مفاوضات الدوحة وزيارة نتنياهو لواشنطن ترسم ملامح الساعات الحاسمة للقضية الفلسطينية
غزة بين المجاعة وأمل التهدئة

مروة الوجيه
تعيش مدينة غزة لحظات فارقة فى ظل تصاعد العمليات العسكرية والجهود الدبلوماسية المتسارعة فى وقت واحد، يمثل مشهدًا معقدًا تختلط فيه نيران المعارك مع خيوط الأمل.
فعلى وقع الضربات الجوية والمدفعية التى لم تهدأ منذ أسابيع، انطلقت فى الدوحة جولة جديدة من المفاوضات بين وفد حركة «حماس» وممثلين عن إسرائيل، بوساطة قطرية ومصرية، فى محاولة مستميتة لوقف حمام الدم المستمر.
ووسط دخان الحرب ودماء الأبرياء، يقف المشهد الفلسطينى فى غزة عند مفترق طرق حاسم قد يُفضى إلى هدنة مرتقبة طال انتظارها أو إلى جولة جديدة من العنف الذى لا يرحم... وبين مفاوضات الدوحة وزيارة بنيامين نتنياهو للبيت الأبيض وصواريخ الحوثيين التى طالت إسرائيل وحادث غلاف غزة الذى أسقط جنودًا لجيش الاحتلال، تتشابك الخيوط السياسية والعسكرية بالمنطقة ما يتطلب قراءة دقيقة وفهمًا عميقًا لما آلت إليه الأوضاع.
واشنطن تفتح الأبواب
زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو إلى البيت الأبيض ولقاؤه بالرئيس الأمريكى دونالد ترامب للمرة الثالثة جاءت فى توقيت بالغ الحساسية، لما تحمله من ملامح مرحلة جديدة فى الصراع أو ربما بداية لتفاهمات قد تفضى إلى وقف إطلاق النار.
ترامب بدوره صرّح عقب اللقاء قائلًا إن «هدنة فى غزة قد ترى النور خلال أسبوع»، معربًا عن تفاؤله بإمكانية الوصول إلى صيغة توافقية تنهى دوامة العنف الذى امتد وتمدّد، فيما يظل الحذر سيد الموقف، على النقيض أكد رئيس الوزراء الإسرائيلى أن جهود السلام تشترط إيجاد دول بديلة لاستقبال جزء من سكان غزة، وهو ما أثار جدلًا حول مستقبل سكان القطاع.
ووفق محللين فى مركز «كارنيجي» اعتبروا أن تصريحات ترامب تعكس رغبته فى إحراز تقدم دبلوماسى يحسب لإدارته قبل الانتخابات المقبلة، لكنهم حذروا فى الوقت ذاته من هشاشة الموقف الميدانى.
غارات إسرائيلية
وفى توقيت لا يخلو من رسائل سياسية مركبة، شنت إسرائيل غارات صاروخية على مواقع تابعة لجماعة الحوثيين فى اليمن، بالتزامن مع وجود نتنياهو فى واشنطن، الضربة التى اعتبرت إشارة صارخة إلى أن إسرائيل بصدد إعادة رسم قواعد الاشتباك فى الإقليم، لم تكن سوى رسالة مزدوجة لحلفاء إيران، مفادها أن الحرب الدائرة لا تنحصر فى حدود غزة وحدها، بل قد تتوسع لتشمل أطرافًا أخرى، فى لحظة هى الأخطر منذ سنوات.
يرى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، أن هذا التطور يسلط الضوء على تحول النزاع الفلسطينى الإسرائيلى إلى صراع إقليمى متعدد الجبهات، مما يعقد جهود التهدئة، لكن الدراما الدموية لم تتوقف عند حدود التصعيد الإقليمى، بل امتدت لتشهد غزة حادثتين مساء الاثنين حين استهدفت كتائب القسام وحدة إسرائيلية فى «غلاف غزة»، ما أسفر عن مقتل وإصابة عدد من الجنود الإسرائيليين.
الحادث الذى وقع بينما كان الحديث عن وقف إطلاق النار يكتسب زخمًا، جاء كصفعة أعادت التوتر إلى ذروته، مؤكدة أن الميدان لا يعرف انتظار الطاولة ولا يعترف بتفاؤل السياسيين، وصفه معهد «راند» للأبحاث بأنه «تصعيد تقنى محسوب»، أعاد المخاوف من انهيار المحادثات الوليدة فى الدوحة.
الصراع فى إسرائيل
فى الداخل الإسرائيلى، تتسع الهوة بين معسكر الحكومة والمعارضة بشأن مستقبل الحرب ومفاوضات التهدئة، وزير الأمن القومى المتطرف إيتمار بن غفير، الذى يمثل التيار الأكثر تشددًا، عبر مجددًا عن رفضه القاطع لأى تهدئة مع «حماس»، داعيًا إلى مواصلة العمليات العسكرية حتى «سحق» المقاومة الفلسطينية، بن غفير ومن خلفه اليمين الإسرائيلى المتشدد يرون فى التهدئة ضعفًا واستسلامًا، بينما يرفعون شعار «الأمن أولًا» حتى لو دفع الفلسطينيون الثمن.
وفى المقابل، تقف المعارضة الإسرائيلية وعلى رأسها يائير لابيد وبينى جانتس فى صف أكثر براجماتية وعقلانية، إذ يدعم هؤلاء مسار المفاوضات وضرورة التوصل إلى تهدئة شاملة، ليس فقط لوقف نزيف الدم، بل أيضًا استجابة للضغوط الشعبية المتزايدة من عائلات الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى «حماس»، هؤلاء الأهالى الذين خرجوا فى مظاهرات ضخمة بتل أبيب ومدن أخرى، رفعوا لافتات كتب عليها: «نريد أبناءنا أحياء»، مطالبين بوقف الحرب مهما كان الثمن.
الحراك الشعبى الإسرائيلى، الذى أخذ زخمًا غير مسبوق فى الأيام الماضية، بات يمثل صداعًا للحكومة التى تجد نفسها أمام معضلة: كيف تحقق أهدافها العسكرية المعلنة دون أن تعرض حياة الأسرى للخطر؟ وكيف توازن بين ضغوط الداخل ومطالب الحلفاء وبين واقع ميدانى يزداد تعقيدًا؟
مركز «بيجن-السادات للدراسات الاستراتيجية» أشار إلى أن حكومة نتنياهو تواجه معضلة حقيقية بين التصعيد وتلبية مطالب الشارع الإسرائيلى، خصوصًا مع مظاهرات أهالى الأسرى التى باتت تمثل عبئًا شعبيًا متزايدًا.
الوساطة المصرية-القطرية
وخلال هذا التوقيت، تلعب القاهرة والدوحة دوريهما كوسطاء فاعلين يحاولان بشتى السبل تقريب وجهات النظر، مصر بثقلها الإقليمى وعلاقاتها التاريخية بغزة وإسرائيل، تواصل اتصالاتها الأمنية والدبلوماسية، بينما تضع قطر كل أوراقها السياسية والمالية على الطاولة فى محاولة لإحياء أمل التهدئة.
الطرفان يعلمان جيدًا أن أى انزلاق نحو حرب موسعة لن يكون فى مصلحة أى من اللاعبين، بل سيدفع المنطقة بأسرها إلى مرحلة من عدم الاستقرار المفتوح، المفاوضات حسب مصادر فى الأمم المتحدة تشهد تقدمًا بطيئًا لكن ملموسًا.
حماس
على الجانب الفلسطينى، تبدو «حماس» ثابتة على مواقفها، لا وقف لإطلاق النار دون ضمانات حقيقية تتضمن وقف العدوان، رفع الحصار، دخول المساعدات الإنسانية، وترتيبات واضحة لصفقة تبادل المحتجزين ومع ذلك، أشارت مصادر مطلعة على مسار مفاوضات الدوحة إلى حدوث تقدم نسبى لكنه هش، مع استمرار الخلاف حول التفاصيل الدقيقة والضمانات الدولية.
محللون فى مركز «تشاتام هاوس» أشاروا إلى أن حماس تسعى لتحقيق مكاسب إنسانية وسياسية دون التفريط بموقعها العسكرى، ما يجعل أى صفقة تتطلب توازنات دقيقة.
خبير الصراعات فى كلية بوسطن، بيتر كراوس قال: «إن من منظور حماس، المحتجزون هم ورقتها الوحيدة؛ وإذا حررتهم فستطالب بضمان وقف دائم للحرب.. ومن منظور إسرائيل، فالغرض هو ضغط مؤقت لاستعادة المحتجزين، على أن تستأنف العمليات لاحقًا».
ترامب بين الإنجاز والهاوية
فى هذه الأثناء، يواصل الرئيس الأمريكى دونالد ترامب الضغط خلف الكواليس لتسجيل إنجاز خارجى بارز يدعم وضعه الداخلى فى فترة تعانى فيها إدارته من انقسامات حادة، يدرك أن أى نجاح فى تثبيت تهدئة بين إسرائيل وحماس ينظر إليه كإنجاز دبلوماسى يعزز حضوره على المسرح العالمى وفى ذات الوقت لا يغفل ترامب أن أى فشل أو تصعيد قد يحسب عليه كرئيس عاجز عن احتواء واحدة من أخطر الأزمات فى الشرق الأوسط.
الهدنة الأخيرة
فى الخلفية القاتمة لهذه الأحداث، يبقى المدنيون الفلسطينيون فى غزة يدفعون الثمن الأغلى. المستشفيات تعانى من نقص كارثى فى الأدوية والمستلزمات الطبية، فيما تتكدس جثث الشهداء والجرحى وسط أنقاض المبانى المدمرة.
المشهد الإنسانى بات يثير قلقًا متصاعدًا فى العواصم الغربية، حيث دعت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى إلى وقف فورى للعنف والسماح بدخول المساعدات الإنسانية دون قيود، ولكن يبقى السؤال الآن هل تكون هذه الهدنة حقيقية لوقف نزيف الحرب؟ وهل ستكون الهدنة الأخيرة؟
المحلل العسكرى عاموس هرئيل كتب فى «هآرتس» أوضح أن أى تهدئة ستكون مؤقتة بطبيعتها ما لم تعالج جذور النزاع وفى تحليله لمركز «Chatham House»، يشير نيل كيليام إلى أن الانخراط الأمريكى المباشر فى محادثات مع حماس «يعكس تآكل الثقة بإسرائيل وقدرة الوسطاء التقليديين على إدارة الأزمة».
فيما اعتبر أندرياس كريج من «King’s College London» أن حماس تستفيد من هذا الانخراط الذى «يمنحها شرعية دولية غير مسبوقة».
وتؤكد ميراف زونشتاين من «International Crisis Group» أن «أى اتفاق سيبقى هشًا ما لم يشمل تعهدات دولية حقيقية لوقف العمليات العسكرية مستقبلًا».
وأخيرًا، فقد شهدت الأيام الماضية تحركات دولية غير معلنة، وسط معلومات عن اتصالات سرية بين أطراف إقليمية ودولية تهدف إلى ضمان وقف إطلاق النار وتثبيت حالة من الاستقرار المؤقت، لكن تبقى الخشية قائمة من انهيار كل شيء بلحظة خاطفة تعيد العنف إلى المربع الأول.
التطور النوعى هذه المرة يتمثل فى تشابك الأزمات: تصعيد غزة، الضربة على الحوثيين، مفاوضات المحتجزين، التوتر مع إيران، وضغوط الرأى العام الإسرائيلى، كلها خيوط متشابكة تجعل من أى تهدئة مشروعًا هشًا لا يضمن أحد صموده.
وفى قلب هذا المشهد الغارق فى الدم، تظل القاهرة والدوحة ممسكتين بخيوط دقيقة بين الأمل واليأس، فيما تترقب العيون جميعًا نتائج ساعات قد تعيد رسم خريطة الصراع فى غزة وربما أبعد من غزة..!