 
                            وائل لطفى
«روزاليوسف».. مائة عام ضـد التطـرف
إذا كان يمكن وصف «روزاليوسف» بشىء فيمكن القول إنها (السيدة التى أصبحت مَجلة)، والحقيقة أن هذا الوصف لا يخالف الحقيقة فى شىء، فقد حملت «روزاليوسف» المَجلة كل صفات «روزاليوسف» السيدة، وأهم هذه الصفات كانت التمرد، والصلابة فى الحق، والقدرة على مخالفة وجهة النظر السائدة، والسباحة ضد التيار، ولم تنطبق هذه الصفات على مجال من مجالات اهتمام «روزاليوسف» بقدر انطباقه على موقف المجلة الثابت من التطرف فى الدين، أو الاتّجار به، أو ادّعاء بعض الناس فى كثير من الأوقات أنهم أوصياء على المصريين باسم الدين.
الحقيقة أن هذا الخط الرافض للغلو فى الدين، وللاتّجار به، وللمبالغة فى مظاهره بحثًا عن المصلحة كان هو الخط الوحيد الذى حافظت عليه المجلة طوال قرن كامل من الصحافة؛ فقد تغيرت المواقف السياسية لـ«روزاليوسف» عبر الزمن بطبيعة الحال، بدأت مجلة وفدية متطرفة، ثم شقت عصا الطاعة على الوفد بسبب تغيُّر بعض مواقفه، ثم عارضت القصر المَلكى والحاشية المحيطة به بقوة عبر حملة (الأسلحة الفاسدة) عام 1948 بقلم إحسان عبدالقدوس ناظر مدرسة روزاليوسف الذى كان أقرب الصحفيين للضباط الأحرار قبل قيام الثورة، وفى الشهور التى تلتها، لكن هذا لم يمنعه من مشاكستهم بقوة فى مارس 1954 مما أدى للصدام ثم الوئام مرة أخرى.. والمعنى أن المواقف السياسية للمجلة كانت تتغير عبر العهود تأييدًا ومعارضة، واقترابًا وابتعادًا، ولكن موقفها من التطرف الدينى والاتّجار بالدين ظل ثابتًا لا يتغير عبر مئة عام، وقد أكرمنى القدَر أن أكون فردًا فى طابور طويل من العظماء فى «روزاليوسف»، وأن أستوعب هذا الدرس، وأرتكن إليه، وأقرر بعد تغيير عنيف فى موقف المجلة السياسى عام 1998 أن أستمر محافظًا على خط «روزاليوسف» فى محاربة تجار الدين وبائعى التقوى، مدركًا أن هذا الخط هو نواة «روزاليوسف» الصلبة، ومعدنها الأصيل، وأن اجتهادات السياسة اليومية متغيرة، أما موقف «روزاليوسف» الشجاع من تجار الدين فباقٍ لا يتغير أبدًا، ويشرفنى فى هذه الدراسة أن أتوقف أمام عدد من مبدعى «روزاليوسف» الذين اشتبكوا مع محاولات مختلفة لفرض الهيمنة باسم الدين، وهو موقف غالبًا ما انفردت به «روزاليوسف» عن غيرها من الصحف والمجلات.
السخرية من التطرف
كانت «روزاليوسف» هى مجلة الكاركاتير الأولى فى مصر، وكانت الرسوم الساخرة هى سلاحها الأول فى إعلان مواقفها المختلفة؛ حيث كانت الرسوم تحتل غلاف المجلة صارخة متحدية تذبح بسلاح السخرية وتدمى وهى تثير الضحكات، وكان الرسام الكبير (عبدالسميع 1916 - 1986) هو فارس الكاريكاتير فى «روزاليوسف» منذ 1945 وكانت رسومه تشتبك مع السياسة، والمجتمع، والفن، وجميع المجالات، وكان عبدالسميع هو أول فنان كاريكاتير يفكر ويرسم فى نفس الوقت، بمعنى أنه يضع فكرة الكاريكاتير لنفسه ثم يرسمها، وكان هذا شيئًا جديدًا على «روزاليوسف» وعلى الصحافة المصرية كلها وقتها؛ حيث كان الأستاذ محمد التابعى المؤسِّس الأول لـ«روزاليوسف» يضع فكرة الكاريكاتير لينفذها الرسام الشهير صاروخان أو تلميذه رخا اللذان انتقلا مع التابعى من «روزاليوسف» إلى «آخر ساعة»، وقد أصبحت هذه سمة من سمات مدرسة التابعى وسار عليها تلميذاه مصطفى وعلى أمين فى «آخر ساعة وأخبار اليوم»..أمّا عبدالسميع فقد مضى يبتكر عدة شخصيات مضحكة يوجه من خلالها نقده للظواهر التى لا تعجبه وكان أشهرها شخصية «الشيخ متلوف»، وهى محاكاة ساخرة لمسرحية (طرطوف) للكاتب المسرحى العظيم موليير، التى كان يسخر من خلالها من فساد بعض رجال الدين فى فرنسا قبل الثورة الفرنسية، وبسبب شيوع الثقافة المسرحية فى الأربعينيات فقد فهم الناس التورية، وكان الشيخ «متلوف» كما هو واضح من اسمه فاسدًا، يتظاهر بالتدين بينما هو مولع بتتبع النساء الجميلات، وكانت الشخصية اعتراضًا على نشاط كان يقوم به عالم أزهرى كان شهيرًا وقتها هو الشيخ محمود أبوالعيون الذى تولى رئاسة أحد المعاهد بالإسكندرية، وقد شجعه هذا على تنفيذ فكرة غريبة بعض الشىء؛ حيث كان يقتحم الشواطئ الشهيرة فى الصيف مرتديًا زيه التقليدى ويبدأ فى وعظ الشابات الصغيرات اللاتى يرتدين ملابس البحر.. وبغض النظر عن حُسْن نية الشيخ فقد بدا نشاطه غريبًا فى ذلك الوقت، وساعد على التفاعل معه أنه كان يكتب المقالات فى الصحف حول موضوع ملابس البحر للسيدات وكأنه أخطر قضايا الأمة، كما أنه اشتبك مع عدد من وزراء المعارف لإغلاق قِسْم الرقص الإيقاعى فى معهد الفنون، وبشكل عام كان الرجل أول تطبيق عملى لفكرة (الحسبة) والتى تقوم على أن أى شخص من حقه أن يتدخل لإيقاف أى نشاط لا يعجبه حتى ولو لم يكن له أى علاقة مباشرة به، أو لو لم يقع عليه أى ضرر منه، وزاد من حدة الصراع بين «روزاليوسف» والشيخ أبوالعيون أن جماعة الإخوان كانت تدَّعى انتسابه إليها، ورغم أن الشعب لم يكن قد اكتشف وقتها علاقة الجماعة بالإرهاب؛ فإن ادعاء هذه الجماعة ارتداء ثوب الفضيلة كان يثير حفيظة عبدالسميع أكبر رسامى المجلة والمُعَبر عن موقفها المعلن فى كل قضية، ولم تكن رسوم عبدالسميع عنيفة أو عدائية بقدر ما كانت ساخرة ومضحكة، وغالبًا ما كان الشيخ «متلوف» يظهر فيها بزيه التقليدى مع عدد من النساء الفاتنات، وتدور الفكرة دائمًا حول ادعاء «متلوف» رغبته فى هداية الفاتنات كسِتار لإعجابه الدائم بهن، أو التناقض بين مظاهر التدين التى يدعيها وبين رغبته الدائمة فى الوجود بين الفتيات الحِسان، وقد تطورت معركة عبدالسميع مع الشيخ «متلوف» لتصبح معركة صريحة مع جماعة الإخوان الإرهابية فى 1954؛ حيث وصله تهديد بالقتل وعينت له الداخلية حارسًا خاصًا ليصبح أول رسام كاريكاتير مصرى تخصص له حراسة.

الشرقاوي وشيخ الأزهر
كانت سنوات السبعينيات سنوات التحولات الحادة فى مصر، وكان أخطر هذه التحولات ما سُمّى بالصفقة مع جماعة الإخوان الإرهابية؛ حيث أقدم الرئيس «السادات» على الإفراج عن البقية الباقية من قيادات الإخوان فى السجون بمجرد توليه الحكم، وقابل وفدًا من قيادات الإخوان فى الخارج عام ١٩٧١ فى استراحة الرئاسة بجناكليس وعرض عليهم عودة الجماعة للعمل، وعلى صعيد آخر أسند لسياسى قريب منه هو محمد عثمان إسماعيل تأسيس الجماعة الدينية فى جامعات مصر، وأطلق العنان للشيخ محمد الغزالى وكيل الجماعة السابق لتأسيس ما عرف باسم (الجماعة الإسلامية) فى جامعة القاهرة، ومنها خرج قادة كل الجماعات الدينية بما فيها تلك التى شاركت فى اغتيال الرئيس السادات.. والحقيقة أن الرئيس السادات أخطأ خطأً قاتلاً رغم حسن نيته، فهو كان يريد فتح المجال السياسى أمام كل القوى التى تعترف بشرعيته وتسانده حتى لو اختلفت معه فى التفاصيل، وكان من نتيجة ذلك أنه عيَّن المفكر والكاتب الكبير عبدالرحمن الشرقاوى رئيسًا لمجلس إدارة روزاليوسف، وكان «الشرقاوى» مفكرًا إسلاميًا ذا نزعة يسارية، يفهم الإسلام على أنه ثورة المستضعفين ضد الظلم، وله فى ذلك كتابات رائدة منها (محمد رسول الحرية) و(على إمام المتقين) وعدة كتب عن كبار الصحابة رضى الله عنهم، فضلاً عن مسرحيتين شهيرتين جدًا هما (الحسين ثائرًا) و(الحسين شهيدًا).. وعلى الجهة المقابلة يمكن أن نقول إن تلك الصفقة مع الإخوان نتج عنها تصعيد بعض المسئولين ممن يتعاطفون مع الجماعة، أو مع فكرة الاستخدام السياسى للدين، وربما كان منهم وقتها د. «عبدالحليم محمود» الذى عُيِّن وزيرًا للأوقاف وكان له آراء سياسية واضحة ومعلنة فى العداء للاشتراكية، ولليسار السياسى عمومًا، وقد قاده حماسه فيما بعد لأن يكون شيخ الأزهر الوحيد الذى قابل الرئيس الأمريكى «جيمى كارتر» وناقش معه نفس الموضوع المحبب له وهو كيفية القضاء على ما كان يسميه (الشيوعية)، وقد أصبح الشيخ «محمود» شيخًا للأزهر فى ذرورة تلك التحولات، واستمر فى الإدلاء بآراء سياسية عنيفة وقاطعة وصلت إلى حد تكفير كل من يعتنق مذهبًا سياسيًا مَهما كان هذا المذهب! وقد استشعر الأستاذ «الشرقاوى» أن من واجبه أن يشتبك مع الآراء السياسية للشيخ عبدالحليم محمود، ودارت بينهما معركة شهيرة على صفحات «روزاليوسف» من جهة ومجلة «آخر ساعة» من جهة أخرى، وقد وثق كاتب هذه السطور بعض وقائع المعركة فى كتاب (دعاة عصر السادات)، ثم استزاد من تفاصيلها عبر أرشيف «روزاليوسف» أثناء كتابة هذه الدراسة احتفالاً بمئوية «روزاليوسف»، وقد بدأت المعركة فى عام ١٩٧٥ حين أدلى الشيخ عبدالحليم محمود بحوار عنيف سياسيًا لمجلة «آخر ساعة»، رد عليه «الشرقاوى» بمقال جرىء حمل عنوان (لا يا صاحب الفضيلة)، وكان ملخص ما قالته «روزاليوسف» أن شيخ الأزهر على المستوى السياسى يستخدم الدين لخدمة مذهب سياسى ومحاربة مذهب آخر، وأنه لا يليق إدخال الدين فى صراع المذاهب السياسية.. وتطرّق «الشرقاوى» لرأى نُسِب لشيخ الأزهر يقول فيه إن كل المبشرين بالجنة هم من أثرياء الصحابة! وأشاد «الشرقاوى» بزهاد الصحابة مثل عمار بن ياسر وأبى ذر الغفارى وبلال بن رباح، وضرب أمثلة من التاريخ الإسلامى الذى يعرفه جيدًا، ونفى تهمة الإلحاد عن الدول الاشتراكية التى كانت تمثل نصف دول العالم وقتها وقال أن لديه مصاحف مطبوعة فى جمهوريات الاتحاد السوفيتى الإسلامية وفى بكين عاصمة الصين.. ولم يمر مقال الشرقاوى الذى لمس وترًا حساسًا مرور الكرام؛ حيث عقدت جماعة أنصار السنة مؤتمرًا حاشدًا للهجوم عليه، بينما تداعى الكثيرون من أنصار أفكار الشيخ عبدالحليم محمود للكتابة فى مجلة آخر ساعة التى نشرت الحوار وهاجم بعضهم الشرقاوى هجومًا عنيفًا وصل إلى حدود التكفير، وهو ما دفعه لمواصلة حملته فى الأسبوع الثانى من خلال مقال بعنوان (نصيحة هادئة للدكتور عبدالحليم محمود) ندّد فيه بالهجوم الذى واجهه واتهم شيخ الأزهر بالتحريض ضده، ودافع عن حق الصحافة فى مناقشة شيخ الأزهر وقال إنه غير معصوم من الخطأ، وأنه دائمًا ما يحرك الجموع لمهاجمة من يختلف معه.. والحقيقة أن معركة الشرقاوى مع شيخ الأزهر كانت من أشجع المعارك الصحفية وأكثرها نزاهة؛ حيث قامت على أساس فكرى قوى، وقد أثبتت الأيام صحة وجهة نظر الشرقاوى حول خطورة خلط الدين بالسياسة أو لخدمة مذهب سياسى على حساب مذهب آخر.. وأذكر أن مناسبة اجتماعية جمعتنى عام 2018 بالراحل العظيم اللواء محمد العصار وزير الإنتاج الحربى فى ذلك الوقت وعندما تعرّفنا عاد بذاكرته ثلاثًا وأربعين عامًا للوراء وأخذ يحدثنى عن تفاصيل معركة الشرقاوى مع الشيخ عبدالحليم محمود حول علاقة السياسة بالدين وخطورة انحياز رجل الدين لجماعة بعينها أو لمذهب سياسى معين.

شجاعة وحيد حامد
كانت المحطة الثالثة التى توقفت عندها فى معارك «روزاليوسف» مع التطرف والانحراف فى أدوار بعض رجال الدين هى مرحلة بداية التسعينيات، التى شهدت انطلاقة جديدة لمجلة «روزاليوسف» بقيادة الأستاذ عادل حمودة وكانت مقالات الكاتب الكبير وحيد حامد (1944 - 2021) تزين المجلة كل أسبوع، وكان أقرب لظهير فكرى للمجلة فى ذلك الوقت، وكانت أفكاره كثيرًا ما تتحول لموضوعات صحفية ينفذها شباب الصحفيين، وكان من أعنف معارك وحيد ح امد عام 1993 معركته ضد الداعية عمر عبدالكافى، الذى كان خريجًا لكلية الزراعة احترف الوعظ والدعوة ونسبت له وقتها فتاوَى متطرفة تسىء للعلاقة بين المصريين وتحض على الإساءة لأقباط مصر وعدم مبادرتهم بالتهنئة فى الأعياد.. وكانت ميزة الأستاذ وحيد حامد هى الإحاطة الكبيرة بالخلفيات وبكواليس ما يجرى فى المناطق الخلفية للسياسة المصرية، وقد كتب وقتها مقالاً عنيفًا بعنوان (عاطف صدقى.. من دَبة النملة إلى شرائط التطرف) بدأه بالهجوم على الداعية المتطرف الذى يفتى بغير عِلم ويُشعل الفتنة بين المصريين ويتسلل لبيوت الفنانات المعتزلات وللنوادى الرياضية، وانطلق وحيد حامد ليُحَمِّل وزير الداخلية وقتها مسئوليته إزاء نشاط هذا الداعية، وأشار «وحيد» إلى جلسة فى مجلس الشورى أعلن فيها أحد الأعضاء أن وزير الداخلية يصلى خلف هذا الداعية! وانطلق وحيد حامد بطريقة التورية يقول أن وزير الداخلية وقتها رجل طيب وورع وأن صلاته خلف هذا الداعية لا تعنى إيمانه بأفكاره، وسأل وحيد:.. هل يعلم وزير الداخلية بأمر فتاوى الشيخ المتطرفة أم لا؟ واستشهد بقول لرئيس الوزراء فى مجلس الشعب قال فيه: (الحكومة تعرف دَبة النملة) وتساءل:.. لماذا إذن لم تعرف الحكومة بأمر هذا الداعية وفتاواه المتطرفة؟، وانطلق وحيد حامد للحديث عن خطورة ظهور هذا الداعية المتطرف على شاشة التليفزيون وتحوله لنجم جماهيرى ويُحَمِّل وزير الإعلام صفوت الشريف مسئوليته فى وقف هذا الظهور الذى يهدف لتحويل عبدالكافى لنجم جماهيرى، ووجَّه وحيد اللوم لوزير الأوقاف الذى لم يتدخل ولوزير الداخلية الذى قيل أن (الداعية يقع داخل نطاق حمايته).. والحقيقة أن المعلومات والآراء فى مقال وحيد حامد قد تبدو الآن وبعد ما يقرب من 32 عامًا عادية ومعروفة، لكنها وقتها كانت جديدة وصادمة، وكان نقده للوزراء شجاعًا وأثبتت الأيام صحته، ففى نفس العام خرج وزير الداخلية من الحكومة بسبب خطأ استراتيجى فى التعامل مع قيادات الإرهابيين فى السجون، وذهب الداعية المتطرف لزيارة البابا شنودة ليعتذر عن ما صدر منه ويقر بأنه أخطأ، ثم منع من الظهور عقب مخالفات خطيرة نسبت له ولم ينفها أو يُكذبها، وكان أخطر ما قاله وحيد حامد أن ظهور هذا الداعية وأقرانه وتحويلهم لنجوم جماهيريين هو جزء من مخطط سياسى كبير للجماعة الإرهابية.. وهى نبوءة مبكرة لصاحب فيلم (طيور الظلام) أثبتت الأيام صحة كل حرف فيها، والحقيقة أن أهمية دور «روزاليوسف» ومقالات وحيد حامد لا يكتمل فهمها دون فهم الإطار السياسى العام الذى كانت الدولة فيه - حتى وقتها - تهادن جماعة الإخوان وتسمح لها بالعمل فى الجامعات والنقابات والترشح للمجالس النيابية وتمنح مساحات مهمة للدعاة المنتمين لها فى تليفزيون الدولة الرسمى، وكانت مقالات وحيد حامد وكثير من تحقيقات المجلة وقتها بمثابة جرس إنذار مبكر لخطورة هذا التهاون فى التعامل مع الجماعة الإرهابية وكان يقرن فى مقالاته بين توبيخ الحكومة على تهاونها وبين التحذير من خطر نفوذ الجماعات الإرهابية مستندًا لمعلومات يحصل عليها بحكم شهرته كسيناريست متداخل مع نخب المجتمع.. فقد كتب مثلاً عن التبرعات للمساجد والتى تتخذ ستارًا لتمويل أعمال الإرهاب، وتحدث عن رجل أعمال تبرع لأحد الدعاة بسيارة مرسيدس 500 لتذهب وتعود به من المسجد! فى حين أن هناك مساجد فى القرى لا تجد (الحصير) المجدول الذى يصلى عليه الناس.. و لا شك أن ما كتبه وحيد حامد لم يذهب سُدًى وأن كل ما حذر منه قد أثبتت الأيام صحته بعد ذلك.
تجار الدين الجدد
مع مُضى السنوات تحقق ما كانت «روزاليوسف» تحديدًا تحذر منه، وأدت سياسات التساهل مع الإخوان إلى سيطرة سرطانية للجماعة الإرهابية على مفاصل المجتمع وبنيته التحتية، وكانت بوابة هذه السيطرة هى استغلال المشاعر الدينية القوية للمصريين؛ حيث حاول الإخوان سرقة تدين المصريين القطرى وتحويله إلى مكسب سياسى واقتصادى للجماعة تسعى به للسيطرة على حكم مصر، وهو ما تحقق عقب عشر سنوات فقط من إطلاق «روزاليوسف» لحملتها القوية ضد من سمتهم (الدعاة الجدد) والذى كان لكاتب هذه السطور شرف إطلاقها وتحليلها ووضع الإطار النظرى لها.. ولم يكن غريبًا أن يكون أعضاء الإخوان الذين ظهروا فى صورة (دعاة جدد لا يهتمون بالسياسة) هم قادة العمل الجماهيرى الإخوانى سواء فى يناير 2011 مثل «عمرو خالد وحازم صلاح أبوإسماعيل» أو فى أحداث رابعة الإجرامية مثل «صفوت حجازى».. ولعل ما يعطى هذه الحملة قيمتها التاريخية أن هؤلاء الدعاة كانوا يعملون برضا كامل من بعض دوائر السلطة فى مصر، التى كانت تظن أنهم بديل آمن للجماعات الإرهابية فى صعيد مصر فى ذلك الوقت، فى حين أن الجميع ينتمون لتنظيم واحد رغم اختلاف أفكارهم. ونتيجة لهذا (التفاهم) تم تقديم عضو قيادى فى جماعة الإخوان .. على أنه داعية أخلاقى لا علاقة له بالسياسة.. وتم تمكينه من عدة مساجد مؤثرة تقصدها النخبة المصرية مثل مسجد نادى الصيد، وعدد من مساجد الأحياء الراقية، وكان عدد كبير من طلاب الإخوان وقيادات الجامعات يعملون معه كفريق مساعد، وتم استهداف طلاب الجامعة الأمريكية بكثافة.. وقد بدأت هذه الحملة باستماعى لخطبة لهذا الداعية وجدت فيها عددًا من الأخطاء الدينية الفاضحة، كما لفت نظرى أنه يعيد إنتاج خطاب جماعة الإخوان، ولكن بشكل مبسط، ويخلطه بخطاب التنمية البشرية الذى كان جديدًا على مصر وقتها، وقد تراوح ما كتبته فى أربع حلقات بين التحليل والنقد والمعلومات.. فقد انهالت الاتصالات بعد أول عدد من مواطنين يقولون إنهم جمهور هذا الداعية ومنهم من عرَّف نفسه بأنه من زوجات كبار المسئولين، وكانت الحجة الأساسية أن هذا الداعية ليس له علاقة بالسياسة.. وكانت هذه كذبة هدفها طمأنة الأسر ليتركوا أبناءهم بين يديه ليجندهم لمشروعه الشخصى ومشروع الجماعة التى كان ينتمى إليها وقتها.. وكان أن عدت لمصادرى من أعضاء الإخوان المنشقين فأكدوا أنه عضو قيادى فى مكتب الطلاب وفى الحلقة الضيقة المحيطة بمرشد الجماعة وقتها مأمون الهضيبى.. وكانت دهشتى الكبيرة من كونه (داعية) كما يقدم نفسه ولكنه يستحل الكذب، واتسعت الحملة لتشمل توجيه النقد للدولة التى كانت تترك الشباب فريسة لمثل هذا الداعية الإخوانى الذى تدَخَّل ليملأ الفراغ الناتج عن تهميش الدولة وقتها للشباب.. وقد أدت الحملة لإيقاف هذا الداعية عن الخطابة وقتها وتغيير النظرة الجماعية له، لكنَّ مستثمرًا عربيًا كبيرًا عيَّنه مستشارًا دينيًا له وأنتج له عدة برامج من خارج مصر كى يستخدمه فى الوقت المناسب ضمن خطة معروفة لتقليم القوى الناعمة المصرية والسيطرة عليها سياسيًا، وقد أثارت حملة «روزاليوسف» انتباهًا عالميًا؛ حيث استعان عدد من كبار الباحثين الغربيين بما كتبته «روزاليوسف» للكتابة عن هذه الظاهرة.. كان منهم عالم الاجتماع الأمريكى الشهير «عاصف بياتى» والباحث السويسرى «باتريك هنى»، كما أن توجُّه هذا الداعية للغرب وحصوله على 350 مليون جنيه استرلينى من صندوق دعم الفرص فى الخارجية البريطانية قد أدى لمزيد من اهتمام أجهزة المخابرات كإسلامى موالٍ للغرب، وكان أن خصصت جريدة «النيويورك تايمز» واحدة من أهم صحفييها وهى «سامنتا شابيرو» لمرافقة هذا الداعية لمدة ستة أشهُر كاملة وإعداد تقرير وافٍ حوله، وقد كنت المصرى الوحيد الذى تحدَّث فى تحقيق الصحيفة الذى احتل ملحقًا خاصًا من 32 صفحة كاملة، وقلت إن هذا الداعية ليس سوى وجه ناعم للجماعة الإرهابية، وهو ما أثبتت الأيام صحته بعد ذلك، وقد امتد هذا الملف لسنوات ناقشنا فيه ظهور دعاة إخوان آخرين مثل «صفوت حجازى وحازم صلاح أبوإسماعيل»، وأبعادًا أخرى للظاهرة التى كان هدفها استغلال مشاعر المصريين الطيبة.. وإلى جانب هذا كانت «روزاليوسف» تملك شجاعة الاشتباك مع كبار العلماء إذا أفتى بعضهم بآراء يشوبها التزمت أو عدم ملاءمة الفتوى لروح العصر.. ومن أمثلة هذه المعارك الاشتباك مع العالم الكبير «عطية صقر» رئيس لجنة الفتوى بالأزهر والذى أفتى بأن مصافحة المرأة لزميلها فى العمل بمثابة ارتكاب لجريمة (الزنى)، وكذلك وضع المرأة للعطر قبل الخروج من المنزل.. وكان من أمثلة الاشتباك الموضوعى والجرىء عام 2009 الاشتباك مع مفتى الجمهورية د.«على جمعة» بمقال بعنوان (خطاياك يا فضيلة المفتى) ناقشنا فيه عددًا من الفتاوى والمواقف التى بدت خارجة عن السياق وقتها.
 
  
                                    
 
                        

 
                        







