الحاجة سعاد رضا.. سيرة ضد النسيان
داليا طه
فى ذاكرة الصحافة المصرية، تبقى أسماء قليلة فقط هى التى تجاوزت حدود الوظائف والمناصب لتصبح «روحًا» فى المكان. من بين هذه الأسماء تلمع الحاجة سعاد رضا، التى لم تكن مجرد مدير عام لمؤسسة روزاليوسف، بل رمزًا لعصر كامل من الصبر والكفاح والإصرار.
ولدت سعاد رضا فى إحدى الأسر المصرية البسيطة التى آمنت بقيمة التعليم والعمل. لم يكن طريقها ممهدًا، بل مليئًا بالتحديات الاقتصادية والاجتماعية التى عاشتها الأسرة فى سنوات ما بعد ثورة يوليو. كانت الطفلة هادئة الملامح، قوية الإرادة، تحلم بأن يكون لها مكان مختلف وسط مجتمع يرى أن مستقبل المرأة ينحصر فى الزواج والبيت.
كبرت سعاد وسط أسرة تؤمن بالجدية. كان والدها يردد دائمًا: «العلم هو السلاح الوحيد اللى مش بيصدأ»، فغرس فيها حب التعلم. أما والدتها فكانت سيدة بيت صبورة، دعمت ابنتها رغم صعوبة الظروف. وسط هذا المناخ تربت على فكرة أن العمل ليس رفاهية، بل ضرورة لحياة كريمة.
ما كان والد سعاد، محمود رضا، عند «فاطمة اليوسف» مجرد ممثل عادى، يؤدى على الخشبة معها أدوارًا، ويجسد شخصيات سال حبر المؤلفين فى تكوينها وتحريكها، إنما كان صديقًا صفيًا عندها، تأتمنه على القليل والكثير من كتمات صدرها، فكان هو الأمين المؤتمن.
ومات محمود رضا بعد صراع مع المرض، فوفت «الست روزا» بالوعد، وضمّت سعاد- الطفلة اليتيمة- إلى أسرتها، فقرّبتها من آمال ابنتها من زواجها من زكى طليمات، وإحسان من زواجها من محمد عبدالقدوس، وقد أصبح إحسان لها الشقيق الأكبر، يحميها ويرعاها، تأتيه فينصح ويرشد، وتطلب فيُلبى.
بدأت سعاد رضا مسيرتها الصحفية فى منتصف خمسينيات القرن الماضى، تحت رعاية السيدة فاطمة اليوسف التى قررت أن تنقل خبرتها لابنته فتولتها بالعناية وبدأت فى تعليمها فنون إدارة الصحف بينما كانت لم تزل تلميذة فى المرحلة الإعدادية.
ولم تفرق «الست روزا» فى معاملة سعاد، فكما قست على ولديها عندما يأتيان بما لا توافق عليه من تصرفات، أو لا تأتى نتائج دراستهما على ما تشتهى وتطلب، كانت تقسو عليها وتعاقبها، أسوة بآمال وإحسان.
ومنذ سنواتها الأولى فى المدرسة، برز نبوغ سعاد وتفوقها الدراسى. كانت الأولى على دفعتها فى معظم المراحل، ولم يمنعها شيء من مواصلة التعليم الجامعى فى وقت كان كثير من الفتيات يتوقفن عند حدود الثانوية. التحقت بالجامعة، وهناك تفتحت مداركها أكثر، وبدأت شغفها الحقيقى بالإدارة والتنظيم، وهو ما سيحدد لاحقًا مسارها المهنى.
لم يكن التعليم مجرد شهادة بالنسبة لها، بل كان بمثابة السلاح الذى ستواجه به صعوبات الحياة. تقول إحدى قريباتها عنها: «كانت مؤمنة بأن كل خطوة تعليمية هى درجة على سلم النجاة».
وأقبلت سعاد على العلم بنهم المتعطشين للمعرفة، وغلب عليها الميل إلى الأرقام والحسابات، فشجعتها «الست روزا» على دراسة المحاسبة وإدارة الأعمال، وفى نيتها أن تسلمها مقدرات الدار المالية الإدارية، فنبغت سعاد فيهما، وتقلدت فى رأسها معرفة واسعة بما يتصل بالإدارة والتنظيم المالى ووضع الميزانيات، فغدت مرجعًا لكثير من شواردهما وأوابدهما.. واستطاعت بجهدها واجتهادها ومثابرتها ودأبها المتواصل والتتبع الدقيق، أن تحظى بثقة «الست روزا»، فنالت الحظوة، ورفعتها من أصغر المناصب إلى أكبرها، لتتصدر المسئوليات فى الدار بصفتها «العضو المنتدب» للمؤسسة.
بعد تخرجها، دخلت سعاد رضا معترك العمل فى زمن كانت المؤسسات الصحفية حكرًا تقريبًا على الرجال، خصوصًا فى المناصب القيادية والإدارية. التحقت بمؤسسة روزاليوسف، وكانت وقتها مدرسة للصحافة الجادة، مليئة بالأسماء الكبيرة.
واجهت تحديات قاسية: كونها امرأة شابة فى بيئة عمل صعبة، مليئة بالصرامة والذكورية. لكنها لم تستسلم. كانت تصل قبل الجميع، وتغادر بعد أن يرحل آخر موظف. دقتها فى التفاصيل وحزمها فى القرارات جعلاها محل ثقة مديريها وزملائها. شيئًا فشيئًا، صارت الاسم الذى يُعتمد عليه فى المواقف الصعبة.
الصعود إلى القمة
سنوات طويلة من الاجتهاد والعرق أوصلت سعاد إلى موقع المدير العام لمؤسسة روزاليوسف، وهو منصب لم تصل إليه امرأة بسهولة فى ذلك الوقت. كانت تعرف أن الوصول للقمة أصعب بكثير من مجرد الحلم بها، وكانت تؤمن بأن المؤسسة الصحفية ليست فقط مطبعة وأوراقًا، بل بيت يضم عائلات وأحلامًا.
فى هذا المنصب، جمعت بين الحزم والرحمة. مع الموظفين، كانت صارمة فى الانضباط، لكنها أم فى المواقف الإنسانية. يروى أحد الصحفيين القدامى: «كانت تقدر توبخك فى لحظة، وبعدها تسألك لو محتاج مساعدة فى بيتك أو مع أسرتك»، وقال صحفى مخضرم: «الحاجة سعاد كانت عمود البيت. لو غابت يومًا كأن المؤسسة كلها اختلت»، كما روت سكرتيرة عملت بجوارها: «كنت أشوفها وهى بتراجع أوراق وحسابات لحد ساعات متأخرة من الليل. كانت تعتبر أن روزاليوسف بيتها الأول».
مواجهة الأزمات
حين دخلت الحاجة سعاد رضا باب روزاليوسف لأول مرة، لم تكن تدرى أن هذا المبنى العريق سيصبح بيتها الثانى وملعبها الحقيقى فى معركة العمر. بدأت موظفة إدارية بسيطة، تؤدى مهامها فى صمت ودقة، لكن مع الأيام أثبتت أنها تملك شيئًا أكبر من مجرد الانضباط: إرادة لا تلين.
فى السبعينيات والثمانينيات، كانت روزاليوسف تمر بأزمات مالية حادة، مثل كثير من المؤسسات الصحفية القومية. المرتبات قليلة، الموارد محدودة، والضغوط السياسية حاضرة دائمًا.
لكن الحاجة سعاد لم تستسلم، كانت تسهر بالساعات توازن بين الحسابات، وتبحث عن حلول مبتكرة لتوفير موارد إضافية. ذات مرة، حكت أنها «كانت ترجع البيت ومعاها شنطة أوراق أكتر من شنطة المشتريات»، لأنها كانت تعتبر إنقاذ المؤسسة جزءًا من رسالتها.
لم يكن طريقها مفروشًا بالورود. البيروقراطية كانت عائقًا دائمًا، والمعارك الإدارية لا تنتهى. كان عليها أن تثبت أن المرأة قادرة على إدارة الملفات المالية والإدارية بكفاءة لا تقل عن الرجال. كانت تسمع همسات المشككين: «دى ست.. هتعرف تدير مؤسسة بحجم روزاليوسف إزاي؟» لكنها أجابت بالصمت والعمل، حتى صارت مع الوقت أول اسم يلجأ إليه الجميع عند الأزمات.
من أبرز معاركها التى يتذكرها زملاؤها، كفاحها من أجل حقوق الموظفين الصغار. لم تكن تقبل أن يُظلم أحد أو يُهدر حقه. كانت تدخل مكاتب الكبار دون تردد، وتجادل من أجل زميل مظلوم أو موظف ينتظر ترقية مستحقة.

قصتها مع مشاهير الصحافة
من صلاح حافظ إلى الشرقاوى، ومن بهاء الدين إلى إدريس، وغيرهم من الأسماء التى صنعت تاريخ الصحافة والفكر، كانت الحاجة سعاد رضا جزءًا من الحكاية. لم تكن تسعى للواجهة، لكنها كانت العمود الصامت الذى يستند إليه الجميع. وقد رافقت سعاد رضا الرحلة الصحفية لعدد كبير من مشاهير أسماء الصحافة، منهم صلاح حافظ وعبدالرحمن الشرقاوى وجمال كامل وصلاح جاهين وفتحى غانم والفنان حجازى وعلاء الديب، وكانت المدير العام الأسبق لمؤسسة روزاليوسف فى مراحل مختلفة ومنذ نهاية السبعينيات إلى أن تقاعدت فى سنة 2006.
واليوم، حين يُذكر اسمها، يُذكر معها عصر كامل حمل فيه القلم معنى القوة، وكانت روزاليوسف إحدى أهم منصاته.
الكاتب الكبير صلاح حافظ كان أحد أكثر الأسماء التى أثرت فى وجدانها. كانت تعتبره مدرسة فى الاستقلالية والنزاهة، وتقول دائمًا: «صلاح حافظ علّمنا أن الصحافة مش كلمة على ورق، الصحافة موقف ومسئولية».
وثق فيها ثقة مطلقة، فكانت بالنسبة له العقل المدبّر الذى يحفظ توازن المجلة فى أصعب الأوقات، حين كانت الضغوط السياسية والأمنية تتزايد.
أما الأديب الكبير عبدالرحمن الشرقاوى، فكان بالنسبة لها رمزًا آخر. صاحب «الأرض» و«الحسين ثائرًا»، كان يحمل هموم الفلاح والمظلوم، وكانت سعاد تراه «الضمير الشعبى» الذى عبر عن البسطاء بالكلمة الصادقة.
كانت تروى دائمًا كيف كان الشرقاوى يجلس فى مكتب بسيط، ويكتب كأنه يخاطب الملايين، بينما تهيئ له هى وزملاؤها الأجواء ليتفرغ للإبداع.
رافقَت أيضًا الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين، الذى اشتهر باتزانه وعمق تحليلاته. كان صوت العقل وسط صخب السياسة. تذكر سعاد أنه كان دائمًا ما يستمع للجميع قبل أن يكتب، وأنه علّمها أن «الحياد مش ضعف، لكنه قوة مبنية على معرفة واسعة».
لم تخلُ ذكرياتها أيضًا من الأديب والطبيب يوسف إدريس، صاحب الأسلوب المختلف والثائر على القوالب. كانت تضحك وهى تقول: «يوسف إدريس كان حالة خاصة.. يدخل المكتب وكأنه عاصفة، لكنه يترك وراءه نصوصًا تبقى خالدة». ورغم حدّة شخصيته، كانت سعاد تعرف كيف تحتويه، وتوفر له مساحة من الحرية ليكتب دون قيود.
الوجه الإنساني
خارج أسوار المجلة، كانت سعاد رضا إنسانة بسيطة، سيدة بيت تهتم بأبنائها وأحفادها. لم يكن نجاحها المهنى يعنى أنها غابت عن بيتها، بل كانت تسعى دائمًا لأن تجمع بين الاثنين. كثيرون قالوا إنها امتلكت قدرة نادرة على الموازنة بين البيت والعمل، بين الصرامة والحنان.
فى بيتها، كانت أمًا وزوجة قبل أى شيء آخر. تحرص على أن يجتمع الأبناء حول مائدة الطعام كل يوم، مهما انشغلت أعمالها فى روزاليوسف. كانت تعطى أولادها دروسًا فى الصبر والاعتماد على النفس، وتردد دائمًا أن «البيت هو السند الأول، والعمل هو الطريق».. لم يكن يمر شهر رمضان إلا وقد نظمت بنفسها مبادرات لدعم العاملين البسطاء فى المؤسسة. كانت تعتبر أن روزاليوسف بيت كبير، وأن كل من يعمل فيه - من أكبر كاتب إلى أصغر عامل نظافة - له نفس القيمة.
ورغم صرامتها، كانت الحاجة سعاد تمتلك ابتسامة تطمئن من يراها. كانت تعرف متى تُلقى كلمة مشجعة أو نصيحة صادقة. بعض الصحفيات الشابات اللواتى تتلمذن على يديها يذكرن أنها كانت دومًا تقول: «اشتغلى كأنك بتكتبى للتاريخ، مش لعدد النهارده».
وربما أجمل ما يميز سيرتها الإنسانية أنها لم تتعامل يومًا بتعالٍ. لم يشعر أحد يومًا أنها «المدير العام» الذى يجلس فى برج عاجى بعيد عن الناس. كانت تقف فى الطابور مع الجميع، تشرب الشاى فى كوباية عادية، وتجلس وسط الموظفين بلا حواجز.
اليوم، حين يُذكر اسمها بين أبناء روزاليوسف، تُذكر معها قيم: الكفاح، النزاهة، الانضباط، والإنسانية. لم تترك فقط قرارات وأوراقًا فى أدراج المكاتب، بل تركت أثرًا إنسانيًا فى كل من عمل معها.







