نبيل عمر
«قابيل» لم يشاهد أفلام البلطجة!
أى جريمة لها دوافع، وكلما كبرت الدوافع يمكن أن نتفهم أسباب الجريمة، دون أن نبررها ولو بكلمة، فالجريمة فعل قبيح موجه ضد مصالح المجتمع ككل، صديد متراكم فى نفسية مرتكبها ينتهك نظام الأخلاق السائد، لكن ثمة جرائم يتوقف عندها المرء متعجبًا، لضعف دوافعها، إلى الدرجة التى تبدو فيها «نوعا» من الانتحار، أو إلقاء النفس على قضبان الأيام المسنونة فى لحظة طيش عابرة.
هل فيكم من يفهم كيف لطفل فى السادسة من عمره أن يقتل صديقه بمنشار ويمزقه إلى ستة أجزاء؟ هل يمكن أن نستوعب أو نفهم كيف لزوجة عادية جدًا فى الستين من عمرها أن تقتل زوجها الذى فى الثالثة والستين بعد زواج طويل أكل عليه الزمان وشرب ولم يعد أمامهما إلا حسن الختام؟، كيف لزوج أن يذبح زوجته بعد زواج ثلاثة أشهر فقط لمجرد خلاف حتى لو كان حادًا، ثم يفر هاربًا؟، ألم تكن هناك بدائل أكثر أمنًا مهما كانت أوجاعها النفسية والمالية دون سفك الدماء وضياع العمر فى غياهب السجون؟
ويقدر عدد المسجونين خلف الأسوار فى العالم حاليًا بـ12 مليون مدان، وأتصور أن الرقم الصحيح أعلى من ذلك بكثير، بسبب عدم دقة البيانات أو قلتها فى دول العالم الثالث، فالولايات المتحدة والصين فقط بهما أربعة ملايين سجين، وعدد سكانهما معًا يمثل 2 %1 من إجمالى سكان العالم، ويتعجب المرء كيف لدولة مثل الولايات المتحدة بها مليونان ومائتى ألف سجين، من 330 مليون نسمة، وهى أغنى دولة على كوكب الأرض!
نعم الإنسان أعقد ألغاز الكون، لا الجبال ولا المحيطات، ولا الكائنات ذات الأشكال العجيبة والألوان البديعة، ولا النجوم السابحة فى فضاءات نائية، ولا الاختراعات المذهلة التى تنهال علينا كل يوم، الإنسان هو «أعجب الألغاز»، بقدر عدد سكان الأرض البالغ ثمانية مليارات ومائتى مليون نسمة، من أول ماسح أحذية بسيط على باب الله فى زقاق صغير بدولة فقيرة إلى رئيس أقوى دولة فى العالم تحت إمرته جيوش وقوات وأسلحة لا أول لها ولا آخر!
وأى مراجعة لتصرفات وسلوكيات بعض رؤساء دول وحكام، من حروب وقتل أبرياء وتدمير وسائل الحياة، لن تختلف فى جوهرها عن تصرفات «مجرمين» عتاة، كيف نصف ما يقترفه جيش الإبادة الإسرائيلى فى غزة؟، أو ما حدث فى العراق من سفك دماء أكثر من مليون عراقي؟، أو ما يجرى فى السودان الآن؟، تخيلوا أن 92 دولة حاليًا تشارك فى صراعات خارج حدودها!، الفارق أن هؤلاء «السياسيين» يتمتعون بـ«حماية» خاصة لجرائمهم تحت لافتات براقة يمر عليها المجتمع الدولى مرور الكرام دون حساب!
نعود إلى عالم البشر العاديين.. وبالطبع لا يوجد مجتمع يخلو من الجريمة، وإن تختلف فى شكلها وتنوعها وأدواتها وأساليبها ووسائل مكافحتها وإنزال العقاب بمرتكبيها من مجتمع لآخر، وقد تطورت من عصر إلى عصر، ومن حالة إلى حالة، ومن نظام عام إلى نظام عام، بسبب ارتباطها بنمط الإنتاج وتوزيع الثروة والثقافة السائدة وسياسات المجتمع فى إدارة شئون حياته، ولا يوجد نظام اخترعه البشر وعاشوا به ليس له «عوادم» أو آثار جانبية تمضى عكس التيار العام المنضبط والملتزم بقواعد ذلك النظام.
قد نؤمن أن الإنسان لا يولد شريرًا ولا جشعًا، والانحراف لا يرجع إلى نقص فى طبيعة هذا الفرد أو إلى نزاعات داخلية فى نفسه البشرية، وإنما تسببه فى الغالب نواقص ومثالب فى البيئة المحيطة به، وعدم تهيئة الجو النفسى والمناخ الملائم لتربيته وتوجيهه ورعايته بطريقة سليمة.
لكن بعضًا من علماء الاجتماع يصفون الجريمة بأنها مثل جنين عشوائى يقتات على كل العيوب الجينية والاجتماعية التى يتوارثها الفرد عن أجداده وأبيه، جنين ينمو بالتدريج كائنا مشوها فى أحكامه وردود أفعاله.
وقد نتوقف كثيرًا عند نظرية الخلل الجينى الذى يصيب بعض البشر، وهو خلل مجهول الأسباب علميًا، وتبدو نظرية لها منطق ممتد فى الزمن، ويمكن قبولها فى تفسير جريمة الطفل الذى مزق جسد صديقه بالمنشار إلى ست قطع، ولنا فى جريمة قتل قابيل لأخيه هابيل عبرة متوارثة، فهى أول جريمة مسجلة فى الكتب السماوية، قد نعرف دوافعها ولكن لا نقبلها ولا نفهمها، وقد لا يستسيغ بعضنا هذه الدوافع، فكيف لأخ أن يقتل أخيه لسبب كان يمكن أن يجد له حلًا بسيطًا وأفضل، أن الله قد قبل قربان أخيه ولم يقبل قربانه، كان عليه، أن يعدل من سلوكه بالتقوى والعمل الصالح، لكنه استسهل قتل أخيه، كما لو أن اختفاءه من الوجود يمنحه فرصة التفرد، أما الإسرائيليات فقد اخترعت سببًا إضافيًا للجريمة، أن قابيل أراد أن يتزوج من أخته التوأم الجميلة ويستأثر بها، بينما كان من المقرر أن يتزوج هابيل منها حسب أمر آدم عليه السلام، وهذا التعارض فى قصة الزواج هو الذى أدى إلى قبول قربان هابيل دون قابيل، وهى حكاية تستحق التأمل، فهل الغيرة والحسد من أخيه يؤديان بالضرورة إلى القتل، الجريمة تبدو كما لو أن قابيل ولد مجرما أو وارثا للعنف «والإجرام»، وهنا نسأل: متى حدث الخلل الجينى فيه وكانت الحياة على الأرض فى باكورتها؟، خلل دفعه لأن يقتل دون أن يحرضه إنسان آخر أو تزن فى أذنيه أنثى ساحرة، أو يقلد بلطجيا رأه فى أفلام السينما ومسلسلات التليفزيون..قتله والسلام حتى لو لم يقصد، لأن العنف مثل الجنون حين يتلبس الإنسان لا يستطيع السيطرة على حدود تصرفاته.
والجريمة فى نظر «دافيد إيميل دوركايم» عالم الاجتماع الفرنسى الأشهر هى ظاهرة اجتماعية طبيعية تشيع فى كل المجتمعات على اختلاف درجة تطورها وحجمها، وهى فعل طبيعى وليس شاذا، إذ لا يخلو منها أى مجتمع سواء كان صغيرا أو كبيرا، متقدما أو متخلفا، ريفيا أو حضريا، فهى حتمية واعتيادية، لكنها حين تتجاوز المستويات المألوفة تصبح الجريمة ظاهرة شاذة وغير سوية.
وقد انتهى أغلب تعريفات الجريمة إلى عدة توصيفات..
1 - هى كل فعل يتعارض مع ما تعتبره الجماعة نافعا لها وعادلا فى نظرها.
2 - هى كل فعل يرتكبه الفرد بدوافع شخصية خالصة تقلق حياة الجماعة وتتعارض مع نظام الأخلاق السائد فى لحظة معينة.
3 - هى سلوك لا اجتماعى موجهٌ ضد مصالح المجتمع ككل، وكل انتهاك للعرف السائد بما يستوجب عقاب صاحبه.
4 - هى الخروج على قواعد السلوك التى يحددها المجتمع لأفراده بدقة، ويفصل فيها بين ماهية السلوك العادى وماهية السلوك الإجرامى وفقًا لقيمه ومعاييره.
وهنا يمكن أن نصف الجريمة بأنها الابن غير الشرعى للنظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية السائدة فى المجتمع، هى حصالة السيئات لكل التصرفات المجتمعية التى يشوبها قدر من الإهمال وعدم الاكتراث وفساد التربية وسوء التعليم وإحساس بالغبن سواء كان صحيحا أو غبيا.
والمجتمع العفى هو الذى يقف أمام المرآة كل فترة، بالعلماء والمفكرين وأساتذة علم الاجتماع والباحثين ورجال القضاء، ويرى صورته وأحواله على حقيقتها دون أن يكذب على نفسه أو يبررها أو يتهرب منها أو يهول من عيوبه ومثالبه، ثم يعيد التفكير والنظر، فى نظام إدارة حياته بشرا وموارد، ويطور هذا النظام بالدرجة التى تقلل من عوادم التشغيل الخارجة عنه، وأن تكون ملوثاتها من جرائم شاذة ومرعبة فى أضيق الحدود الممكنة!>







