بل رجلاً بسيطًا يتنقّل بين المكاتب حاملاً الرسائل، موزعًا الأعداد، ومسهّلاً مهام اليوميات، إلا أن حضوره تجاوز الدور الوظيفى ليترك بصمة إنسانية واجتماعية واضحة.
يصفه من عرفوه بأنه حاد الملامح لكنه ضحوك، يملك مزيجًا من الصرامة والمرح... والقلب الأبيض.. كان إذا رضى عن أحدٍ من الزملاء سهلت حياته داخل المؤسسة: يوصى له بخدمة من البوفيه، أو يمده بنسخة مجانية من العدد، أو يسهّل دخوله إلى مكاتب لم يكن يُسمَح للجميع بالاقتراب منها.. أمّا إذا غضب؛ فبإمكانه أن يجعل الأمور أكثر تعقيدًا.. بهذا المعنى، كان «عبدالراضى» يملك «سلطة خفية» يستشعرها الصحفيون والكتّاب، ويحسبون حسابها رغم بساطة موقعه الإدارى.
فلم يكن مجرد ساع يحمل أوراقًا؛ بل كان ناصحًا وحارسًا غير معلن للتوازنات الداخلية.. اعتاد أن يحذّر الكتّاب المبتدئين من الاصطدام بالصحفيين القدامَى، ويشرح لهم بخبرة سنواته الطويلة «مَن تبع مَن» فى المجلة، ومَن يملك النفوذ ومَن ينبغى تجنّب الدخول معه فى معارك جانبية... فى مؤسّسة بحجم «روزاليوسف»؛ حيث تتقاطع السياسة بالفن والثقافة، كان لهذه النصائح وزن كبير.
يروى بعض مَن عملوا معه أنه لم يكن يخشى التعبير عن رأيه فيمن يراه غير ملتزم أو متعجرف... كانوا يسمّونه أحيانًا «الرئيس الحقيقى لروزا»، ليس لأنه عاش حياة صاخبة؛ بل لأنه لم يتَخَلَّ عن طبعه الصريح الذى يجعله يضع كل شخص فى مكانه كما يراه؛ بل إن بعض العاملين كانوا يعتبرون رضاه أو غضبه مؤشرًا على «المكانة» الحقيقية للمرء داخل المؤسّسة.

ومن الحكايات أيضًا أن الأستاذ يوسف السباعى عندما انتقل للعمل فى الأهرام ذهب عم عبدالراضى لزيارته.. حاول الدخول إليه كما اعتاد فى روزا فالأبواب كلها مفتوحة.. لكن مديرة مكتبه منعته.. ثار عم عبدالراضى وبكى وخرج يوسف السباعى بنفسه ليراضيه ويعتذر له.
ومن الطرائف أن أسطورة أخرى من أساطير «روزاليوسف» اسمها «سعاد رضا»، حين صرفت مكافأة رمزية لأحد الصحفيين الجُدد، قالت لعم عبدالراضى بما يوحى أنه مزحه ولكنه فى الحقيقة رسالة بحبر سرّى لا يفهما إلا الاثنان..قالت له: «خلى بالك، ده مش تبع حد»، فى إشارة إلى أن هذا الصحفى الشاب غير محسوب على أى تيار داخلى.. هنا كان لعم عبدالراضى كلمة، إذ إن تعليقه أو نظرته فى مثل تلك اللحظة تكفى لتحديد ما إذا كان القادم الجديد سيندمج بسهولة أم سيظل على الهامش.
اللافت أن اسم عم عبدالراضى لم يدوّن فى سجلات الصحافة الرسمية ولا فى أرشيفات المؤسّسات الكبرى. لم تُحفَظ له مقابلات صحفية، ولم يُذكَر تاريخ ميلاده أو وفاته فى أى مصدر موثّق؛ إنما بقى حاضرًا فى ذاكرة العاملين وشهادات من مرّوا بالمجلة؛ حيث تحوّل إلى شخصية شبه أسطورية تُمثل «روح الكواليس».
فى شهادات بعض الصحفيين القدامى، يُقال إن سنوات تغيّر الإدارة فى السبعينيات والثمانينيات؛ خصوصًا فى عهد الرئيس السادات وما تلاه، تركت أثرًا على العاملين جميعًا.. كانت «روزاليوسف» ساحة لصراعات سياسية وثقافية كبرى، ومعها تراجعت بعض الأسماء وبهتت أدوار أخرى.. ومع ذلك ظلّ ذِكْر عم عبدالراضى حاضرًا، كأنه أحد ملامح الزمن الجميل للمجلة.
ما يميز «عبدالراضى» أنه كان رمزًا للسلطة الرمزية داخل مؤسّسة «روزاليوسف».. ليس مسئولًا رسميًا ولا صانع قرار، لكنه يمسك بخيوط دقيقة من العلاقات الإنسانية واليومية.
الخلاصة.. فى «روزاليوسف» الصحافة ليست فقط ما يُنشَر على الصفحات؛ بل أيضًا شبكة من البَشر الذين يصنعون البيئة المهنية.. وعم عبدالراضى واحد من هؤلاء الذين أعطوا للصحافة المصرية وجهًا إنسانيًا غير مكتوب.
قد لا نجد فى الأرشيف صورة واضحة لعم عبدالراضى، وربما يظل اسمه مجهولًا لدى الأجيال الجديدة من الصحفيين، لكن الذين عاصروه يعرفون أن المجلة لم تكن لتبدو كما هى من دونه.. تذكره للجميع بأن وراء عظمة «روزاليوسف» أشخاصًا بسطاء، لا يكتبون المقالات ولا يوقّعون القرارات؛ لكنهم يتركون أثرًا لا يُمحَى فى النفوس والذاكرة.







