
أسامة سلامة
رسالة المسعف الشهيد
«سامحينى يامه.. هذا الطريق اللى اخترته لمساعدة الناس، والله ما اخترت هذا الطريق إلا لأجل مساعدة الناس.. سامحونا يا شباب، يا رب اكتبنى من الشهداء، يا رب إنى أتوب إليك وأستغفرك»، كانت هذه آخر كلمات نطق به أحد المسعفين الفلسطينيين الذين استشهدوا بقصف إسرائيلى متعمد وإطلاق الرصاص عليهم عندما كانوا فى طريقهم لإنقاذ شباب فلسطينيين أصيبوا فى الغارات الإسرائيلية على غزة، وهى الكلمات التى جاءت فى مقطع فيديو نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية منذ أيام، الواقعة تعود إلى يوم 23 مارس حيث قُتل 15 من المسعفين على يد قناصين إسرائيليين، ودفنوا فى قبر سطحى، واكتشف موظفون من الأمم المتحدة والهلال الأحمر الفلسطينى جثامينهم بعد أسبوع من استشهادهم، عندما عثروا على جثثهم مدفونة على بُعد مائتى متر من موقع سياراتهم المدمرة، وهم يرتدون الزى الرسمى البرتقالى المتعارف عليه دوليًا فى العمل الإغاثى، وكانوا مكبلى الأيدى والأرجل وتظهر على رؤوسهم وصدورهم علامات طلقات الرصاص، ما يعنى إعدامهم عن قرب بعد التعرف عليهم وعلى طبيعة عملهم وسبب وجودهم فى المنطقة، وقتها ادعت إسرائيل أن الجنود أطلقوا النار على مجموعة من السيارات المشتبه أن بها أفرادًا من حماس، لكن ما فضح الأكاذيب الإسرائيلية مقطع الفيديو الذى نشرته «نيويورك تايمز»، وتظهر فيه أضواء وعلامات الهلال الأحمر على سيارات المسعفين الشهداء، وظهر المسعفون وهم يرتدون الزى الرسمى المضىء والمعتمد عالميًا أثناء المهام الطارئة، كما ظهر فى الفيديو بشكل واضح الإضاءات الحمراء المتقطعة لسيارات الإسعاف بجانب إشارة الهلال الأحمر الفلسطينى التى طبعت فى أكثر من مكان على هذه السيارات، هذا الفيديو كان موجودًا على هاتف محمول لمسعف عُثر على جثته فى المقبرة الجماعية، وأخطر ما فيه صوت دوى رصاص إسرائيلى أطلق صوب رجال الإسعاف، حيث حاول فى حينه المسعف مصور الفيديو الاحتماء من الطلقات.
وفى نهاية المقطع المصور تردد صوت المسعف وهو يردد الشهادة ويرسل كلمات الاعتذار لأمه وللشباب الذين لم يستطع إنقاذهم، كلمات تعبر عن صمود شعب سيظل يحافظ على بقائه فى أرضه، الشهيد يطلب من أمه أن تسامحه فقد تركها واستشهد، وعبر عن أسفه لها فقد اختار طريقًا يعرف جيدًا أن نهايته هو موته، لكنه لم يتردد فى السير فيه، فقد أراد مساعدة الناس وإنقاذهم ولو على حساب حياته، واعتذاره للشباب كما جاء فى مقطع الفيديو لأنه لم يستطع إنقاذهم، وهو ما يحمل معنى المقاومة للشعب الفلسطينى، فمثله لا يستسلم، والشهداء المسعفون الذين كانوا معه يقولون من خلال واقعة استشهادهم: لن نترك أرضنا مهما كانت الظروف قاسية، كانوا يعلمون أنهم يعملون تحت الخطر ويدركون الخسة الإسرائيلية وأن جيش الاحتلال لن يتوانى عن قتلهم، ولكنهم لم يتراجعوا ولم يستسلموا، بل ظلوا يحاولون إنقاذ إخوانهم لأخر لحظة فى حياتهم، ولذلك فإن ما فعلوه واستشهادهم رسالة للعالم بأنهم صامدون وباقون فى أرضهم مهما كانت التضحيات، كلمات الشهيد المسعف تكشف أيضًا عن واحدة من أكبر جرائم إسرائيل فقد سبقت كلمات الاعتذار للأم وللشباب عبارة أخرى قال فيها الشهيد: «اجو اليهود اجو» فى إشارة إلى تقدم قوات الاحتلال نحوهم وتعمد قتلهم من مسافة قريبة.
وهو ما يشير إلى استهداف القوات الإسرائيلية للمسعفين الذين كانوا يسعون لإنقاذ الأرواح، وهى جريمة تضاف إلى جرائم إسرائيل فى عدوانها الغاشم على غزة، صحيح أن الجيش الإسرائيلى أقر بمقتل المسعفين بيد جنوده، وقال المتحدث الرسمى باسمه إن الرواية السابقة للجيش حول الحادثة بوجود أفراد من حماس فى السيارة «لم تكن دقيقة»، وأنها سيفتح تحقيقًا فى الواقعة، ولكن متى قالت إسرائيل الحقيقة أو قدمت المجرمين الحقيقيين للمحاكمة، الكل يعرف أن المجرم الحقيقى هو نتنياهو الذى أعطى أوامره بالإبادة الجماعية فى غزة، ويكفى أن عدد الشهداء الفلسطينيين وصل منذ أكتوبر 2023 حتى الآن إلى أكثر من 50 ألف شهيد بجانب 115338 مصابًا، ما حدث من قتل متعمد للمسعفين الـ15 هو استمرار لنفس الجرائم الإسرائيلية منذ 18 شهرا فى غزة، كلمات المسعف الشهيد فى الفيديو تكشف أيضا التخاذل الدولى عن إنقاذ الفلسطينيين من الإبادة الجماعية التى يقوم بها الجيش الإسرائيلى، حيث تكتفى الأمم المتحدة ومجلس الأمن بالكلام والشجب والإدانة دون تحرك حقيقى لوقف المذبحة، فقد عقد مجلس الأمن جلسة حول ما يحدث فى غزة وناقش خلالها جريمة قتل المسعفين واكتفى أعضاؤه بالكلام والشجب والإدانة دون اتخاذ أى إجراء جاد لوقف العدوان الغاشم على غزة، كلمات المسعف بمثابة رسالة إلى العالم كشفت الجريمة الإسرائيلية والتخاذل الدولى وأكدت على الصمود الفلسطينى.