صبحى مجاهد
عشرون عاماً فى بيت التنوير.. حكاية صحفى مع روزاليوسف
مع صدور العدد الأول بعد مرور مائة عام على تأسيس مجلة روزاليوسف، أكون قد أتممت عشرين عامًا من العمل الصحفى داخل هذه المؤسسة العريقة التى شكّلت وعيى المهنى وصقلت أدواتى الفكرية.
فى أكتوبر عام 2005 بدأت تجربتى مع مدرسة التنوير «روزاليوسف»، وكان لقائى الأول وقتها مع الكاتب الكبير الراحل عبد الله كمال. لم تكن خبرتى الصحفية آنذاك تتجاوز عشر سنوات، لكننى كنت شغوفًا بلونٍ من الصحافة لم يكن شائعًا فى ذلك الوقت، وهو صحافة الإسلام السياسي. كنت دائم البحث عن «صناعة الحدث»، أتتبع أروقة السياسة، وأرصد مواقف مؤسسة الأزهر الشريف، باعتبارها أحد أهم مراكز الثقل فى المشهد الدينى والفكرى فى مصر والعالم الإسلامى.
لم يكن اهتمامى منصبًا فى مسار واحد، بل تنوّعت اهتماماتى بين متابعة نشاط الأزهر والمؤسسات الدينية، ورصد حركات التيارات الإسلامية ومنظمات العمل الإسلامى داخل مصر وخارجها. وقد استطاع الكاتب الكبير عبد الله كمال، بعينه الخبيرة ووعيه السياسي، أن يوجّه هذه الجهود ويوظّفها فى إطار مهنى رصين، فكانت توجيهاته بالنسبة لى دروسًا عملية فى الفهم العميق والكتابة المسؤولة وصناعة الرأى العام.
ومع مرور السنوات، أصبح الأداء المهنى أكثر عمقًا وتشويقًا، ما بين رصد الحدث وصناعته، وبين صراعٍ من أجل التنوير ومواجهة التطرف. عايشت خلال تلك السنوات مواقف كثيرة قدّمت فيها لمؤسسة روزاليوسف رصيدًا صحفيًا تميزت به بين الإصدارات المصرية كافة، ووجدت خلالها دعمًا كبيرًا من رئيس التحرير الراحل عبد الله كمال، الذى آمن بقدرة الجيل الجديد على حمل راية التنوير والدفاع عن حرية الكلمة.
ومن أبرز المحطات التى شكلت وعيى المهني، تغطيتى لصراع جماعة الإخوان مع الأزهر الشريف، خصوصًا خلال فترة سيطرتهم على الحكم عام 2012، حين تكشّف الوجه الحقيقى للجماعة وسعيها للهيمنة على التكوين الفكرى والدينى للشعب المصرى بما يخدم مصالحها. فى تلك اللحظة التاريخية، كان دور روزاليوسف أكبر من مجرد الرصد والتحليل، إذ تحوّلت إلى منبر وطنى للدفاع عن حرية الأزهر واستقلاله، وكشف محاولات الاختراق الفكرى التى مارستها الجماعة فى المساجد والمؤسسات الدينية.
كانت المواجهة قاسية، حتى إن المجلة تعرّضت للتضييق ومنع المرتبات وتأخير الطباعة، لكنها لم تتراجع يومًا. ظل موقفنا ثابتًا وواضحًا: الدفاع عن حرية الرأي، ورفض سيطرة تيار متطرف على البلاد. كنا نؤمن أن معركة التنوير لا تُخاض بالشعارات، بل بالكلمة الحرة والموقف الثابت، ولهذا كانت روزاليوسف دومًا طرفًا فاعلًا فى معادلة صعبة هدفها الأسمى هو حماية مصر من التجهيل والتطرف.
ومن وجهة نظري، لم تكن «روزاليوسف» مجرد مدرسة فكرية أو منبر للتنوير، بل كانت مصنعًا حقيقيًا لإعداد أجيال من الصحفيين القادرين على حمل رسالتها وتجديد عطائها.
فقد برزت داخلها قيادات إعلامية رائدة أسهمت فى تخريج أقلام واعية ومبدعة، من بينها الدكتورة فاطمة سيد أحمد، التى خرّجت جيلًا من الصحفيين المتميزين القادرين على استيعاب روح روزاليوسف والنهوض بمسيرتها الفكرية والإعلامية.
ولم تنفصل إدارة المؤسسة يومًا عن هذا النهج، إذ حرصت دائمًا على اكتشاف المواهب الجديدة وتشجيع الأقلام الواعدة، إيمانًا منها بأن نهضة الصحافة لا تتحقق إلا بتجديد الدماء وتغذية الوعي.
ولذلك ظلّت روزاليوسف، على مدى قرنٍ من الزمان، قبلة للعقول الحرة، ومدرسة تخرج منها أعلام الفكر والإعلام فى مصر والوطن العربي.
وتمضى السنوات، ويستمر العطاء، حتى أتشرف بالعمل مع رؤساء تحرير حملوا الراية من بعد الأستاذ عبد الله كمال، وصنعوا فكرًا راقيًا، كان آخرهم الزميل العزيز الأستاذ أحمد الطاهري، والصديق الكاتب المتميز الأستاذ أحمد إمبابي، وكلاهما من أبناء الجيل نفسه الذى آمن به عبد الله كمال قبل عشرين عامًا، حين فتح أمامه أبواب روزاليوسف.
واليوم، وبعد عقدين من العمل بين جدران هذه المدرسة العريقة، أستطيع أن أقول بثقة إن روح روزاليوسف لا تزال حية، تسرى فى كل من مرّ بها، تحمل رسالتها، وتواصل مسيرتها فى مواجهة الجهل والتطرف، وصون التنوير والعقل المصرى.
لقد تعلّمت فى روزاليوسف أن الصحافة ليست مهنة فقط، بل رسالة ومسؤولية وضمير حي، وأن الكلمة الحرة قد تُحارب، لكنها لا تموت..ومع احتفال روزاليوسف بمرور مائة عام على صدورها، أجد نفسى أحتفل بعشرين عامًا داخل هذا الصرح العريق؛ عشرون عامًا من العمل، والبحث، والمواقف، والمعارك الفكرية والمهنية، التى صاغت تجربتى وجعلتنى واحدًا من أبناء هذه المدرسة التى لم تغب عنها شمس التنوير يومًا.
لقد كانت روزاليوسف- وما زالت- ضميرًا وطنيًا حيًا يحمل هموم الوطن ويدافع عن وعيه، مدرسة علمت أبناءها أن الصحافة ليست فقط مهنة، بل رسالة ومسؤولية تجاه الحقيقة.
ومثلما امتد عطاء روزاليوسف قرنًا كاملًا لتصبح أيقونة فى تاريخ الصحافة المصرية والعربية، فإن الأجيال الجديدة التى نشأت بين جدرانها ستظل تحمل مشعلها وتواصل رسالتها، ليظل بيت التنوير منارةً لا تنطفئ.>







