الجمعة 31 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
100 سنة روزاليوسف
دبلوماسية الصحافة!

عندما طلب القذافي وساطتنا للصلح مع السادات

دبلوماسية الصحافة!

فى دهاليز السياسة العربية المضطربة خلال سبعينيات القرن الماضى،  كانت العلاقات المصرية الليبية أشبه بمرآة تعكس أقصى درجات التوتر والصدام بين الرئيس السادات، الذى قاد مصر نحو سلام تاريخى.. والقذافى،  الذى كان يتبنى خطابًا قوميًا ثوريًا متشددًا..  كانت الفجوة تتسع يومًا بعد يوم، وفى ظل هذا المشهد المعقد، جاءت مجلة «روزاليوسف» كبطل غير متوقع فى محاولة فريدة وغير تقليدية لرأب الصدع، وذلك عندما طلب القذافى وساطتها لإصلاح ذات البين مع الرئيس السادات.



هذه القصة، التى طواها النسيان لفترة، تستحق أن تروى بتفاصيلها من الأرشيف الصحفى،  لتكشف عن كواليس «دبلوماسية إعلامية» فى زمن الأزمات.

 

مقدمات التوتر

لم تكن العلاقات بين مصر وليبيا قد وصلت إلى مرحلة التوتر المفاجئ؛ بل كانت تتراكم على مدى سنوات، مدفوعة باختلاف الرؤى السياسية والاستراتيجية بين البلدين. السادات، بعد حرب أكتوبر 1973، كان يتجه نحو مسار السلام مع إسرائيل، وهو ما اعتبره القذافى «خيانة» للقضية العربية. 

 

فى المقابل، رأى السادات فى سياسات القذافى المتهورة تهديداً للاستقرار الإقليمى ومحاولة لزعزعة الأمن المصرى.

 

كان القذافى لا يتوانى عن استخدام المنصات الإعلامية لمهاجمة الرئيس السادات وسياساته، ففى حوارات سابقة ومناسبات علنية، أطلق تصريحات نارية تجاوزت حدود النقد السياسى التقليدى. من بين هذه التصريحات، ما ذكره عن «حوادث التخريب التى ترتكبها المخابرات الليبية فى مصر»، زاعمًا بوقاحة أنها «من عمل أجهزة الأمن المصرية» نفسها لإثارة الفتنة.. هذا الاتهام لم يكن مجرد تصريح عابر، بل كان محاولة لتشويه سمعة الأجهزة الأمنية المصرية وتصويرها بأنها تعمل ضد مصالح بلادها.

 

 

 

لماذا “روزاليوسف”؟ فى ظل حالة الجمود السياسى،  كان من الصعب تصور أى مبادرة وساطة تقليدية بين السادات والقذافى. 

 

هنا، تدخلت «روزاليوسف» كلاعب غير متوقع. القذافى،  المعروف بنزعته للدراما واختيار الطرق غير المألوفة، لم يلجأ إلى السفارات أو وزراء الخارجية، بل اختار منبرًا صحفيًا مصريًا، لم تكن روزا مجرد مجلة، بل تمثل تيارًا فكريًا له وزن فى الشارع المصرى.

 

وفى حوارات مطولة أجراها عبد الستار الطويلة مع القذافى،  شعر القذافى بإمكانية تمرير رسائل معينة عبر المجلة، وهو يدرك تماماً أن «روزاليوسف» مجلة ذات تأثير واسع فى مصر، وأن كلماتها تصل إلى صناع القرار والرأى العام على حد سواء.

 

الطلب لم يأتِ بصيغة «رجاء التوسط»، بل كان يتسرب بين السطور، وداخل مضمون الحوار، ففى أحد جوانب حديثه، أكد القذافى أن «جميع ما حصلت عليه ليبيا من أسلحة سيكون تحت تصرف مصر فى أية معركة تخوضها». هذه الجملة، التى جاءت فى سياق حديث عن الوحدة العربية وضرورة التكاتف، كانت بمثابة ورقة اعتماد يقدمها القذافى،  محاولاً إظهار حسن النية تجاه مصر، كأنما يقول: «رغم خلافاتنا، أمنكم من أمنى،  وقوتى رهن إشارتكم». كان هذا التصريح محاولة لإعادة صياغة العلاقة، وفتح الباب أمام حوار قد يؤدى إلى مصالحة.

 

اختيار «روزاليوسف» لم يكن صدفة، فالمجلة معروفة بجرأتها واستقلاليتها، مما أعطاها مصداقية فى عيون القذافى قد تفوق مصداقية القنوات الرسمية التى كانت مشبعة بالبيروقراطية والشكوك المتبادلة.

 

كان القذافى يدرك أن رسالة تمر عبر منبر صحفى مرموق قد تلقى اهتمامًا أكبر من رسالة دبلوماسية قد ترفض أو تهمش.

 

حوارات القمة

 

لم تتجاهل «روزاليوسف» إشارات القذافى،  بل على العكس، تفاعلت معها بحس مهنى عال وإدراك لأهمية اللحظة التاريخية. أدرك الأستاذ صلاح حافظ أن ما بين أيديهم ليس مجرد حوار صحفى عابر، بل فرصة نادرة لتهدئة التوترات التى كانت تهدد الأمن الإقليمى.

 

لذلك، لم يكتف الأستاذ بنشر الحوار، بل قام بخطوة استباقية ودبلوماسية بارعة؛ بإعداد نسخة خاصة ومطبوعة من الحوار ووجهوها مباشرة إلى الرئيس السادات. كانت هذه بادرة غير تقليدية، تتجاوز المهام الصحفية المعتادة، وتضع «روزاليوسف» فى قلب عملية وساطة سياسية. 

 

 

 

الهدف كان واضحًا؛ ضمان أن تصل رسائل القذافى كاملة وغير منقوصة إلى الرئيس السادات، وأن يطلع عليها بنفسه قبل النشر، بعيدًا عن أى تأويلات أو تقارير قد تكون مشوبة بالتحيزات.

 

المفاجأة كانت فى استجابة السادات، فبحسب ما رواه الأستاذ صلاح حافظ فى مذكراته التى سجلها الكاتب الصحفى رشاد كامل؛ لم يتأخر السادات فى الرد. واتصل تليفونياً بالأستاذ صلاح حافظ، سائلاً بنبرة مباشرة وصريحة: «أنا قرأت الحديث بتاع الولد ده!».

 

 

 

 حاول الأستاذ صلاح حافظ شرح وجهة نظر القذافى،  ولم يخفِ السادات انزعاجه الشديد، واصفاً الحديث بأنه «مليان أكاذيب وافتراءات». كانت هذه لحظة حرجة؛ فرفض السادات للمضمون كان واضحًا، لكن الأهم هو أنه لم يرفض الوساطة نفسها. بل على العكس، طلب من الكاتب الصحفى عبد الستار الطويلة، الذى كان له دور محورى فى هذه القصة، أن يأتى لمقابلته فى الإسكندرية. هذا الطلب كان بمثابة إشارة خضراء من السادات، تفتح الباب أمام تواصل غير مباشر، وتدل على أنه لم يغلق الباب تماماً أمام فكرة المصالحة، حتى لو كانت قناعاته لا تتفق مع ما قاله القذافى.

 

 

لقاء الإسكندرية بين الغضب والأمل

كان لقاء الإسكندرية بين السادات وعبد الستار الطويلة لحظة مفصلية، الطويلة، بصفته شاهدًا على حواراته مع القذافى،  أصبح بمثابة قناة اتصال حية، قادرة على نقل التفاصيل والدقائق التى قد لا تتضح فى النصوص المكتوبة. لقد دخل الصحفى إلى محادثة مباشرة مع رئيس الجمهورية، حاملاً على عاتقه مهمة تتجاوز حدود العمل الصحفى.

 

فى هذا اللقاء، استمع السادات إلى «الطويلة»؛ الذى قدم شرحًا مستفيضًا لوجهة نظر القذافى،  وحاول توضيح أن وراء التصريحات النارية قد تكون هناك رغبة حقيقية فى التهدئة. 

 

ورغم استمرار السادات فى تأكيد أن حديث القذافى «مليء بالأكاذيب»، إلا أن مجرد الاستماع كان بحد ذاته إنجازًا. لم يقاطع السادات الطويلة، ولم يرفض الاستماع إلى تفاصيل قد تغير من وجهة نظره.. هذا السلوك يشير إلى أن السادات كان رجل دولة يوازن بين غضبه الشخصى ومصلحة بلاده العليا.

 

كانت هذه المحادثة بين الصحفى والرئيس، لحظة تؤكد الدور الحيوى للصحافة كمنبر حر، قادر على تجاوز الخطوط الحمراء السياسية، وفتح قنوات اتصال قد تكون مسدودة بطرق أخرى.

 

بعد آخر للتوتر .. قضية السلاح

لم تكن الخلافات مقتصرة على التصريحات السياسية أو التوجهات الاستراتيجية. بل كانت تمتد لتشمل جوانب عملية ومادية. تكشف الوثائق عن نقطة خلاف أخرى أثارها القذافى فى حواره، وهى رفض مصر شراء أسلحة منه. قال القذافى: «المشكلة أن الحكومة ترفض تماماً أن تشترى أسلحة». وعندما سئل عن السبب، قدم تفسيرًا ينم عن فهمه للدبلوماسية الخفية: «لأن الحكومة عندما تشترى السلاح.. على الأقل سوف تجامله».

 

هذا التصريح يكشف عن بعد عميق آخر للتوتر. بالنسبة للقذافى،  كان شراء الأسلحة من ليبيا يعنى اعترافاً بمكانتها وقوتها، ويعتبر نوعًا من المجاملة السياسية التى يمكن أن تفتح آفاقاً للتعاون. 

 

أما بالنسبة لمصر، فقد يكون الرفض لأسباب استراتيجية محضة، تتعلق بمدى فاعلية الأسلحة الليبية، أو ربما لتجنب الوقوع تحت أى ضغط سياسى من جانب القذافى،  أو لعدم رغبتها فى إظهار أى تبعية أو تقارب قد يفسر على أنه تراجع عن مواقفها. هذه النقطة تظهر أن العلاقات كانت متجذرة فى تفاصيل كثيرة، وأن حل الخلافات كان يتطلب أكثر من مجرد تصريحات إعلامية.

 

الوساطة الصحفية

قصة وساطة «روزاليوسف» بين القذافى والسادات هى أكثر من مجرد حكاية فى أرشيفنا الصحفى.. بل شهادة على فترة بالغة التعقيد فى تاريخ المنطقة، حيث كانت الصحافة، بأقلام كتابها وجرأة رؤساء تحريرها، قادرة على تجاوز الحواجز السياسية والدخول فى ميادين الدبلوماسية غير الرسمية.

 

 

 

لم تسفر هذه الوساطة عن مصالحة شاملة وفورية بين الزعيمين، فالخلافات كانت أعمق من أن تُحل بحوار واحد أو لقاء محدود. ولكنها أثبتت أن قنوات الاتصال يمكن أن تظل مفتوحة حتى فى أحلك الظروف..

 

لقد وضعت «روزاليوسف» نفسها فى موقع فريد، كـ«صندوق بريد» سرى،  و«جسر» غير تقليدى بين زعيمين كانا على طرفى نقيض، مقدمة نموذجا لدور الإعلام الذى يتجاوز مجرد تقديم «الخدمة الصحفية» إلى المساهمة الفعالة فى صياغة المشهد السياسى.

 

تظل هذه القصة جزءاً لا يتجزأ من أرشيف الصحافة العربية، تذكرنا بأن الكلمة المكتوبة يمكن أن تكون أداة قوية للدبلوماسية، وأن الشجاعة الصحفية يمكن أن تفتح أبواباً قد تبدو موصدة، وأن حتى فى أوج الصراع، قد يظل هناك أمل فى التفاهم، وإن جاء عبر قنوات غير متوقعة. 

 

هذه التجربة الفريدة تؤكد أن الإعلام الحر والمسئول يمكن أن يلعب دوراً حاسماً فى تهدئة الأزمات، وتقديم رؤى جديدة، وربما زرع بذور مصالحة قد لا تُثمر على الفور، ولكنها تظل ضرورية لمستقبل العلاقات بين الشعوب والدول.

 

هنا فى روزاليوسف.. كان للصحافة -دائما- أدوار أخرى.