رغم نجاح «واشنطن» فى دبلوماسية المعادن مع «كييف» اتفاقية.. ولكن!

آلاء شوقى
كان يوم 30 أبريل الماضى بمثابة مرحلة مفصلية دخلتها العلاقات الأمريكية - الأوكرانية، بعد أن وقعت «واشنطن» اتفاقيةً للطاقة والمعادن مع «كييف»، تُنشئ بموجبها صندوق استثمار مشتركًا بين البلدين، من ِشأنه أن يدعم تعافى «أوكرانيا» الاقتصادى بعد الحرب الروسية.
وتُعد الاتفاقية -الموقعة حديثًا- خطوةً إيجابيةً فى العلاقات بين البلدين عقب اجتماعاتٍ مثيرة للجدل بين الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب»، ونظيره الأوكرانى «فولوديمير زيلينسكى».
وخلال إعلان الاتفاق، قال وزير الخزانة الأمريكى «سكوت بيسنت»، إن: «الاتفاق يُظهر لروسيا أن «ترامب»، وإدارته ملتزمان بعملية سلام، تتمحور حول «أوكرانيا» حرة، وذات سيادة، ومزدهرة على المدى الطويل»؛ مضيفًا إن الرئيس الأمريكى سعى لهذه الشراكة، لإظهار التزام الجانبين بالسلام الدائم، والازدهار فى «أوكرانيا».
ورغم احتفاء الصحف الغربية ووسائل الإعلام بهذا الحدث؛ فإن هذا الاتفاق يحمل فى طياته الكثير، الذى قد لا يصب فى مصلحة «أوكرانيا» بالقدر الذى تحلم به؛ بينما قد تتفاجأ «الولايات المتحدة» -التى تعتبر نفسها منتصرًا فى دبلوماسية المعادن- بوجود عدة عراقيل أمامها.
ومع ذلك، تعتبر الاتفاقية على نطاق واسع خطوة فى تحريك المياه الراكدة، وربما تهدئة لحدة التوترات بين البلدين.
أبرز تفاصيل الاتفاق
ينص الاتفاق -بشكل أساسي- على إنشاء صندوق مشترك بين «الولايات المتحدة»، و«أوكرانيا»، وهو صندوق استثمار إعادة الإعمار الأمريكى الأوكرانى، من أجل الاستثمار فى الانتعاش الاقتصادى المستقبلى لأوكرانيا والاستفادة منه.
ومن المفترض، أن تقدم «واشنطن» دعمًا ماليًا، وعسكريًا جديدًا لكييف، من خلال الاستثمار العام والخاص فى الموارد المعدنية لأوكرانيا، بما فى ذلك: المعادن الأساسية، والمعادن النادرة، والنفط والغاز، بالإضافة إلى البنية التحتية ذات الصلة.
فى المقابل، ستساهم «أوكرانيا» بنسبة 50 % من الإيرادات المستقبلية من التراخيص الصادرة حديثًا للتنقيب عن المعادن الأساسية، والنفط، والغاز فى أراضيها.
بصورة أوضح، تتيح الاتفاقية فرصًا للمستثمرين الأمريكيين -بدعم من الحكومة الأمريكية- فور ضمان سيادة «أوكرانيا»؛ إلا أنه أمر يعتمد على وقف «روسيا» لهجومها على أراضيها.
اتفاق يصب فى صالح (أمريكا أولًا)
كان التساؤل الأبرز الذى تصدر المشهد خلال الفترة الماضية، يدور حول اهتمام وإصرار «ترامب» على الحصول على معادن «أوكرانيا»، ولعل الإجابة عن هذا التساؤل تكمن فى اتجاهين أساسيين، الأول هى المعادن النادرة فى الأراضى الأوكرانية والتى تدخل فى صناعات هامة تأتى فى إطار التنافس الاقتصادى مع الصين؛ والاتجاه الآخر فى فكر «ترامب» نفسه الذى يتمحور -فى الأساس- حول جنى أكبر قدر من المكاسب.
وفيما يخص أهمية معادن «أوكرانيا»؛ فقد دفع التنافس الجيوسياسى بين «الولايات المتحدة»، و«الصين» -القائم على الاستحواذ على المعادنَ الحيوية- «واشنطن» على تغيير صميم أجندة الأمن القومى الأمريكي؛ خاصة بعد أن اكتشفت «الولايات المتحدة» أنها تعانى من نقطة ضعف تتمثل فى الاعتماد على «الصين»، من أجل توفير العديد من المعادن الحيوية والعناصر الأرضية النادرة المستخدمة فى التقنيات الحديثة، بما فى ذلك: أنظمة الدفاع المتقدمة، والفضاء، والطاقة المتجددة، والتصنيع.
والأسوأ من ذلك، أن «بكين» عرفت كيف تستغل هذه الهيمنة كسلاح فى سياق الحرب التجارية الحالية بينهما، وكيف تستخدمها -أيضًا- فى الرد على ضوابط التصدير الأمريكية على تقنيات، مثل: أشباه الموصلات المتقدمة، التى تستخدم فى صناعات تكنولوجية حديثة ومتقدمة، بعضها يدخل فى صناعة السلاح.
وعليه، يمكن لاحتياطيات «أوكرانيا» الهائلة من المعادن الأساسية، والعناصر الأرضية النادرة، أن تُوفر سلسلة إمداد مستقبلية آمنة للعديد من المواد التى تحتاجها «الولايات المتحدة».
وفى هذا الصدد، أفادت هيئة المسح الجيولوجى الأوكرانية بأن البلاد تمتلك رواسب معدنية حيوية هائلة غير مستغلة؛ وتشمل هذه المعادن كلًا من: (التيتانيوم، والليثيوم، والجرافيت، والنيكل، والكوبالت)، وهى معادن تُعتبر أساسية للتقنيات الناشئة.
على صعيد آخر، إن الاستحواذ الأمريكى على معادن «أوكرانيا» النادرة، ليس المكسب الوحيد، إذ يتمحور نهج الرئيس «ترامب» (أمريكا أولًا)، حول حصول «الولايات المتحدة» على صفقة أفضل، مقابل المساعدات الأمنية، التى تقدمها لحلفائها وشركائها، بما فى ذلك «أوكرانيا»، والتى قد تكون مجرد فتات مقارنة مع المساعدات التى قدمت خلال إدارات أمريكية سابقة.
فعندما تولى «ترامب» كرسى (البيت الأبيض) فى يناير الماضى، أوضح أنه يعتبر الدعم والمساعدات العسكرية استنزافًا صفريًا لموارد «الولايات المتحدة»؛ وهو ما لا يتماشى -أبدًا- مع عقلية رجل الأعمال.
وانطلاقًا من فكر «ترامب»، فإن إدارته تسعى إلى استرداد أى دعم مستقبلى، حتى لو استغرق الأمر سنوات، وهو ما أشار إليه الرئيس الأمريكى فى اجتماع وزارى، حينما قال إن «الولايات المتحدة» ستتمكن من استرداد الأموال التى تنفقها على دفاع «أوكرانيا» من خلال هذا الاتفاق الجديد.
كما قال «ترامب»: «لم أُرِد عقد صفقة مُعقّدة، وهى تُسمّى (المعادن النادرة) لسبب وجيه، لأن لدى «أوكرانيا» الكثير منها، وعقدنا صفقةً تضمن أموالنا، حيث يُمكننا البدء بالتنقيب، والقيام بما يجب علينا فعله».
ليس انتصارًا أوكرانيًا
فى الوقت الذى احتفت فيه الصحف بأن الاتفاقية الأمريكية - الأوكرانية كانت دفعة إيجابية فى علاقات البلدين التى تدهورت فى الآونة الأخيرة، إلا أنه فى حقيقة الأمر، اعتبر العديد من المحللين السياسيين أن هذا الاتفاق ليس انتصارًا بمعنى الكلمة لأوكرانيا.
لا يتضمن الاتفاق أى ضمانات أمنية أمريكية صريحة لأوكرانيا، رغم أن «كييف» جعلت هذا المطلب أولوية خلال المفاوضات؛ كما لا يُلزم الاتفاق «الولايات المتحدة» بتقديم المزيد من المساعدات العسكرية.
إن الضمانات الأمنية التى كانت تضعها «أوكرانيا» كشرط مقابل المعادن النادرة، هى ما يفسر توتر العلاقات بين البلدين، كما تفسر -أيضًا- السبب وراء مدة المفاوضات الطويلة، حيث كانت نية «كييف» أن تطرح صفقة تُعوّض دافعى الضرائب الأمريكيين عن دعمهم، وتجعل الدفاع عن الأراضى الأوكرانية أمرًا يستحق عناء «ترامب»، من خلال توفير الوصول إلى مواردها، والسماح بتطويرها؛ وهى النية -وفق المحللين السياسيين- التى كانت تطرح فى وقت سابق؛ والتى على أثرها تم إلغاء الاجتماع الكارثى بين الرئيسين «زيلينسكي» و«ترامب» فى المكتب البيضاوى فى فبراير الماضي؛ ثم أوقف بعدها الرئيس الأمريكى المساعدات العسكرية، وتبادل المعلومات الاستخباراتية مؤقتًا، مرسلًا إشارة قوية إلى «أوكرانيا والعالم، حول من يملك زمام الأمور.
ومع ذلك، استمرت المفاوضات الفنية الهادئة ذهابًا وإيابًا على مدار الأسابيع التى تلت ذلك، من أجل الوصول إلى ما كان فى جوهره الاتفاق الأصلى.
قائمة تحديات طويلة
إن توقيع الاتفاق بين الجانب الأمريكى والأوكرانى ليس نهاية سعيدة تهدئ من وطأة التوترات بين البلدين؛ بل هى مجرد فتح باب أمام وابل من التحديات التى تقع على عاتق الجانبين، وعلى رأسها استمرار الحرب الروسية.
فبعد ساعات قليلة من توقيع «واشنطن»، و«كييف» للاتفاقية، استهدفت سلسلة من الضربات الصاروخية الروسية مباني سكنية فى «أوديسا»، مما أسفر عن سقوط ضحايا وإصابات، والتى قد تُعوق استثمارات القطاع الخاص.
ومع ذلك، لا يعد استمرار الحرب الروسية الأوكرانية هو التحدى الوحيد - حتى وإن كان الأهم- إذ يقال إن أغنى مناطق «أوكرانيا» التى تتمتع الموارد والمعادن تقع فى المنطقة الشرقية من البلاد، وهى جزء كبير من المنطقة الخاضعة حاليًا للسيطرة الروسية؛ كما يقع اثنان من احتياطيات الليثيوم الأربعة فى «أوكرانيا» على أراضٍ تحت السيطرة الروسية أيضًا.
وعليه، فإنه فى ظل غياب سلام دائم فى «أوكرانيا»، أو دعم مُلتزم للدفاع عن الأصول، سيكون الوضع الأمنى فى البلاد غير مستقر بما يكفى لإنشاء منجم، وجميع البنى التحتية الداعمة له، وهو ما يحول دون استثمار طويل الأجل.. ففى المتوسط، يستغرق تطوير منجم عالمى نحو 18 عامًا، ويتطلب استثمارًا يتراوح بين 500 مليون دولار ومليار دولار أمريكى، من أجل بناء كلٍّ من المنجم ومنشأة الفصل.
وبشكل عام، لا تقف قائمة التحديات بالنسبة للجانبين عند هذا الحد، فيضاف إليها كل من تحديات: (عوائق المسوحات الجيولوجية القديمة، والبنية التحتية المتدهورة للطاقة، والنقص الكبير فى البيانات المتاحة حول حجم الموارد وأماكنها)، ما يُعوق حشد الاستثمارات فى مجالى الاستكشاف والإنتاج.
فيعود تاريخ رسم الخرائط الجيولوجية الحالية إلى ما بين 30 و60 عامًا، أجراها «الاتحاد السوفيتي» باستخدام تقنيات استكشاف قديمة؛ وهو ما أشار إليه الرئيس السابق لهيئة المسح الجيولوجى الأوكرانية؛ مؤكدًا عدم وجود تقييم حديث لاحتياطيات «أوكرانيا» من المعادن الأرضية النادرة.
أما على صعيد البنى التحتية، فلا شك أنها تعرضت لضرر حسيم، جراء تواصل الحرب.. فبين عامى 2022 و2023، فُقد ما يقرب من نصف قدرة «أوكرانيا» على توليد الكهرباء، بسبب الحرب والدمار والأضرار، وتعرّض نحو 50 % من محطات الكهرباء الرئيسية فى البلاد لهجمات صاروخية وطائرات مُسيّرة.
ونتيجةً لذلك، لا تمتلك «أوكرانيا» -الآن- سوى نحو ثلث قدرتها الكهربائية قبل الحرب. وستكون إعادة بناء البنية التحتية للطاقة بشكل كبير أمرًا ضروريًا قبل بدء استكشاف المعادن أو إنتاجها.
فى النهاية، يمكن القول إن الاتفاق بعد خطوة إيجابية فى تهدئة العلاقات «الولايات المتحدة»، و«أوكرانيا» بعد مرحلة متدهورة أصابت البلدين منذ تولى «ترامب» الرئاسة الأمريكية؛ إلا أنها -فى الوقت ذاته- لا تصب -حاليًا- فى مصلحة البلدين، لأنها لن تأتى إلا بعد انتهاء الحرب، وحل قائمة التحديات الطويلة ما قد يستغرق أعوامًا.