الجمعة 31 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
100 سنة روزاليوسف
عندما قادت «روزا» معركة الدولة المدنية

100 سنة من الكتابة فى مواجهة الخوف:

عندما قادت «روزا» معركة الدولة المدنية

منذ أن وضعت السيدة العظيمة فاطمة اليوسف الجذور الأولى لمجلة روزاليوسف سنة 1925، لم تكن المجلة يومًا مجرد مشروع صحفى جرىء؛ بل مثلت «روزاليوسف» حالة فكرية وثقافية وطنية.. تمردت على السائد، وواجهت كل مَن أراد أن يصادر العقل المصرى أو يختطف وعيه.



علي مدار 100 سنة، ظلت «روزاليوسف» مَدرسة فى العصيان الفكرى والتمرد الوطنى.. تصدر لتشعل العقول، ولا تهتم أن ترضى أحدًا، وتفتح باب الحوار والنقاش والجدال دون أى سبيل لغلقه، تسهم فى بناء الدولة المدنية المصرية بالكلمات والأفكار والكاريكاتير..

 

 

شغف “روزاليوسف”

كتابة المقالات ليست بالأمر الهين أو اليسير؛ خصوصًا لو فى مجلة «روزاليوسف».. حلم كل من عمل بالعمل الصحفى والفكرى والسياسى. وفى اعتقادى، أن تجربتى الشخصية مع «روزاليوسف» منذ ما يزيد على 25 سنة هى من المحطات الرئيسية فى العمل الفكرى والوطنى؛ حيث أتيحت لى الفرص للاشتباك مع العديد من الملفات الفائقة الحساسية فى الحياة المصرية. بداية من توترات الملف الطائفى وعلاقة جماعة «الإخوان المسلمين» الإرهابية به وإدارة الأزمات الطائفية وعدم توظيف الدين واستغلاله، ومرورًا بملف إصلاح الكنيسة والعلاقات المسيحية الإسلامية وحوار أتباع الأديان وتجديد الفكر الدينى وقضية الأحوال الشخصية للمواطنين المسيحيين المصريين، وصولًا إلى ملف الأديان الإبراهيمية والمسيحية الصهيونية وقضية البطريرك الوهمى المزعوم مكس ميشيل. وقبل ذلك كله ملف الحياة السياسية والحزبية، والتحديات التى تواجه الدولة المصرية. وكان الهدف العام لكل ما سبق هو ترسيخ أركان الدولة المدنية المصرية.

 

لم تكن كل تلك المقالات مجرد رأى، بقدر ما كانت موقفًا فكريًا تحت مظلة الدولة المدنية المصرية التى أومن أن تحقيقها ضد الطائفية، وترسيخ منظومة المواطنة فيها ضد تسييس الدين وتطييف المجتمع، وتثبيت لأركان الدولة المصرية ضد الفوضى شبه الخلاقة.

 

 

المواطنة .. معركة وعي

 

لم يقتصر معالجة «روزاليوسف» للملف الطائفى عند الأزمات الدينية؛ بل دائمًا ما كان مؤشرًا سياسيًا على مدى تطور الدولة المدنية المصرية ونضجها. ولذا طالما كتبت عن الفكرة الحاكمة لما سبق أن «الطائفية ليست قدرًا محتومًا؛ بل صناعة موجهة»، وأن مَن يتربح من الطائفية ويقتات من الأزمات.. هم أنفسهم مَن يحاربون فكرة الدولة المدنية المصرية الحديثة، ويرفضونها.

 

 

تحوّل هذا النهج فى «روزاليوسف» إلى ساحة اشتباك حقيقى.. ضد مَن أراد أن يوجّه الدين ليكون وسيلة للتمييز والإقصاء والاستبعاد والتهميش، وضد مَن أراد أن يصمت زورًا وبهتانًا باسم «الوحدة الوطنية» دون تحقيق العدالة والمساواة. وهكذا كتبت كثيرًا فى «روزاليوسف» أن «نار الطائفية لا تطفئها المجاملات؛ بل بقوة القانون وسيادته، ونفاذ عدالته الناجزة».. وهكذا لم أتعامل مطلقًا مع ملف الأزمات والتوترات الطائفية باعتباره أزمة عابرة؛ بل كمعركة مستمرة من أجل أن تبقى مصر دولة المواطنة لجميع المواطنين المصريين.

 

إصلاح الكنيسة أم تجديدها

كانت الفرص متاحة لى لتناول الشأن الكنسى المصرى الخاص بشكل وطنى، وليس طائفى بهدف تقديم أفكار ومبادرات عن إصلاح الكنيسة. وذلك من منطلق أن إصلاح المؤسّسة الدينية كجزء من مشروع الإصلاح الوطنى الشامل، وأن الشفافية والمساءلة ليست ضد الكنيسة؛ بل فى صالحها فى كل الأحوال.

 

دعوت بحرية شديدة أن تخضع المؤسّسات الدينية على غرار كل مؤسّسات الدولة المصرية إلى القانون.. فالكنيسة فى نهاية الأمر هى واحدة من أهم تلك المؤسّسات. وعليها أن تتفاعل مع قيم الدولة، ولا تنعزل عنها؛ لأنه حين تصلح الكنيسة نفسَها؛ فإنها تعيد الاعتبار لمنظومة المواطنة، وتمنح الدولة المدنية المصرية توازنها وثباتها.

 

الشراكة ليست في الوطن

لم أكتب عن العلاقات «الإسلامية- المسيحية» بمفردات العواطف والمشاعر؛ بل بلغة التأصيل التاريخى للعلاقات بين المواطنين المسيحيين والمسلمين المصريين. كما رفضت جميع التصنيفات التى أعتبرها ضد منظومة المواطنة فى اختزال تلك العلاقات فى لعبة الأرقام بين أقلية وأغلبية لكونها تتجاهل قيمة التنوع والتعدد فى المجتمع المصرى.. ولذا كتبت عن أن العلاقة بين المواطنين المسيحيين والمسلمين والمصريين لا ترتكز على تسامح الطرف الأقوى؛ بل على مرجعية الوجدان الوطنى المصرى للتعايش والحياة، والذى يُعَد الدفاع عنه هو دفاع عن جوهر مصر الحديثة.. ولا أزال أصَمّم على أنه حين يتم سؤال أى إنسان مصرى عن دينه قبل وطنيته؛ فهى لحظة الخطر الحقيقى على الدولة المدنية المصرية.

 

جلسات التهريج العرفي

طالبت فى كل أزمة طائفية شهدها المجتمع المصرى بوقف جلسات التهريج العرفى، والمعروفة اعلاميًا بجلسات الصلح العرفى. واعتماد مرجعية القانون والقضاء لتحقيق العدالة الناجزة. وحاربت الحلول المسكنة التى لا تعالج الأزمات من جذورها للوقاية من تبعياتها الخطيرة على ثبات المجتمع المصرى وتماسكه. وهى مسئولية منوط بها الدولة وحدها لا وسطاء فيها.

 

الأزمات الطائفية هى بمثابة اختبار للدولة المدنية المصرية. وقوة تدخلها بعدل صارم يجنّب المجتمع الصراع والصدام. وعدم الاكتفاء بإطفاء الحرائق؛ بل الوقاية من الأصل بمنع إشعالها من الأساس بالتعليم والوعى والقانون.

 

المواطنة .. قبل النص

تناولت فى مقالات عديدة ملف الأحوال الشخصية فى المسيحية، ليس بهدف التدخل فى المرجعية الدينية؛ بل للدفاع عن العدالة القانونية لأحد أهم مشكلات الكنيسة المصرية. وهو ما جعلنى أنتقد بوضوح استغلال القانون الكنسى أحيانًا كأداة للضغط الاجتماعى؛ خصوصًا ضد المرأة، وأهمية إعادة التوازن بين المرجعية الدينية والحقوق المدنية لأنه حين يُحرَم الإنسان من حقه باسم الدين؛ فإن الدين نفسه يصبح فى أزمة.

 

الفكرة السابقة.. تنقل الحوار والنقاش من ملعب الطائفية البغيضة إلى رحابة منظومة المواطنة، ومن لغة التقديس والتبجيل والتفخيم إلى لغة الحقوق العادلة لتأكيد أن الدين مكانه الحقيقى فى قلب الإنسان ووجدانه، وليس فى تطييف المجتمع وإرهابه.

 

 

الأديان الإبراهيمية الغامضة المستترة

من أهم القضايا الجدلية التى تناولتها هو ملف «الأديان الإبراهيمية».. ذلك المصطلح الحديث والبديل عن التطبيع الذى أصبح مصطلحًا مرفوضًا وسيئ السمعة. كما حذرت بشدة من أنه ليس مجرد تحويل الدين إلى وسيلة عبور للتطبيع الجديد؛ بل هو وسيلة متطورة لاختراق الخصوصية الثقافية والسيادة الوطنية المصرية.. فى شكل وافد من «التدين المستورد» الذى يخلط الدين بالسياسة بشكل يبدو منطقيًا. ولذا كان لا بُدّ من تفكيك خلفياته المعرفية والسياسية لبيان عدم حسن النية فى نشره وتوظيفه لما يحمله فى طياته من تلاشى الخصوصية وذوبانها تحت مظلة سياسية بتبريرات دولية. وأن التعايش الحقيقى لا يحتاج إلى التوظيف السياسى البراجماتى لـ«الأديان الإبراهيمية»؛ بل إلى العدالة والمساواة والتنوع والتعدد وقبول الاختلاف لتحقيق ركائز الإنسانية. 

وتظل القاعدة: مَن يختزل الإيمان فى صفقة؛ يختزل الإنسان فى عبودية جديدة..

 

 

المسيحية الصهيونية .. العقيدة والمشروع

دافعت فى هذا الإطار عن الكنيسة المصرية باعتبارها كيانًا وطنيًا.. دائمًا ما كان حائط الصد ضد كل الاختراقات ذات الصبغة اللاهوتية القادمة إلينا من الخارج فى تأكيد لا لبس فيه على وطنية الكنيسة المصرية من جانب، وولاء أبنائها لمصر من جانب آخر. وهو ما يؤكد أننا فى مصر لا علاقة لنا بالمسيحية الصهيونية التى هى مشروع سياسى بمرجعية دينية.. يتم فيها توظيف النصوص المقدسة لتبرير الاحتلال والإبادة والحرب.. فى خلط واضح بين المقدس والمصالح. 

 

البطريرك الوهمي المزعوم

 

قضية المدعو الأنبا مكسيموس.. البطريرك الوهمى المزعوم.. كانت من أهم وأعقد القضايا الجدلية التى واجهت الإعلام المصرى؛ لأنها كشفت عن التداخل الغريب بين الدين والدولة.. ولم أتعامل معها باعتبارها قضية طائفية؛ بل من مرجعية الشرعية والقانون.. فلا أحد فوق القانون.. أيًا كان طائفته أو منصبه الدينى. ورفضت تمامًا اعتبارها تهديدًا للكنيسة المصرية، واعتبرتها معركة حفاظ على الهوية، ودافعت عن حق الدولة فى تطبيق القانون على الجميع دون تردد أو تمييز.

 

الدولة المدنية المصرية لا تعرف الكهنوت السياسى، ودائمًا ما تكون العدالة فوق الجميع حتى لو كانت كنيسة أو مسجدًا.

 

دولة روزاليوسف المدنية فى تقديرى، أننى كنت حريصًا جدًا على أن يكون الإطار المرجعى الحاكم لكل مقالاتى هو ترسيخ الدولة المدنية المصرية. وهو جوهر مشروع «روزاليوسف» الصحفى والفكرى لأنها دائمًا ما كانت تستهدف التأثير قبل التوزيع. وجوهر هذا المشروع بهذا المضمون ليس شعارًا سياسيًا؛ بل نظام حياة متكامل.. يعيد ترتيب دوائر العلاقة بين المواطن المصرى ووطنه فى إطار محدد الملامح للعلاقة بين الدين والدولة.

 

هذه هى «روزاليوسف».. المجلة التى سبقت عصرها فى الدفاع عن حرية العقل والتفكير وعدم المصادرة والحسبة، وحماية الوطن من الاختطاف والتطييف والتديين، والتمسك بمنظومة المواطنة كعقد وطنى، وليس منحة من أحد فى كل الأحوال.

 

ودائمًا ما كتبت: الدولة المدنية ليست ضد الدين؛ بل ضد مَن يحتكر تفسيره وتوظيفه واستغلاله..

 

 

نقطة ومن أول السطر

هذه الأيام.. ونحن نحتفل بمئوية «روزاليوسف»، لا نغلق صفحة الماضى؛ بل نبدأ فصلًا جديدًا من معركة الوعى.. نؤكد فيه أن الصحافة ليست صدًى للواقع، ولا يجب أن تكون.. ولكنها قوة لتغييره للأفضل. «روزاليوسف».. 100 سنة من الكتابة للمجتمع، والدفاع عن الدولة التى تحيا بالقانون وليس بالفتوى، وبالمواطنة وليس بالدولة الدينية. «روزاليوسف».. 100 سنة من العصيان الفكرى والتمرد الوطنى.. «روزاليوسف».. 100 سنة من المواجهة الفكرية ضد الجهل.. «روزاليوسف».. 100 سنة من عقل وطنى ضد الفوضى.. «روزاليوسف».. 100 سنة تأثير، وليست توزيعًا.