الخميس 18 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

بألبوم جديد لا يشبه أحدا ويحمل ختمـا شخصيـا واضحـا: قرار شخصى

ميثاق هوية «حمزة نمرة» الغنائية

هذا المقال ربما يكون مختلفًا قليلًا عن بقية مقالاتى التى اعتاد القرّاء أن يطالعوها فى هذه المجلة العريقة. فلن أتوقف هذه المرة عند كل أغنية كما أفعل عادةً، رغم أنه من المفترض أن يكون ذلك هو جوهر أى تناول نقدى لألبوم غنائي، وهو ما يفعله أى ناقد يحترم أدواته. لكننى – وبشيء من الجرأة، أو إن شئت فقل «الثورية» – سأكسر هذه القاعدة، لأن ما أراه أهم فى هذه اللحظة ليس التحليل التفصيلى لأغنية هنا وأخرى هناك، بل النظر إلى مشروع «حمزة نمرة» ككل: مشروع ممتد، متماسك، وجدير بأن نتوقف أمامه، لأنه أوسع وأعمق من مجرد ألبوم جديد.



أجمل ما فى أغانى «حمزة نمرة» أنها لا تُشبه أحدًا، بل تحمل ختمًا شخصيًا واضحًا، أشبه ببطاقة هوية موسيقية يبرزها فى كل مرة يقف فيها أمام الميكروفون. كثيرون يتحدثون عن الأصالة والاختلاف، لكن قليلين فقط يترجمون هذه الشعارات إلى مشروع فنى له ملامح ثابتة وقابلة للتتبع. و«حمزة» – شاء من شاء وأبى من أبى – واحد من هؤلاء القلائل الذين صاغوا لأنفسهم مشروعًا غنائيًا حقيقيًا.

ولن ألجأ هنا إلى المصطلحات الأجنبية التى أتشدق بها أحيانًا فى مقالاتي. ولن أصفه بأنه «صوت استثنائي» أو «ابن جيله الأصيل» كما يفعل الكثير من زملائي، ثم أترك القارئ حائرًا وسط ضباب من الكلام. بل سأحاول أن أضع يدى على جوهر التفرّد. فمشروع «حمزة نمرة» ليس وليد لحظة عابرة، وإنما بناء تراكمى بدأت لبناته الأولى منذ انطلاقته عام 2011، واستمر فى النمو بهدوء وثبات حتى اليوم.

وما يميز هذا البناء أنه محكوم باستراتيجية واضحة: الغناء للإنسان فى علاقاته بالمجتمع، لا للعاشق المكسور أو المهجور أو المقهور الذين ملأوا أرفف الأغنية العربية حتى التخمة. «حمزة» ببساطة يرفض أن يُختزل مشروعه فى الثنائية الساذجة (هو وهي)، وعندما يتحدث عن علاقة الرجل بالمرأة يناقشها من منظور اجتماعي، ويفضل أن يكون مرآة لقضايا أوسع، وأن يُسجّل شهادته على المجتمع بكل تناقضاته.

ولكى لا يكون كلامى أحكامًا مطلقة، فلنطبّق ما ذكرت على بعض أغنيات الألبوم. 

ففى (قرار شخصى رقم 1) يتحدث «حمزة» عن التصالح مع النفس، لأن «مفيش حاجة تستاهل تكون زعلان أوى جدًا». ثم تأتى (وافتكرت) لتؤكد أن الحياة ليست سهلة، وأنها مليئة بالصعاب، لكن الإنسان قادر على صنع المستحيل، لأن «القوة فيك وربك وحده شالك». وفى ذات السياق تأتى (كده الأيام) لتكمل المفهوم نفسه: «كده الأيام.. يوم معانا.. ويوم علينا».

وتأكيدًا على هذه الحالة الإيمانية التى تسيطر على الألبوم، تأتى أغنية (كله على الله) لترسّخ وجوب الرضا بما قسمه المولى عز وجل.

ثم نسمع «حمزة» يتحدث عن شعور الاغتراب فى (حد هنا من كايرو)، حين يتمنى أن يجد شخصًا يشاركه الفرح لأنه «ليه أفرح لوحدى فى مكان ما حدش شبهي؟». ومن هذا المنطلق يمكن تأويل أغنية (مابتلاقينيش) بأكثر من وجه: ربما المقصود بها مصر التى يجد نفسه فى وجودها، وربما الأم التى «عجناه وخبزاه»، وربما الحبيبة التى تفهمه من نظرة. وحتى لو اعتُبرت أغنية عاطفية، فهى مختلفة فى تناولها غير المباشر لعلاقة الرجل بالمرأة.

ويعرّج «نمرة» فى (بتستخبى) على سلبية من سلبيات النفس البشرية، حيث يتناول السلوك المتباهى بالماديات والكِبر، وهو سلوك مذموم حذّرنا منه القرآن الكريم: «ولا تمش فى الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا» (الإسراء: 37). ثم تأتى أغنية (اتخمينا) فى خط الأغانى الشعبية، لتطرح بشكل مباشر وبسيط فكرة الخذلان.

أما (طال غيابك) فتتناول فراق الأحبة وما يربطنا بهم من ذكريات يومية. وفى (يا سهرانين) نسمع صرخة كل من أتعبه التفكير وأرهقه الأرق، يتمنى فقط نومًا بلا قلق. وفى (شيل الشيلة) يوجّه «حمزة» رسالة للذين يرون الجوانب الإيجابية فقط من حياة الآخرين بعد نجاحهم، ليقول: العبرة ليست بما ترونه، فلو «شال أى فرد منكم شيلته بحالها» لتمنى أن يعيش حياة أخرى. أما (شمس وهوا) فتمثل تحذيرًا ساخرًا من الحكم السطحى على العلاقات. وأخيرًا، فى (يا عزيز عينى)، ورغم أن الكلمات تبدو عاطفية، إلا أن التناول مختلف، فهو لا يتغزل فى جمال الحبيبة، بل يصفها بأنها مرآة نفسه، التى تهوّن الأذى وتنتشله من زيف الحياة.

المثير أن «حمزة»، رغم هذه الجدية فى الموضوعات، لم ينفصل يومًا عن «الموضة الموسيقية». فهو يدرك أن الفن لا يعيش فى فراغ، وأن الفنان الذى يتجاهل ما يسمعه الناس اليوم سيتحوّل إلى صدى بعيد فى قاعة فارغة. لذلك أجد من الطبيعى أن أصنّفه – بكل ثقة – كمغنى بوب. نعم، بوب وبالمعنى العصرى تمامًا، يستخدم إيقاعات متجددة، ألوانًا موسيقية تواكب السوق، وقدرة على التكيّف مع «الترند» دون أن يفقد هويته. ولعلّ مثال الفلامنكو الإسبانى خير شاهد: «عمرو دياب» عنون ألبومه (ابتدينا) على إيقاعه، «أحمد سعد» تبنّاه فى (حبيبنا)، وحتى أصوات صاعدة مثل «زياد ظاظا» جرّبه فى (باليني). وسط كل هذا لم يقف «حمزة» متفرجًا، بل جعل أغنيته الرئيسية (قرار شخصى رقم 1) منسجمة مع هذه الموجة الموسيقية كى يكون مواكبًا.

وهنا نصل إلى ركيزة أخرى لا تقل أهمية، وهى «كيفية اختيار فريق العمل». فبينما يفتش معظم المطربين فى دفاتر صُنّاع الأغانى التجارية المتكررين، يغامر «حمزة» بالخروج من هذه الدائرة الضيقة، ويراهن على أسماء أدبية لها وزنها فى المشهد الشعرى وتمتلك دواوين بالعامية. وحين يغنى كلمات «حازم ويفي»، أو «عمر طاهر»، أو «كوثر مصطفى» مثلًا، فهو لا يبحث عن مجرد كلمات ملائمة للحن، بل عن نص أدبى يمكن أن يعيش كقصيدة مطبوعة قبل أن يكون أغنية مسموعة. وهنا يصنع فارقًا جوهريًا بينه وبين أقرانه الذين تكون الكلمة بالنسبة لهم عنصرًا مكمّلًا فى حالة الأغنية بشكل عام، وأنا لا أفضّل هنا نوعًا على نوع آخر، ولكن أحاول فقط توضيح الفروق.

ولكن أيضًا سر «حمزة» الأكبر لا يكمن فى الكلمة وحدها. فالرجل موسيقى قبل أن يكون مطربًا: عازف جيتار وملحن، تشكّل وعيه الفنى فى حضن فرقة الحب والسلام مع الموسيقى «نبيل البقلي»، وهناك تعلّم أن الأغنية ليست سلعة جاهزة تُشترى من رفوف «السوبر ماركت الغنائي»، المعروف حاليًا باسم «واتساب»، حيث يرسل الصنّاع الأغانى شبه مكتملة للمغنى ليضع عليها صوته فقط. فعندما بدأ مسيرته المنفردة، لم ينزلق إلى هذا النموذج الرديء الذى يلتقط الأغانى المعلبة: واحدة عن الهجر، وأخرى عن الندم، وثالثة عن الانتقام، ثم يوزعها على الجمهور فى علب مزخرفة يطلق عليها مجازًا «ألبوم». لا، «حمزة» لم يعرف هذا الطريق أصلًا.

هو شريك أساسى فى صناعة أعماله: يُلحّن، يعزف، يُشرف على التفاصيل والرؤية العامة للتوزيع الموسيقي، يجرّب ويعيد الصياغة.

وحتى حين يستعين بملحنين آخرين، تبقى بصمته كـ«بطل» للعمل واضحة لا تخطئها الأذن. بينما كثير من المطربين الآخرين مجرد ممثلين صامتين على المسرح، يتركهم الكاتب أو الموزع يلعب الدور الأكبر خلف الكواليس.

وهنا يتجلى الفارق: «حمزة نمرة» لا يسمح لهويته أن تذوب فى السوق، ولا يرضى أن تُمسخ شخصيته تحت سطوة «الصانع المهيمن». يعرف أن الفنان بلا هوية يتحول إلى ظل عابر، تتناثر أغانيه بلا رابط، ولا يبقى منها فى ذاكرة الناس سوى لازمة محفوظة أو لحن عابر. أما هو، فمشروعه يبدو مثل خيط متين يربط كل ألبوماته وكل أغنياته. وحتى حين يساير الموضة، يبقى محتفظًا بهويته، يطل عليك من بين السطور والأنغام ليقول: «هذا أنا، وهذا مشروعى».