
أسامة سلامة
لماذا نصدق العدو ولا نصدق أنفسنا؟
لافت للنظر الاحتفاء الكبير بالتحقيق الذى نشرته جريدة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية عن أشرف مروان وأكدت فيه أنه خدع المخابرات الإسرائيلية، بما يعنى أنه لم يكن جاسوسًا على بلده؛ بل قام بمهمة وطنية جليلة.. هذا الاحتفاء من وسائل الإعلام وسياسيين وكتّاب ومفكرين يثير تساؤلاً مُهمًا، هل نحتاج إلى شهادة من عدونا لكى نتأكد من قدرتنا على مواجهة إسرائيل ونجاحنا فى خداع الموساد جهاز المخابرات الإسرائيلى فى العديد من العمليات؟ لقد شكك كثيرون فى وطنية «مروان» وجزموا بأنه جاسوس إسرائيلى، رغم أن ثلاثة رؤساء مصريين تعاملوا معه ووضعوا ثقتهم فيه، الأول جمال عبدالناصر الذى زوَّجه ابنته منى واعتبره واحدًا من العائلة، والثانى أنور السادات الذى ائتمنه على أسرار خطيرة عندما عيّنه سكرتير رئيس الجمهورية للمعلومات، كما كان مبعوثه فى العديد من المهام الخارجية المهمة، وكان آخر منصب تولاه سفير مصر فى لندن قبل أن يستقر بها ويصبح رجل أعمال معروفًا، والثالث حسنى مبارك الذى قال عنه بعد وفاته فى يونيو 2007 لرؤساء تحرير الصحف وقتها «كان رجلاً وطنيًا مخلصًا لبلده ولم يكن جاسوسًا ونفذ مهمات وطنية لم يحن الوقت بعد للكشف عنها، وإننى كنت أعلم تفاصيل ما يقوم به أولاً بأول»، وروى السفير أحمد أبوالغيط وزير الخارجية الأسبق والأمين العام لجامعة الدول العربية فى أحد البرامج الفضائية، أن اللواء عبدالسلام محجوب وكيل أول المخابرات العامة الأسبق قال له: «أنا من دربت أشرف مروان على الدس والدخول على إسرائيل وإبلاغهم بما يضللهم وإحنا عارفين أننا دافعين به كعميل لإسرائيل، وذلك فى إطار خطة التضليل والخداع الاستراتيجى وبهدف مد وتضليل القيادات الإسرائيلية بمعلومات مزيفة»، وأكد «هو فى الحقيقة ابن مصر».. ورغم كل هذه الشهادات المعتبرة ظل كثيرون متشككين ويقولون عن «مروان» أنه جاسوس، بعضهم بدافع المكايدة لعبدالناصر وآخرون بسبب خلافات شخصية معه، واعتمدوا جميعًا فى هذا على ما أعلنته إسرائيل نفسها سواء فى مذكرات بعض قادة الموساد أو فى كتب أو أعمال فنية مثل فيلم «الملاك .. الجاسوس المصرى الذى أنقذ إسرائيل»، وكلها كانت تقول إن مروان أبلغ إسرائيل بموعد حرب أكتوبر قبل قيامها بـ24 ساعة، وهو ما تم الرد عليه أن مروان أبلغهم باليوم وأن الهجوم المصرى سيبدأ فى غروب شمس يوم 6 أكتوبر وليس الثانية ظهرًا وهو موعد الحرب الحقيقى، وأن الإبلاغ كان متأخرًا مساء يوم 5 أكتوبر حتى لا تستطيع إسرائيل تعبئة الاحتياطى العسكرى لها فى وقت مناسب، ويؤخرها فى التحرك عدة ساعات، ما يمهد للقوات المصرية عبور القناة والتمركز شرق القناة، وأن كل ذلك تم بمعرفة وتوجيه الرئيس السادات الذى كان يريد أن يفاجئ إسرائيل بالهجوم، وكان يخشى من تسرب الموعد الحقيقى للعدو فقام بخداعهم عن طريق أشرف مروان الذى كان مصدر معلومات موثوقًا فيه من الموساد الإسرائيلى؛ حيث تم اختباره أكثر من مرة وثبتت لهم دقة معلوماته وأهميتها، وهى المعلومات التى أمدته بها الأجهزة المصرية حتى يكسب ثقة الإسرائيليين، ومن ثم تصديقهم له عندما يخبرهم بموعد غير دقيق للحرب ولو بفارق عدة ساعات فقط، وهى تبدو للمواطن العادى قليلة، ولكنها فى الحروب مؤثرة جدًا، لكن بمجرد تسريب إسرائيل لقصة «الملاك» وهو اللقب الذى أطلقه الموساد على «مروان»، تعامل عدد غير قليل من الكتّاب والصحفيين والمحللين على أنها حقيقة، وبعضهم قال أن لديه وثائق، وطالب آخرون بالتحقيق فى الأمر، رغم النفى المصرى من مسئولين كبار أكثر من مرة، أى أنهم صدّقوا الإسرائيليين ولم يصدّقوا القيادات المصرية، الأخطر فى هذا الأمر أن مواطنين بسطاء تماشوا مع هذه الروايات وكادوا يقتنعون بأن «مروان» جاسوس فعلاً، ويستشهدون فى كلامهم بما قالته إسرائيل، ثم عادوا وصدّقوا أيضًا ما نشرته يديعوت أحرونوت مؤخرًا عن خداع مروان للمخابرات الإسرائيلية، وهو بمثابة إعادة الاعتبار إلى مروان.. لقد تكرّر نفس التماهى مع الدعاية الإسرائيلية وعدم تصديق أننا قادرون على خداع الموساد الإسرائيلى فى قضية رأفت الهجان، عندما كشفت مخابراتنا من خلال المسلسل التليفزيونى الشهير الذى يحمل نفس الاسم عمّا قام به المواطن المصرى رفعت على سليمان الذى زرعته المخابرات المصرية داخل إسرائيل باعتباره يهوديًا فى الخمسينيات من القرن الماضى وصعد داخل المجتمع الإسرائيلى وأمدنا بمعلومات مهمة، ولم تدرك إسرائيل حقيقته إلا بعد إذاعة المسلسل المصرى، وعلى الفور قامت الآلة الإعلامية الإسرائيلية بحملة مضادة لتشويه «رأفت» والتقليل مما فعلته المخابرات المصرية وأشاعت أنه تم كشفه وجندته كعميل مزدوج.. والغريب أن بيننا من صَدّق هذا الكلام وروّج عنه أنه «رأفت الهجّاص»، رغم ظهور أبطال المخابرات السابقين الذين أشرفوا على العملية المخابراتية الناجحة فى أكثر من وسيلة إعلامية مؤكدين صحة ما جاء بالمسلسل، وعلى رأسهم محمد نسيم الذى ظهر فى المسلسل بدور نديم هاشم والذى تحدّى الإسرائيليين أن يظهروا وثيقة تثبت أن «الهجان» عميل مزدوج، وبالطبع لم يردوا عليه.. الأمثلة كثيرة، ولكن يبقى السؤال الذى يحتاج إلى دراسة وأبحاث للوصول إلى إجابات شافية: لماذا نصدّق العدو ولا نصدّق أنفسنا؟ لماذا لا نثق فى قدراتنا على الإنجاز والمواجهة؟ أم لأن أجهزتنا تتعمد فى بعض الحالات التى تعلنها إسرائيل عدم الحديث والإدلاء بمعلومات عنها لأسباب أمنية وهى أدرى بها وبوقت الإعلان عنها؟
فى كل الأحوال نحتاج أن نثق بقدراتنا حتى لا يتجذر داخل مجتمعنا شعور الهزيمة وعدم القدرة على المواجهة، وهو أمر خطير إذا شاع وانتشر، وأن نواجه كل من يحاول تحطيم معنوياتنا ويهدم رموزنا الوطنية.. إننا لا نريد أن نخدع أنفسنا ونبالغ فى قوتنا لأنه شعور يؤدى إلى الانتحار، ولا نريد أيضًا أن نحط من إمكانياتنا وقدراتنا فهذا يجعلنا أمة مهزومة مسبقًا وكلا الأمرين خطير، ولكن الأخطر أن نصدّق العدو ولا نصدّق أنفسنا.