الأحد 24 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
‎أوروبا تحت أحذية ترامب وبوتين

‎أوروبا تحت أحذية ترامب وبوتين

لم تكن الصورة التى التُقطت فى واشنطن لمجموعة من أبرز زعماء أوروبا فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، وإيطاليا مجرد اجتماع عابر. كانت صورة مهينة بالمعنى الكامل للكلمة؛ قادة يمثلون اقتصادًا يتجاوز 14 تريليون دولار، يجلسون أمام دونالد ترامب كالتلاميذ فى حضرة مُعلّم قاسٍ، يوزّعون الشكر والثناء فى محاولة يائسة لتفادى غضب الرجل. أوروبا التى اعتادت أن تُصدر أوامرها لشعوب العالم الثالث، وجدت نفسَها فى مقعد المتلقى، خائفة، مرتجفة، أمام رئيس أمريكى يتعامل معها كما تعامل قبل أشهُر مع بعض زعماء إفريقيا. جلسة واحدة، حسم فيها كل شىء!



وإذا كان المشهد يُعرف بنقيضه، فالمقارنة فاضحة.. استقبال بوتين فى ألاسكا حمل كل معانى الاحتفاء، من السيارة الكاديلاك المصفحة إلى انتظار ترامب له شخصيًا فى المطار، مرورًا بابتسامة ميلانيا الودودة. المفارقة أن أوروبا كلها بدت تلميذًا صغيرًا، فيما جلس بوتين كالقيصر العائد إلى مسرح دولى صنعته قوته العسكرية.

خلف هذه الصور صفقة تتجاوز مجرد الحرب الأوكرانية. بوتين عرض على ترامب تسوية تقوم على مبدأ «تبادل الأراضى»، لكنه تبادُل من طرف واحد. موسكو تحتل أربعة أقاليم أوكرانية كبرى (لوجانسك، دونيتسك، خيرسون، زابوروجيا)، تسيطر عبرها على نحو 19 % من مساحة أوكرانيا، بما يقارب 114 ألف كيلومتر مربع. روسيا تريد انسحابًا شكليًا من خاركيف وسومى، مقابل تسليم كييف ما تبقى من دونيتسك، وتقنين ضم القرم، وفرض حياد أوكرانيا خارج الناتو. هى لعبة إبليسية. احتلال بالقوة ثم تقنين دولى للسرقة.

ترامب تلقف الطرح بسرعة، أعلن أن لا عضوية لأوكرانيا فى الناتو، ولا عودة للقرم، متجنبًا الخوض فى تفاصيل الأراضى، لكنه سارع ليكلم زيلينسكى وزعماء أوروبا، دافعًا إياهم للحضور إلى واشنطن على عَجَل. الرجل لا يتصرف كرئيس سابق فحسب؛ بل كتاجر صفقات. تسوية تمنحه مَجدًا شخصيًا بإنهاء الحرب، وصفقات سلاح بعشرات المليارات. المعلومات المتداولة تتحدث عن عرض أوكرانى لشراء أسلحة أمريكية بقيمة 100 مليار دولار.

هنا يكمن رعب أوروبا. فالموافقة على تسوية تُشَرعِن احتلال 20 % من أوكرانيا تعنى مكافأة بوتين على غزوه، وإعادة إنتاج لحظة ميونيخ 1938 حين سلّم تشامبرلين ودالادييه أراضى تشيكوسلوفاكيا لهتلر أملاً فى توقفه، لكنه بعد عامين غزا بولندا وأشعل الحرب العالمية الثانية. كما تذكر القارة بلحظة يالطا 1945، حين جلس ستالين وروزفلت لتقسيم العالم بين معسكرين شرقى وغربى، وكانت أوروبا هى جسد الصفقة.

اليوم، يعرض ترامب على القارة ما يشبه «يالطا جديدة»، لكن بثمَن أشد قسوة.أن تدفع أوروبا من جيوبها ثمَن أمنها. لم تعد أمريكا هى الضامن العسكرى؛ بل البائع. المعادلة الجديدة: مَن يريد مظلة الحماية، فعليه أن يشتريها.

 

وهكذا يُجبر الأوروبيون على ما تهرّبوا منه عقودًا. رفع إنفاقهم العسكرى، تقليص رفاهية شعوبهم، ودفع مئات المليارات للمجمع الصناعى العسكرى الأمريكى. هى معادلة كسَر بها ترامب النموذج القديم الذى جعل المواطن الأمريكى يمول رفاهية مدارس ومستشفيات أوروبية عبر المظلة النووية المجانية.

المفارقة المؤلمة أن هؤلاء الزعماء الذين جلسوا اليوم متوجسين أمام ترامب، هم أنفسهم الذين مارسوا الغطرسة على شعوب ضعيفة.

 

من ماكرون الذى أهان رئيس بوركينا فاسو علنًا، إلى شولتس الذى سلّح الكيان بمليار دولار ضد أهل غزة، إلى ميلونى التى أغرقت زوارق اللاجئين. جبابرة على المستضعفين، ومرتجفون أمام الأقوياء.

لأول مرة منذ ثمانية عقود، يتذوق الأوروبيون ما عاشته شعوبنا طويلاً. أن تُنتزَع أرضُك بالقوة، وأن تُجبَر على مباركة المحتل بمسروقاته. أن تدرك أن ميزان القوة ليس فى صالحك، فتجلس مرغمًا إلى طاولة التفاوض بينما تُفرَض عليك إملاءات المنتصر.

هى لحظة انتقام التاريخ. أوروبا التى صنعت الاستعمار، وأمضت قرونًا تمارس الاستعلاء على العالم، وجدت نفسَها محشورة بين مطرقة بوتين وسندان ترامب. صورة واحدة تختزل القصة كلها: قارة بكاملها تجلس فى مقعد التلميذ، بينما يُملى عليها درس القوة من جديد.