الجمعة 19 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

«لير».. ومالكها

هل نسَّق القدر للفنان الكبير «يحيى الفخرانى» رحلة عبر الزمن التقى فيها بـ«وليم شكسبير» على غرار بطل فيلم «وودى آلن»، (منتصف الليل فى باريس، midnight in paris).. جعلهما على وفاق واتفاق على شخصية «الملك لير»؟!.. هكذا يبدو وكأن القدر تدخل بشكل غير مرئى وغير مفهوم.. وكأن الفنان «يحيى الفخرانى» والمؤلف «وليم شكسبير» عقدا اتفاقًا ضمنيًا حول هيئة «لير» وأدائه ونبض حديثه؛ كاتب من عصور سحيقة كتب عملاً مسرحيًا خلده التاريخ تلاقى فكره ورؤيته مع فنان فى عصر حديث.



 

 لتكتب «لير» باسم وملامح «يحيى الفخرانى»؛ حتى بعد أن قدمها «أنتونى هوبكنز» بأدائه الرفيع فى عمل سينمائى.. لا يزال «يحيى الفخرانى» عالقًا فى مخيلة وأذهان المصريين؛ ملكها وامتلكته حتى أصبحت لا تحل لأحد من بعده.

للمرة الثالثة على مدار سنوات متفرقة يقدم الفنان «يحيى الفخرانى»، (الملك لير) فى نسخة جديدة على خشبة المسرح القومى من إخراج «شادى سرور»؛ تدور أحداث المسرحية حول أب يدفعه الغرور والكبرياء فى الحصول على اعتراف معلن من بناته بالحب والإخلاص؛ يحرص كل الحرص على سماع أعذب الكلام فى وصفه؛ ومدى شغف كل منهن به؛ إلا أن ابنته الصغرى «كورديليا» تفاجئه لأنها لا تجيد اللعب بالألفاظ؛ فيقرر الغضب عليها وحرمانها من حقها وحصتها فى أملاكه بينما تقتسم الأخريات ملكه بالكامل فيصبح الرجل متجردًا من كل شىء ويقع فريسة فى يد كلتيهما.

كتب «وليم شكسبير»، (الملك لير) ولم تكن قد ظهرت بعد مدارس التحليل النفسى على اختلافها وتنوعها وبالتالى كان له السبق فى تشكيل نموذج أو «كتالوج» لتحليل النفس البشرية وقراءة نوازعها وتعقيداتها وتناقضاتها من توحش وطمع ونفاق وكراهية وتملق؛ ومن ثم تجسيد الصراع بين الخير والشر؛ كل هذه الأبعاد النفسية والصراعات استعرضها المؤلف وكأنه جرّاح ماهر يمزق الجسد فينتزع منه المرض انتزاعًا؛ بداية من الصراع على الميراث ونهاية بعلاقة الأب بأبنائه وحجم سلطة الأب فى هذه العلاقة؛ فالأب دائما حبه مشروط معتمد على نتائج ثم الثواب أو العقاب؛ ليس حبا مطلقا كما أشار «إيريك فروم» فى كتابه (فن الحب).. «لا بد أن هناك أبا يحبنى عندما أكون مطيعا؛ والذى يرتاح لثنائى ويغضب لعصياني».. وهذا ما لخصه «شكسبير» فى علاقة «لير» ببناته الثلاث، هو رجل دفعه الكبرياء والغطرسة فى الحصول على اعتراف منهن بالحب وبناء على الأكثرهن فصاحة وبلاغة فى ترتيب هذا الاعتراف بأشد العبارات زخرفة كان لها النصيب الأكبر فى ملكه العظيم؛ عجز الرجل عن الإيمان وتلقى الحب المطلق بل وعاقب ابنته الأنبل والأصدق على صدقها.. فلم يصل إلى حكمة هذا الحب إلا بعد تعرضه للنبذ والإقصاء ومحاولات الاغتيال للتخلص من هذه السلطة الأبوية المتسلطة والتمتع بالملك دون شريك؛ ثم يصور «شكسبير» نموذجًا آخر من حب الأب فى علاقة «جلوستر» بابنيه «إدموند» و«إديجار»؛ الأول كان ابنًا غير شرعى فاستحق من أبيه السخرية والاستهزاء، والآخر ابنًا شرعيًا فكان من وجهة نظر المجتمع والسلطة والقانون الأحق بحب أبيه وميراثه الشرعى؛ وبالتالى ينمو صراع آخر بين الأخوين وكأنه إعادة إحياء صراع الأخوة الأزلى «قابيل وهابيل».

يحمل هذا النص دلالات تشريحية كبيرة لأعماق النفس البشرية وللصراعات الإنسانية على مر العصور بدءا من الصراع والمنافسة بالحصول على أكبر مكافأة بمن سيحبه أبوه أكثر ويكافئه المكافأة الأكبر؛ ثم صراع الأخوة حول الميراث وشهوة السلطة والجنس اللتين اجتمعتا فى الأختين «جونريل» و«ريجان» فالأختان تتصارعان على الملك والفوز بالعشيق «إدموند» فى الفراش؛ وكذلك عقدة قتل الأب التى أشار إليها «فرويد» والتى اجتمعت لدى النموذجين فكلا الأبوين تعرضا لمحاولات قتل من أبنائهم؛ وقع «الفخرانى» فى غرام هذه الملحمة الإنسانية التى نسجها شكسبير منذ آلاف السنين؛ فبعيدا عن أى عيب فنى حملته أى من نسخ «لير» الثلاث يبقى مجرد إعادتها ببطلها الأصلى قيمة مضافة للمسرح والجمهور المصرى.