
نبيل عمر
رسالة من مواطن مصرى إلى شعب إثيوبيا وحكومتها!
نعم الرسالة إلى شعب إثيوبيا أولا قبل حكومتها، فالشعب هو الجذر الضارب فى الأرض والحكومة مجرد فرع يمكن أن ينثنى أو ينكسر أو يعطن ويسقط، ويحل محله فرع آخر، والأهم أن الشعب صاحب المصلحة الأولى فى بلده، وأحب أن أقول لكم إن شعب مصر، وهنا لا أتحدث باسمه ولا أستطيع، ولكن لأنى من ناسه البسطاء الذين رأوا نور الحياة فى قراه وعلى ضفاف نهر النيل العظيم، أشعر بهم وأعرف كيف يفكرون، وأقول لكم إن المصريين يتمنون الخير لجميع أبناء قارتهم السمراء الجميلة، وقطعا هم يسعدون لأى دولة إفريقية تحاول أن تنهض وتنمو وتتوسع فى مشروعاتها الخاصة، لكن إذا كانت هذه المشروعات تتعلق بحياة جيران آخرين، لا منطق أبدا فى أن تفعلها دون أن تتشاور مع هؤلاء الجيران!
وحكوماتكم أخذت قرار سد النهضة، الذى لا نعترض على فكرته وأهميته لكم، لكن نعترض على الأسلوب الذى بُنى به بقرار منفرد على النيل الأزرق، وبعده طريقة الملء، والآن إدارة مياهه دون التنسيق مع دول المصب: مصر والسودان، والتنسيق والتوافق والتعاون لا يمس مطلقا السيادة الإثيوبية على سدها ولا يعوق إنتاج الكهرباء منه، لكنه ينظم حقوق دول الجوار فى حصص المياه التى هى «نبع» الحياة لما يقرب من 160 مليون إنسان مصرى وسودانى، إلى جانب الزرع والحيوان والعمران عموما.
ورسالتى إليكم سببها أن حكومتكم لم تستوعب اللياقة السياسية التى تعاملت بها مصر مع الأزمة وصبرها الطويل، ولم تقدر تصرفها اللائق المحترم وأنتم تبنون السد بقرار فردى دون أى اعتبار لجيرانكم دولتى المصب، ونعرف أن حكومتكم كانت مأخوذة بأسباب سياسية وتضرب بعلاقاتها مع شركائها فى النهر عرض الحائط، حتى تحشدكم وتوحد بينكم وتخفف من النزاعات العرقية المسلحة التى نشبت فى بلادكم، خاصة فى منطقتى أوروميا وأمهرة، وراح ضحيتها ما يقرب من 600 ألف قتيل، حسب تقديرات الاتحاد الإفريقى وهو رقم كبير، كنا نتمنى أن تتجنبوه.
لكن أن يكون سعى حكومتكم إلى حشدكم خلفها، على حساب زراعة «نزاعات» مع دولتى المصب، فهذا خطأ فادح، فقد تتفاقم هذه النزاعات وتتراكم وتتوسع وتصنع أزمة مستعرة غير مأمونة العواقب، على الأقل قد تشغلكم كثيرا وتهدر طاقاتكم فى حساباتها والتعامل معها، مما يعوق أهداف التنمية والنهضة التى يعدونكم بها!
ومصر بذلت مع حكوماتكم كل سبل التفاهم والتفاوض، لأنها دولة سلام وتعاون، ولجأت إلى وساطات دولية وهيئات كبرى، لكن حكوماتكم أدارت ظهرها وأصمت أذنيها وأغلقت عينيها، مستقوية بدول أجنبية، مشغولة بنشر القلاقل والاضطربات فى القارة، وهى دول تتاجر فى الحروب والسطو على الثروات الطبيعية والمواد الخام، وبتاريخها ومؤامراتها لا يمكن الاطمئنان إليها، فهى تتقلب فى مواقفها بين فترة وأخرى حسب مصالحها، حتى لو كانت ساعدتكم فى وساطات ومفاوضات مالية وفنية مع وكالات وهيئات دولية لبناء السد.
ولو راجعتم قائمة من حضروا حفل افتتاح السد، لراعكم غياب عدد كبير من الدول المؤثرة الكبيرة فى القارة الإفريقية، وليس هذا تقليلا بأى حال من الدول التى جاءت، لكنها دلالة على أن دولا إفريقية كثيرة تتحفظ على الطريقة التى بُنى بها السد بقرار منفرد، لأن القارة فيها عدد غير قليل من الأنهار التى تتشارك فيه الدول، ولا تحبذ دول القارة أن تحذو حذوكم دولة أخرى، بل إن فكرتكم وطريقة تنفيذها تهدد عشرات الدول فى العالم أجمع، مثل الدول التى يمر بها نهر الدانوب فى أوروبا أو نهر الأمازون بأمريكا اللاتينية أو نهر الميكونج فى آسيا.
نعم حكومتكم تصرفت بطريقة إذا اتبعتها دول المنبع فى الأنهار الدولية الكبرى سيتحول العالم كله إلى ساحة قتال شرس فى بضع سنوات قليلة!
من هنا أرسلت مصر خطابا إلى مجلس الأمن، وأصدرت وزارة خارجيتها بيانا حاد الألفاظ، تصف فيه ما حدث، وأنها ما زالت على موقفها فى رفض كل الإجراءات الأحادية التى بنت بها الحكومة الإثيوبية السد وتصر على أن تعمل بها، وأن مصر تحتفظ بحقها فى اتخاذ كافة التدابير التى يكفلها القانون الدولى وميثاق الأمم المتحدة للدفاع عن المصالح الوجودية لشعبها.
وهذا ليس تهديدا كما حاول البعض تفسيره، فمصر ليس من عادتها أن تهدد أو تتوعد أو تنذر، وإنما هى توضح وتفسر وتنصح، فالمصريون طوال تاريخهم شعب محب للسلام والخير، تعلموا ذلك من طبيعة الأرض المنبسطة التى عاشوا عليها من قديم الزمان، ومن عطاء النهر العظيم الذى أمدهم بالحياة، فعشقوه وكتبوا فيه الملاحم والقصائد كما لم يكتب شعب فى نهر.
ورسالة مصر إلى مجلس الأمن هى دعوة لاستدعاء المجتمع الدولى أن يكون شاهدا على عدوان واضح على شركاء النهر فى مصبه، وأن يكون شريكا فى البحث عن سبل رفع هذا العدوان، خاصة أن المياه ليست كأى عنصر من عناصر الثروات الطبيعية، فهى فاصلة بين الحياة والموت، الاستمرار والفناء، ولا يوجد ما هو أغلى منها إلا الهواء وهو مشاع لا يمكن السيطرة عليه، وأى نقص فى المياه هو تهديد مباشر وحاد لحياة البشر.
وفى حالة تعرض دولة يتجاوز عدد سكانها مائة مليون نسمة للعطش وتهديد المحاصيل، فمن المؤكد أن الاستقرار سيغيب عن المنطقة التى تعيش فيها هذه الدولة، وسوف يمتد بالضرورة إلى دول تبعد عنها آلاف الكيلومترات، فماذا يحدث لو أن هذه الدولة فى قلب العالم؟
قطعا لن يتحمل العالم وضعا كهذا، لأن الثمن سيدفعه الجميع، ويبدو أن حسابات حكومتكم الخاطئة فى التعامل مع مصر، مرجعها سعة صدر مصر، فتصورته ضعفا وعدم قدرة، ومصر ليست ضعيفة مطلقا وقادرة إلى أقصى حد للدفاع عن وجودها، وأن صبرها على التصرفات الأحادية السيئة هو سمة فى شخصيتها وفهمها التاريخى لمعنى الجوار والتعاون والبناء.
ويؤسفنى أن أقول لكم إن حكومتكم فى خطابها عن السد الذى لعب على أوتار التعصب العرقى والعنجهية القومية نسى مصالح الشعب الإثيوبى، لأن التنمية الحقة تقترن بالتعاون لا بالتحدى، بالمشاركة لا بالخصومة، وتدوم باتفاقات وتفاهمات عميقة، أما دفع الأطراف المتشاطئة فى النهر إلى مربع التهديد الوجودى، فهو نوع من السباحة فى الرمال الناعمة، وأسألكم وأسال حكومتكم: كيف يتصرف هؤلاء المهددون فى حياتهم لو فعلا جاء الخطر ذات يوم بنقص فى إيراد النهر وحجزت بلادكم المياه خلف السد حسبما ترى؟، هل يموت المهددون عطشا أم ينتفضون دفاعا عن حياتهم؟
الإجابة بسيطة، وجاءت من جانبكم، فكل كلام مسئوليكم والكثير منكم يأتى عنيفا وغليظا، بحجة أن السد ضرورة لتحسين معيشة مواطنيكم، فكيف يكون رد فعل أهل مصر إزاء تعرضهم لخطر جفاف رهيب قد يساهم فيها السد بقسط كبير؟!
هل عملت حساباتكم واضعين فيها كل هذه الاحتمالات؟
كيف تفسر مصر تصريح «كيفلى هورو» مدير مشروع سد النهضة الذى قال فى حوار صحفى مع مجلة «أديس ستاندرد» إن السودان ومصر كان عليهما أن يُغطيا معا 50 % من تكاليف بناء السد بنسبة 30 و20 على الترتيب؟
هل تحولون السد إلى بنك استثمارى؟!
رسالة مصر إلى مجلس الأمن هى دعوة إلى الحسابات الصحيحة، التى يكسب فيها الجميع، وتدعوكم إلى هجر الحسابات الخاطئة التى كلها مخاطر على الجميع!