
هاني لبيب
مصر اولا.. قناة السويس.. رمز السيادة الوطنية المصرية.. لا.. للمرور المجانى والمساومة والاستثناء والضغوط..
دبلوماسية الابتزاز.. العولمة الأمريكية تحت ستار الإعفاء!
منذ بداية ولايته الثانية، يثير الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، بين الحين والآخر، عاصفة من الجدل والسجال كالمعتاد، حيث كتب بشكل مفاجئ خلال الأيام الأخيرة لشهر أبريل 2025 على منصة «تروث سوشيال» أنه (يجب السماح للسفن الأمريكية العسكرية والتجارية على حد سواء بالمرور مجاناً عبرهما. هاتان القناتان ما كانتا لتوجدا لولا الولايات المتحدة الأمريكية). فى إشارة إلى قناة السويس وقناة بنما.. واستند ترامب إلى منطق غريب ومريب، يخلط فيه بين قناة بنما ودور بلاده فيها، وبين قناة السويس التى لا علاقة له بها نهائياً.. حينما استند لفكرة أنه ما كان لهما أن يكون لهما وجود لولا تدخلات الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما اعتبره مبرراً لطلبه بالإعفاء من الرسوم.
هذا التصريح غير المنطقى يستدعى من قرون ماضية الصراع حول السيادة والملاحة، ويفتح مسارًا لتحليل الأبعاد القانونية والسياسية والاقتصادية المرتكزة على المعلومات الدقيقة لقناة السويس باعتبارها واحدة من أهم الممرات المائية والبحرية فى العالم.
قناة ذات سيادة
تخضع قناة السويس لاتفاقية القسطنطينية لسنة 1888، وهى اتفاقية دولية تنص على:
(حرية الملاحة فى القناة لجميع السفن التجارية والعسكرية دون تمييز فى الجنسية، سواء فى وقت السلم أو الحرب. وعدم جواز فرض قيود على السفن العابرة إلا فى حالات محدودة مثل السلامة الملاحية أو الأمن القومى لمصر). وهى عبارات متميزة بسبب صياغتها المتقدمة والمحكمة. كما أنها لم تمنع مصر من فرض رسوم على عبور السفن، بل واعترفت ضمنياً بحق مصر كدولة مالكة فى تنظيم وإدارة الملاحة فيها بما لا يتعارض مع حرية المرور.
أصبحت السيادة المصرية على القناة مطلقة من الجانب القانونى بعد تأميم قناة السويس سنة 1956، حيث استند الرئيس جمال عبدالناصر على مبدأ حق تقرير المصير وحقوق الشعوب فى مواردها، وهى المبادئ التى نص عليها القانون الدولى وعزَّزها لاحقاً بشكل موسع. وحالياً، تدار القناة من خلال هيئة قناة السويس، وهى هيئة مصرية ذات سيادة، وتمتلك السلطة الكاملة عليها بتحديد قيمة رسوم العبور والإدارة الاستراتيجية والتقنية والتنفيذية لها.
ملكية قناة السويس
يعتبر المواطن المصرى رمزياً قناة السويس هى ملكية تامة للشعب المصرى. وفعلياً هى مملوكة بالكامل للدولة المصرية. وتتم إدارتها منذ التأميم بقرارات سيادية مصرية، رغم كافة الضغوط والمناورات الدولية المستمرة. حاول بعض من القوى العالمية خلال القرن الماضى انتزاع السيطرة عليها أو الحصول على امتيازات خاصة، وفى مقدمة تلك القوى، كل من: بريطانيا وفرنسا. غير أن مصر استطاعت الحفاظ على السيادة المطلقة لقناة السويس.. مستندة على مرجعية الإرادة الشعبية والدعم الأفريقى والعربى المقدر.
أطماع تاريخية
الجدير بالملاحظة التاريخية، أن الأطماع الأجنبية فى قناة السويس لم تتوقف منذ إنشائها. وكانت دائماً هى الذريعة.. بداية من الاحتلال البريطانى لمصر سنة 1882، ومروراً بتحالف العدوان الثلاثى (الأمريكى– البريطانى– الفرنسى) سنة 1956، وصولاً إلى ما يحدث اليوم بنيولوك سياسى جديد تحت مفاهيم «الحقوق الاستراتيجية» و«الدور الحمائى» لقناة السويس حسبما يزعم الرئيس الأمريكى ترامب.. زوراً وبهتاناً.
والملاحظ أنها الحجة نفسها التى تم استخدامها سابقاً من خلال الدول الاستعمارية. وهو ما يرتبط بخطابات الغرب من خلال قادته ورؤسائه. كأنه يتم استدعاء الاستعمار تاريخياً من خلال غطرسة القوى الأمريكية الآن.
من خلال العولمة حسب المفهوم الأمريكى البراجماتى الذى يستخدم مصطلحات خادعة وغير مباشرة على غرار: الشراكة والحقوق التاريخية.
الجماعة الإرهابية تبيع القناة
تم طرح مشروع تنمية إقليم قناة السويس خلال فترة وصول جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية لحكم مصر بين 2012 و2013. وتم الترويج له باعتباره مشروعاً طموحاً.. يستهدف إنشاء مناطق صناعية وتجارية حرة حول القناة. لكن تبين حقيقة الأمر، وتم كشف أهدافه غير المعلنة التى تمنح امتيازات خفية لدول أجنبية على القناة. وفى المقابل، يتواكب مع ذلك تقليص السيادة الوطنية على القناة للحصول على الدعم السياسى والاقتصادى. وهو ما جعل الدولة المصرية تتعامل مع تنمية قناة السويس وأولوياتها باعتبارها قضية أمن قومى لا جدال فيه أو عليه.
ليست مجرد ممر مائى
تعد قناة السويس أحد أهم الشرايين الحيوية العالمية، والتى يمر عبرها 12 % من التجارة العالمية، و25 % من الحاويات، وأكثر من 10 % من شحنات النفط والغاز المسال. وذلك لكونها تختصر مسافات تصل إلى حوالى 8000 كم بين قارتى آسيا وأوروبا.. مقارنة بطريق رأس الرجاء الصالح. ولذا من الطبيعى، أن تكون قناة السويس تمثل أحد أهم موارد الدخل القومى المصرى، وقد بلغت عائداتها سنة 2023 نحو 9.4 مليار دولار، رغم تراجعها فى 2024 إلى 4.3 مليار نتيجة هجمات الحوثيين على السفن بالبحر الأحمر.
إيفر جيفن
لا ينفصل الحديث عن قناة السويس عن ديناميكيات التجارة العالمية وسلاسل الإمداد الحيوية. ودليل ذلك ما حدث مع أزمة السفينة «إيفر جيفن» التى جنحت أثناء مرورها بقناة السويس سنة 2021، وأدت إلى تعطيل القناة لمدة ستة أيام فقط. وهو ما كلف الاقتصاد العالمى خسارة بلغت حوالى 9.6 مليار دولار يومياً، وفضحت هشاشة شبكات التوريد والإمداد. وهو ما يؤكد أن تكرار مثل هذه المخاطر بأشكالها المختلفة سواء بفعل القرصنة، أو بالتصعيدات العسكرية، أو باتخاذ سياسات عدائية مثل طلبات ترامب.. قد يتسبب فى أزمات عالمية.. يمتد تأثيرها السلبى على اقتصاديات كل دول العالم.
رغبات ترامب
من حيث القانون الدولى، لا يحق لأى دولة على مستوى العالم، مهما كانت قوتها وقدراتها، فرض إعفاء من قيمة الرسوم على ممر مائى، لا يقع ضمن سيادة مياهها الإقليمية أو تحت إدارتها المباشرة. وبالتالى، فإن طلب ترامب غير قانونى على كافة المستويات، ولا يتعدى كونه تصريحاً شعبياً.. يخاطب ويغازل فيه أتباعه ومواليه.. الذين يؤمنون بأحقية الولايات المتحدة الأمريكية فى السيطرة على العالم، وهى نزعات تكررت من قبل فى سياق سياسات غطرسة القوة بمفهوم «أمريكا أولاً».
والأصل أنه لا توجد استثناءات فى اتفاقية القسطنطينية تحديداً تمنح أى دولة حق العبور المجانى للقناة.
كما أن رسوم العبور تعتمد وفق نظام دولى معروف لفرضها بالتساوى بين جميع السفن. وتاريخياً، لم تمنح مصر إعفاءات مماثلة من قبل.. حتى خلال فترات التوتر السياسى، مثل عبور السفن الإسرائيلية رغم الجدل الشعبى.
أهداف خفية
الجدير بالرصد والتحليل فى تصريحات دونالد ترامب الاستفزازية أنها غالباً ما تتجاوز كلماتها إلى أهداف أخرى خفية وبعيدة ومستقبلية، وذلك لعدة أسباب:
1 - تنحصر جميعها بكل الأشكال فى إعادة إنتاج الدور الأمريكى عالمياً.. خاصة بعد تراجع نفوذه فى الشرق الأوسط خلال فترة الرئيس السابق جو بايدن.
2 - الضغط على مصر فى ملفات أخرى، مثل: ملف تهجير الشعب الفلسطينى من أرضه، وملف العلاقات السياسية والدبلوماسية والتجارية مع روسيا من جانب، ومع الصين وطريق الحرير من جانب آخر.
3 - تسويق خطاب سياسى قومى موجه للداخل الأمريكى، بدأه ترامب فى إطار حملته الرئاسية سنة 2024، وسيستمر معه خلال ولايته الثانية فى اطار استفادته من خبرة الولاية الأولى، ومن فترة حكم بايدن بعده.
4 - إفصاح ترامب عن طموحات وتوجهاته فى السيطرة على الممرات البحرية فى العالم.
مثل هذه التصريحات يمكن أن تمهد لخطوات عملية مستقبلية ترتبط بفرض ضغوط اقتصادية، أو تنفيذ مناورات عسكرية، أو دعم مشاريع نقل بديلة للقناة مثلما يروجون أحياناً.. بإنشاء خط سكة حديد إسرائيلى بين العقبة وحيفا، أو إنشاء الممر الهندي- الأوروبى الجديد عبر الإمارات والسعودية.
رد ثابت حذر
تتمسك الدولة المصرية بردود رسمية محسوبة، حيث شددت هيئة قناة السويس على أن مرور السفن والحاويات فى القناة.. تنظمه القوانين ويخضع للاتفاقيات الدولية، وتتم معاملة جميع السفن فيه.. بمعايير واحدة دون استثناء. وهو تصريح.. يحمل بين طياته.. إشارات واضحة للرفض الضمنى على أى مقترحات أمريكية أو غيرها.. تنتقص من السيادة الوطنية المصرى على قناة السويس. وهو ما يتواكب أيضاً مع سياسات مصر الحذرة والمحسوبة فى التعامل مع القوى الكبرى، التى دعمت ما يطلق عليه «ثورات الخريف العربى الأسود».
قناة السويس ممر مائى دولى خاضع للسيادة الوطنية الكاملة للدولة المصرية، وتصريحات الرئيس الأمريكى.. تعبر عن عدم فهم حقيقى لتوازنات معادلات القوى الدولية الآن، والتى لم يعد مقبولاً فيها أى شكل من أشكال ممارسة الامتيازات الاستعمارية. كما أن استمرار هذا الخطاب غير المنضبط.. سيكون له تداعيات وانعكاسات خطيرة فى مسار العلاقات الدولية بشكل عام، والعلاقات المصرية– الأمريكية بشكل خاص.
ماذا نفعل؟!
دون أدنى شك، فإن تصريحات ترامب عن قناة السويس ليست معزولة عن توجهاته السياسية خلال الفترة القادمة، وهى تعكس توجهاً استراتيجياً جديداً. إنها ليست مجرد كلمات، بل مؤشر حقيقى على تصور متجذر لدى البعض من صناع القرار الأمريكى بأن قوتهم ونفوذهم.. يمنحهم حق التدخل فى الشأن الداخلى للدول الأخرى بما فيها الملفات السيادية، مثل قناة السويس.
أرى أن هناك بعض السيناريوهات المستقبلية المتوقعة فى التعامل مع تصريحات دونالد ترامب الاستفزازية. وذلك على غرار:
أولاً: سيناريو المواجهة السياسية من خلال موقف مصرى دبلوماسى دولى حاسم وحاشد.. لأنه يمكن أن يتم استخدام طلب ترامب بإعفاء السفن التجارية والعسكرية من رسوم العبور.. ككارت ضغط دبلوماسى.. يربط فيه الإعفاء بالمساعدات العسكرية والاقتصادية لمصر.
ثانياً: سيناريو الضغط الاقتصادى الذى من المحتمل أن تستغله إدارة ترامب فى بسط نفوذها الاقتصادى لتقييد الاستثمارات الأوروبية والغربية فى مشروعات محور قناة السويس، مما ينتج عنه.. عرقلة خطط التنمية هناك.
ثالثاً: سيناريو تطوير بدائل النقل الذى يمكن أن تستغله إسرائيل أو أى من دول المنطقة حسب منظومة مصالحها المعلنة أو غير المعلنة فى الغالب.. لدعم مشاريع نقل بديلة تقلل الاعتماد على قناة السويس.
وهو ما يعنى أهمية ما قامت به الإدارة المصرية من استباق هذه التحركات.. بتوسيع القناة وتعميقها وتطويرها، وتعزيز الخدمات اللوجستية المحيطة بها.
رابعًا: سيناريو التصعيد السياسى والشعبى فى حالة.. تطور الخطاب الأمريكى تحديداً إلى تهديدات فعلية أو تحركات بحرية أمريكية دون ترتيب فى المنطقة.. خاصة أن قناة السويس فى وجدان الشعب المصرى.. هى رمز وطنى فائق الحساسية.
نقطة ومن أول السطر
ما زالت مصر تتمسك بالحرص على الدبلوماسية الهادئة والردع الاستراتيجى.. لحماية واحدة من أهم مكتسباتها الوطنية، ومصدر فخرها السياسى والاقتصادى والتاريخى.
قطعاً، ما طرحه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب.. يمثل نوعا من التجاوز والتعدى وتجاهل القوانين والمعاهدات والمواثيق الدولية. وعلينا أن نؤكد فى المحافل الدولية على احترام سيادة مصر الكاملة على قناة السويس. وتنظم لقاءات وفعاليات دولية للتأكيد على التزام مصر بحرية الملاحة دون إعفاءات غير قانونية. وتبنى تحالفات اقتصادية واستراتيجية مع الاتحاد الأوروبى والهند الصين بشكل خاص، باعتبارها من الدول الأكثر اعتماداً على القناة من جهة، ولكونها تمثل أحد اللاعبين الرئيسيين فى السياسة الدولية من جهة أخرى.