
هاني لبيب
مصر أولا.. وصاية دولية وتمويل عربى وحماية إسرائيلية وقيادة أمريكية
غزة.. سلام بلا سيادة وصراع مؤجل
لم تكن مجرد استعراض بروتوكولى.. تلك الليلة التى جمعت الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو فى البيت الأبيض فى 30 سبتمبر الماضى.
الواقع يشير إلى أنها كانت لحظة حاسمة، أراد منها كل من ترامب ونتنياهو أن يقدماها كحالة جديدة لإنهاء حرب غزة، وبداية لـصيغة جديدة من السلام الأبدى.. ترتكز على فرض وصاية جديدة على قطاع غزة، أخفت كلمات ترامب ونتنياهو واقعًا شديد التعقيد، يضع غزة أمام مستقبل تحكمه ترتيبات إقليمية ودولية أكثر منه رؤية سياسية عادلة وشاملة.
مناورة دون تفاصيل..
ما جرى فى المؤتمر الصحفى لترامب ونتنياهو.. يمكن قراءته كمناورة سياسية هدفها تخفيف الضغط عن إسرائيل بعد الزخم الدولى المتزايد فى دهاليز الأمم المتحدة وأروقتها، وما تبع ذلك من اعترافات متصاعدة بالدولة الفلسطينية من عدة دول أوروبية ومن أمريكا اللاتينية، المبادرة الأمريكية لم تتضمن أى ذكر لحل الدولتين نهائيًا، واكتفت بطرح إدارة للقطاع عبر «مجلس السلام» تقوده واشنطن وتنفذه دول عربية وإسلامية، وهو ما يعنى أن الإدارة الأمريكية ألقت بالكرة إلى الملعب الإقليمى والدولى.. دون التطرق لتفاصيل اليوم التالى لوقف إطلاق النار، إنها صيغة تحاول تأجيل المواجهة والصدام عن من يحكم غزة؟ ومن يضمن للشعب الفلسطينى حق تقرير المصير؟ فى ظل رد الفعل المعتاد فى تعهد حركة حماس بدراسة جدية للمقترح، ومنظمة الجهاد تقول إنه وصفة لتفجير المنطقة.
شبح تونى بلير..
ضمن ما ارتبط بالمقترح الأمريكى هو استدعاء تونى بلير «رئيس الوزراء البريطانى الأسبق» إلى المشهد.. كمبعوث خاص إلى غزة، وهى ليست مجرد تفصيلة فرعية، فقد ارتبط اسمه بغزو العراق، وفشل عملية السلام فى الشرق الأوسط، والترويج لفكرة «الشرق الأوسط الجديد» الذى لم يثمر إلا حالة من الفوضى غير المسبوقة.
ولذا يمكن تفسير ذلك، بأن إعادة تدوير تونى بلير اليوم يشير إلى أن واشنطن وتل أبيب لا تبحثان حقيقة عن وسطاء جدد، بل عن أدوات مألوفة للمعادلة القديمة نفسها بمنطق إدارة الصراع وليس حله.
وجود بلير كرمز قديم.. يوحى بغياب الجدية فى بناء سلام حقيقى، وإعادة إنتاج السياق نفسه من الوصاية الدولية الفاشلة.
مأزق التكلفة البشرية والعسكرية..
بدا بوضوح فى المؤتمر الصحفى بالبيت الأبيض، أن نتنياهو لا يعتزم تقديم أى تنازلات جوهرية، وأن الخطة الإسرائيلية – الأمريكية قد حددت وجود الفلسطينيين خارج المشهد السياسى، وتمنح إسرائيل السلطة العليا فى أى ترتيبات مستقبلية.
رفض بعض الأطراف للمبادرة.. قد يستخدمه نتنياهو كسبب لموجة جديدة من غطرسة القوة الإسرائيلية، تبدأ من غزة وتمتد إلى لبنان وسوريا، مع بقاء إيران كجزء من المشهد عبر دعمها لحلفائها الإقليميين. السيناريو المحتمل أن يتحول رفض البعض إلى مبرر لإسرائيل لتصعيد عملياتها بحجة أنه لا شريك للسلام معها.
هذه الصياغة الماكرة تعكس عمق المأزق الإسرائيلى بالحاجة إلى تحقيق إنجاز سياسى يغطى على التكلفة البشرية والعسكرية الضخمة لحرب غزة.
ثمن السلام والحرب..
السلام ليس شعارا مجانيًا، بل له ثمن.. يتحمله جميع الأطراف دون استثناء. الحرب كذلك لها ويلات وتبعيات، ورغم تفوق إسرائيل العسكرى، فإنها تدرك أن استمرار الحرب يعرضها لاستنزاف سياسى واقتصادى، ويهدد بانفجار جبهات أخرى. ويدرك الفلسطينيون أن الحرب تقتل أبناءهم وتدمر أرضهم، ولكنها أيضًا تمنحهم شرعية مقاومة القهر والظلم والإبادة، والمحصلة، أنه لن يقبل أحد عدم محاسبة المسئول عن إهدار الدم الفلسطينى، ولن ينجو أحد من دوائر الانتقام إذا لم تعالج جذور الصراع.
والقاعدة أن سلام بلا عدالة.. هو مجرد هدنة مؤقتة، وحرب بلا رؤية سياسية هى نزيف مستمر، ولا يزال التوازن بين الثمن والنتيجة لم يتحقق بعد فى حرب غزة، الثمن يدفعه الشعب الفلسطينى والنتيجة لإسرائيل وبنيامين نتنياهو الذى يحاول رسم صورة له كبطل إسرائيلى.. حقق ما لم يحققه أحد من قبله.
بصيص من الأمل..
لا يمكن إنكار أن مجرد حديث البيت الأبيض عن «السلام الأبدى» يفتح نافذة صغيرة للأمل، وقد يكون هذا الحديث رمزيًا أو دعائيًا، ولكنه يخلق فرصة، ولو بسيطة لإعادة إحياء فكرة الحل السياسى، غير أن استعادة الثقة المفقودة تتطلب جهودًا مضنية وصادقة، تعيد للإسرائيليين والفلسطينيين على السواء إيمانهم بإمكانية التعايش لأن أى سلام يحتاج أن يكون عادلًا وواقعيًا حتى لا يظل مجرد وهم جديد يضاف إلى سلسلة طويلة من الأوهام التى سقطت جميعها فى اختبار حرب غزة.
وصاية جديدة على غزة..
فى المؤتمر الصحفى الإسرائيلى – الأمريكى.. طرح ترامب نفسه باعتباره «صانع السلام» فى ربط بين صورته التاريخية ومكانته فى الداخل الأمريكى لكى يضيف ملف قطاع غزة إلى قائمة إنجازاته، بعد اعترافه بالقدس كعاصمة لإسرائيل وانسحابه من الاتفاق النووى الإيرانى خلال ولايته الأولى، بينما يرى نتنياهو أن مبادرة ترامب هى جزء من إنجاز الحرب، على اعتبار أن إسرائيل لم تحقق فقط تفوقًا عسكريًا، بل شرعية سياسية أيضًا لإعادة ترتيب غزة وفق شروطها.
والمتوقع حسب المعلومات المتوافرة الآن أنه للمرة الأولى تطرح صيغة تجعل أطرافًا إقليمية هى المنفذة لمهام نزع السلاح وإدارة القطاع، بينما تبقى واشنطن المرجعية وإسرائيل الضامن الأمنى.
وهو ما يعنى ببساطة شديدة أن المسئولية ستنقل إلى الدول العربية والإسلامية للمرة الأولى.
وبهذه الصيغة.. تتحول غزة إلى ملف إدارى وأمنى تحت وصاية متعددة الأطراف، بدلًا من كونها قضية سياسية لشعب يسعى للحياة قبل الحرية.
القهر.. بلغة إنسانية
الملاحظ أن المبادرة الأمريكية.. ربطت أى اتفاق بشرط إطلاق الرهائن وإعادة جثامين القتلى خلال 72 ساعة، وهو ما طرح بلغة إنسانية مؤثرة.. كوسيلة لتسويق الفكرة فى داخل إسرائيل باعتبارها تلبية لمطلب وطني فى الأساس.
شملت المبادرة أيضًا شرطًا أساسيًا هو نزع السلاح الكامل لحركة حماس وتدمير بنيتها العسكرية، وهو ليس مجرد مطلبًا سياسيًا وعسكريًا، بل صيغة لاستمرار الوصاية على غزة.. طالما أن هناك تهديدًا، وما ينتج عن ذلك من بقاء الحصار واستمرار السيطرة الأمنية إلى ما لا نهاية.
الفلسطينيون خارج الحكم..
المفارقة فى المبادرة ليس استبعاد حركة حماس من المشهد السياسى، ولكن فى استبعاد السلطة الوطنية الفلسطينية من أى دور فى إدارة قطاع غزة، والبديل المطروح هو «حكومة انتقالية» تعين من الخارج وتخضع لإشراف دولى، وهو ما يعنى عمليًا على أرض الواقع.. تجريد الفلسطينيين من حقهم فى إدارة أرضهم، وتحويل غزة إلى ملعب للوصاية الدولية لا يعترف بها كدولة مستقلة، ولا حتى حكمًا ذاتيًا، إنها إدارة حكم مفروضة من الخارج، ومحكومة بالتمويل العربى، وبإشراف البيت الأبيض، وبحماية إسرائيلية.
السلام مقابل الاستثمار..
فى دهاء مستمر.. ربط نتنياهو المبادرة بصراع أوسع مع إيران، مبررًا حرب غزة كجزء من المواجهة الحضارية ضد طهران. وهو ما يعطى للحرب شرعية أكبر عند جمهوره، وربطها بخطاب أمنى إقليمى. كما استدعى ترامب من جانبه شبكة دعم عربية وإسلامية بهدف إظهار أن الخطة ليست انحيازًا أعمى لإسرائيل، بل مبادرة تحظى بشرعية اقليمية.
ولكن الحقيقة أنها مجرد محاولة لتجميل الصورة بانحياز مطلق.
المبادرة المطروحة.. تؤكد على قاعدة «السلام مقابل الاستثمار». ضخ أموال عربية لتستخدم فى إعادة إعمار غزة.. مقابل نزع سلاح حركة حماس وتقييد سيادتها، وتحويل القضية الفلسطينية من ملف سيادة وطنية إلى ملف اقتصادى واستثمارى، وهى صيغة قد توفر التمويل، ولكنها لن توفر العدالة لأن المال لا يشترى الحقوق، ولا يعوض عن الأرض والحرية.
سيناريوهات المبادرة الأمريكية..
السيناريو الأول «قبول الوصاية المشروطة» من خلال انخراط بعض الدول العربية فى المبادرة تحت الضغط الأمريكى.. مما يجعل غزة تحت إدارة خارجية لسنوات طويلة.
السيناريو الثانى «الرفض والتصعيد».. رفض المبادرة الذى قد يؤدى إلى جولة عنف جديدة، تستخدمها إسرائيل لتبرير المزيد من تصعيد العمليات العسكرية.
السيناريو الثالث «هدنة شكلية» وهو السيناريو الأكثر ترجيحًا.. حيث يشهد القطاع هدنة طويلة الأمد، يدار من خلالها قطاع غزة.. كمنطقة أمنية واقتصادية بلا سيادة وبلا أفق سياسى واضح.. مما يبقى جذور الصراع مشتعلة.
نقطة ومن أول السطر..
يكشف المشهد فى البيت الأبيض أن ما يتم طرحه لقطاع غزة ليس نهاية للحرب، بل إعادة صياغة لها بوصاية دولية وتمويل عربى وحماية إسرائيلية وقيادة أمريكية. أما الفلسطينيون فمطلوب منهم أن يقبلوا أو يرحلوا من أرضهم ويقصوا من قضيتهم.
هذا «السلام الأبدى» الذى تحدث عنه ترامب هو نوع من الصراع طويل الأمد. وسيتحول إلى سلام بلا عدالة ولا سيادة، وستبقى النار تحت الرماد لسنوات طويلة قادمة.
وسيظل الأمر معلقا ومرهونا بإرادة دولية حقيقية.. تعيد الاعتبار للحقوق الفلسطينية، وليس بإعلانات ملغومة من البيت الأبيض وتل أبيب.