الإثنين 18 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
قراءة مغايرة فى عودة الكتاتيب.. وتديين المجال العام!

مصر أولا.. هل نسافر إلى الماضى

قراءة مغايرة فى عودة الكتاتيب.. وتديين المجال العام!

فى محاولة لفهم ما يجرى من تطورات سريعة على الساحة المصرية من تحولات فى العلاقة بين الدين والدولة.. كتبتُ مقالاً بعنوان «هل نسافر إلى الماضى؟ قراءة هادئة فى عودة الكتاتيب»، فى 9 أغسطس 2025 على صفحات هذه المجلة (روزاليوسف). وقد وصلنى العديد من التعليقات التى تستحق التوقف عندها وأمامها. وذلك على خلفية ما تناوله المقال بشكل أو بآخر على الكتاتيب وعنها، كما أن التطورات الأخيرة تفرض علينا قراءة أعمق وأكثر تدقيقًا؛ لأن ما يحدث ليس مجرد أحداث عابرة؛ بل أراها ملامح لمشروع متكامل.. يعيد صياغة المجال العام ويرسم ملامح جديدة له، وينقلنا فى خطوات متتالية نحو الدولة الدينية بأسلوب رشيق وناعم وهادئ، ويبدو حديثه متواكبًا مع العصر ومفرداته.



 إقحام الدين

لا يتعلق الأمر بممارسات فردية أو مبادرات للمجتمع المدنى أو حتى نشاط ثقافى ذى بعد دينى؛ بل بنشاط واضح ومعلن ومنشور بشكل رسمى على صفحة السوشيال ميديا لوزارة الأوقاف مع العديد من مؤسّسات الدولة من خلال لقاءات وبروتوكولات تعاون بداية من الوزارات، مرورًا بالنقابات، وصولاً إلى الهيئات العلمية المتخصصة. والملاحَظ أن هذه الأنشطة.. لم تتفاعل معها النخبة الفكرية سوى بالصمت من جانب، وفى ظل ضعف الخطاب المدنى من جانب آخر. فضلاً عن تقبُّل المجتمع لفكرة إقحام الدين فى كل شىء وأى شىء هو أمر طبيعى تمامًا.

 بالقانون أَمْ بالنصوص الدينية؟

توقيع بروتوكول بين وزارة الأوقاف مع وزارة النقل.. لنشر «أخلاقيات استخدام الطرق» فى 9 أغسطس 2025، وهو عنوان جميل برّاق لفكرة تبدو رائعة فى ظل ما نعانى منه من نزيف مستمر على الأسفلت بسبب السلوكيات المرورية غير المنضبطة.. من منا لا يريد أن تكون الطرق أكثر أمانًا وسلامًا؟ ومن منا يرفض الالتزام بالسرعات المحددة وحزام الأمان؟ لكن المشكلة فى كيفية تحقيق ذلك.. من خلال فرض سلوك مرورى منضبط بالقانون، وليس بالدين. ولو كان الحل فى الدين.. فلا حاجة لنا لإصدار رخص المرور، ولا حاجة للرادارات، ولا حاجة لإشارات المرور.

ماذا يعنى تحديدًا هذا البروتوكول؟ هل المقصود هو إذاعة خطب دينية عبر مكبرات الصوت فى محطات مترو الأنفاق والقطارات؟ وهل سيترتب على ذلك.. توقف وسائل النقل خلال وقت الصلاة لإجبار المواطنين على النزول والصلاة؟ وهل ستتضمن شروط الحصول على رخصة القيادة أى علاقة بهذا البروتوكول؟ 

ما سبق، ليست أسئلة للسخرية؛ بل هى تساؤلات مشروعة خاصة حينما نقرأ أن هذا البروتوكول جاء فى سياق مبادرة «صحِّح مفاهيمك».. التى تعالج 45 قضية فكرية وسلوكية، ليست جميعها ذات صلة مباشرة بالطرق أو المرور؛ بل أساسها المفاهيم الأخلاقية والدينية. القضية هنا ليست فى القيم الأخلاقية؛ بل فى الجهة المنوط بها تحديدًا ما هو صحيح وما هو خطأ فى إطار القانون للدولة المدنية المصرية. القانون هو المرجعية الوحيدة الذى يحكم المجال العام، أمّا الدين فمجاله المؤسّسة الدينية من خلال ما تقدمه دُور العبادة والضمير الشخصى؛ أمّا الخلط بين المرجعيتين.. فيعنى أننا نفتح الباب لتديين القرارات الإدارية والتشريعية.

 مدى قصير وتأثير محدود

تعاون آخر مشترك مع نقابة المهن التمثيلية من خلال اللقاء الذى تم بين وزير الأوقاف والنقيب أشرف زكى والفنانة ماجدة زكى والمايسترو أمير عبدالمجيد فى 3 أغسطس 2025. وما حدث من الإعلان عن إنتاج أعمال دينية كثيرة لبناء وعى مستنير. وهو ما يبدو للوهلة الأولى.. احتفاء بالفن، ولكنه فى الحقيقة يمكن أن يفسَّر باعتباره إعادة تعريف لوظيفة الدراما كما نعرفها.

الفن فى مضمونه هو مساحة للتنوع والإبداع لخبرات وتحديات الحياة بكل ما تحمله من تناقضات. وحين نختزله فى الجانب الدعوى؛ فإنه يفقد أهم مقوماته فى النقد والتعددية. قطعًا، مسلسل عن السيدة نفيسة.. سيكون عملاً راقيًا طالما التزم بالمعايير الفنية، غير أنه قد يتحول إلى خطبة مطولة على الشاشة.. إذا كانت الغاية منه التوجيه المباشر، وليس الإبداع.

 الدراما الموجهة سواء كانت دينية أو سياسية لا بقاء لها.. مداها قصير وتأثيرها محدود؛ لأن المواطن المتابع.. ذكى بما يكفى ليميز بين الفن الصادق والفن الموجه. الأخطر أن هذا التوجه يفتح الباب لتحويل الشاشة إلى منبر دعوى؛ حيث تتلاشى الخبرات الإنسانية المتنوعة لصالح خطاب دينى واحد موجه.

 للدين رجاله.. وللعلم علماؤه

ويظل اللقاء الأكثر دهشة هو تعاون وزارة الأوقاف مع وكالة الفضاء المصرية خلال فعاليات الملتقى العلمى حول «النوازل الفقهية المستجدة لأحكام الفضاء» فى 5 أغسطس 2025. والتوصية بإعداد موسوعة فقهية عن الفضاء. وهو ما يطرح العديد من علامات الاستفهام.. ليست بالطبع عن حق الفقهاء فى دراسة هذه المسائل؛ لكونه شأنًا خاصًا بهم، ولكن عن دَور الحكومة فى رعاية مثل تلك النوعية من الملتقيات.

عِلمُ الفضاء من العلوم المتخصصة جدًا.. التى تتطلب تركيزًا كاملاً على الفيزياء والهندسة وعلوم الكواكب وأنظمة الاتصالات. ولذا فحين يكون المدخل لهذا العِلم من بوابة «الأحكام الشرعية».. فإننا نكرس الخلط بين العلم المتغير والدين الثابت بنصوصه، وكأنها رسالة ضمنية بأن البحث العلمى لا يكتمل إلا بفتوى شرعية. ما سبق، ليس إهانة للدين أو استهانة به؛ بل الحفاظ عليه بعيدًا عن متغيرات العلم حسب الاكتشافات والمتغيرات.. فللدين رجاله ومجاله، وللعلم علماؤه ومجاله. التكامل الحقيقى بينهما يكون من خلال التأكيد على القيم العامة التى تحث على البحث والاكتشاف والتجريب، وليس عبر فتاوى تحدد شكل الصوم وطريقة الصلاة على محطة الفضاء الدولية.

 الدينى والمدنى

طرحت كثيرًا فى مقالات متعددة على صفحات هذه المجلة (روزاليوسف) أهمية النظر فى التعليم الدينى.. تطويره ليتواكب مع المتغيرات غير المسبوقة سواء تقنيًا وتكنولوجيًا أو إقليميًا ودوليًا. مناهج التعليم الدينى الحالية.. لا تزال تعتمد على الحفظ والتلقين، وتطرح الدين باعتباره مجموعة من الأوامر والنواهى الثابتة دون أى مراعاة للسياق التاريخى والاجتماعى لكل ما جاءت به كتب التراث. والنتيجة المتكررة أن تحول الدين إلى منظومة مغلقة، لا مجال فيها للاجتهاد أو التنوع.

الإصلاح الحقيقى للتعليم الدينى يمكن تحديده فى تحديث المناهج لتشمل تاريخ الأديان للوصول إلى المساحات المشتركة للقيم والمبادئ السامية. وتدريب المعلمين على الحوار، وليس على التلقين. ودمج قيم المواطنة وحقوق الإنسان فى مناهج التعليم الدينى ومقرراته.

الهدف هو أن يكون لكل مواطن الحق فى إنسانيته دون قهر من خطابات الكراهية المتطرفة والمتشددة والمتعصبة. وما أحذر منه هو التداخل بين ما هو دينى وما هو مدنى.. بنقل التعليم الدينى إلى المواصلات العامة والفن والفضاء. وهو ما يعنى ببساطة ترسيخ السلطة الشاملة للدين على تفاصيل الحياة اليومية، وليس باعتباره منظومة قيمية مرجعية.

 ليست ضد الدين

ما أخشاه هو أن يستغل البعض كل ما سبق مع الافتراض الكامل لصدق النوايا والأهداف.. لاستدعاء مخططات سابقة للتديين الناعم للمجال العام. تلك المخططات لم تفصح علانية أنها تستهدف تحقيق الدولة الدينية، ولكنها خططت لمراحل متتالية ومتابعة وتراكمية للوصول إلى الدولة الدينية.. باعتبارها المرجعية الأساسية والوحيدة لممارسات الحياة اليومية فى المواصلات العامة والفن والتعليم والإعلام، وحتى الفضاء.

أؤكد أن الدولة المدنية لا تعادى الدين ولا تقصيه أو تستبعده، ولكنها تحدد مكانته حتى لا يتحول إلى أداة للسيطرة والتحكم فى المجتمع لأنه حين تترك الدولة حدود هذا الخط الفاصل؛ فإنها تضعف قاعدة المواطنة المصرية فى أن كل المواطنين متساوون أمام القانون، بغض النظر عن دينهم أو معتقدهم. إن إقرار هذه البروتوكولات الجديدة دون اعتراض، يعنى أنها ستصبح من الثوابت التى لا يمكن تغييرها فى المستقبل.

 الحرية.. جوهر الإيمان

نتفق جميعًا أن الدين هو علاقة خاصة جدًا بين الإنسان وربه، ولا تحتاج وسيطًا سواء كان حكوميًا أو غير ذلك. من حق كل إنسان أن يصلى أو لا يصلى، يصوم أو لا يصوم لأن الإيمان الحقيقى لا يمكن فرضه بالقوة.. لأن نتيجته ستكون فى إنتاج المزيد من الأفاقين والمنتفعين، وليس فى كل الأحوال مؤمنين حقيقيين. 

لا يمكن أن تحدد وزارة أو مؤسّسة طريقًا وحيدًا باعتباره «طريق السماء» وتفرضه على المجتمع. هذا الأسلوب يعنى مصادرة حرية الاختيار التى هى شرط أساسى للإيمان.. لأن الإيمان المفروض يتحول إلى طاعة شكلية، وليس قناعة روحية إيمانية.

صمت المثقف

المشكلة الأهم والأخطر بالنسبة لى.. ليست فى تلك البروتوكولات واللقاءات؛ بل فى صمت النخب الفكرية. هذا المثقف الافتراضى الذى يصمت تحت تبرير أنه ليست هناك مشكلة.. فى تجاهل أنه سيكون فى المستقبل.. واقع يصعب تغييره. التحولات الكبرى غالبًا ما تبدأ بخطوات تراكمية صغيرة.

حين قامت ثورة 30 يونيو العظيمة، كان شعارها الأوحد هو «لا للدولة الدينية الفاشية». واليوم، أصبحنا أمام واقع جديد.. ربما يعيد إنتاج النموذج نفسه بأسلوب أكثر هدوءًا. وإذا استمر الصمت؛ فإن الأجيال القادمة ستتعامل مع التديين الشامل للمجال العام باعتباره أمرًا طبيعيًا تمامًا.

 نقطة ومن أول السطر..

بوضوح؛ لسنا ضد الدين، ولكن ضد استخدامه واستغلاله وتوظيفه كأداة للسيطرة المجتمعية. 

لسنا ضد القيم الأخلاقية؛ بل ضد فرضها خارج إطار القانون. إذا أردنا دولة مصرية قوية وحديثة؛ فعلينا أن نتوقف عن مثل تلك الممارسات والإجراءات، وإقرار حدود واضحة بين ما هو دينى وروحى من جهة، وما هو مدنى وسياسى من جهة أخرى.

الدولة المدنية المصرية هى معركة وعى ودستور ومستقبل. ومن يعتقد أن الأمر بسيط، ويستهين به.. سيكتشف قريبًا أن المسافة بين الالتزام بالدولة المدنية المصرية أو ترسيخ الدولة الدينية.. يمكن أن يتم فى صمت، وبخطوات بروتوكولية محسوبة.