يكشف رؤية الجيل الثالث فى «بيت المداحين»: محمود التهامى: حوَّلت الإنشاد لـ«براند» ينافس الموسيقى التجارية

ياسمين علاء
ربما يكون النجاح صعبًا إذا كان والدك أحد نجوم مجالك، على عكس ما يتصور البعض. يدفعك ذلك لتسأل نفسك يوميًا: ماذا سأقدم لأكون مختلفًا؟.
لكن فى نفس الوقت يكون مشواره إرثًا كبيرًا.. تستفيد منه وتتحمل أعباءه.. وفى «كار» الإنشاد والمداحين يبدو الموضوع أكثر صعوبة.
ذهبنا إلى المنشد محمود التهامى، رئيس نقابة العاملين بالإنشاد الدينى.. لنتعرف منه على تفاصيل ماضيه، وهو سليل بيت التهامى وامتداده.. وعن حاضره وقد استطاع أن يحفر لنفسه اسمًا فى المسارح والساحات؛ أصبح الناس يطلبون «التهامى الصغير» باعتباره ممثلاً للجيل الثالث فى بيت المداحين.. كما نسأله عن رؤيته مستقبل الإنشاد كونه النقيب..
إلى نص الحوار:
كيف كانت رحلتك الأولى مع الإنشاد؟ وما اللحظة التى شعرت فيها بأنك ستكمل حياتك فى هذا المجال؟
- رحلتى بدأت منذ الطفولة، فقد نشأت فى بيت مُحب للإنشاد، بين أهل القرآن وحلقات الذكر. بجوار والدى الشيخ ياسين التهامى، المنشد المعروف، وجدى العارف بالله الشيخ التهامى، وعمى الشيخ الجميل كان يُقيم حضرات صوفية فى المنزل. منذ نعومة أظافرى كنت حافظًا للقرآن، وأستمع إلى الذكر والتواشيح والحزب الرفاعى والحزب الشاذلى. كما كنت أؤذّن منذ سن الخامسة، وأُنشد فى المعهد والمدرسة، وأقيم الحفلات.
فى عمر الحادية عشرة، بدأت أُحيى الحفلات وأُدعى للمشاركة فى الموالد والليالى. وأكثر ما ميزنى، بفضل الله، أننى لم أكن أهاب الجمهور على الإطلاق، بل كان الجمهور يمنحنى حافزًا قويًا. كانت هذه بدايتى فى الإنشاد، ثم انتقلت إلى القاهرة لتعلم المزيد، وبدأت لاحقًا دراسة الموسيقى الشرقية والغربية، ودرست التأليف الموسيقى. وقد أفادنى كل ما تعلمته لاحقًا بشكل كبير، حتى أصبحت، بفضل الله، واحدًا من أهم ملحّنى الإنشاد خلال العشرين عامًا الأخيرة.
بعيدًا عن الأضواء، كيف يقضى محمود التهامى يومه العادى؟
- يومى يسير بنمط منتظم؛ فأعود من حفلتى مساءً، وأنتظر حتى صلاة الفجر، ثم أراجع وِردى من القرآن الكريم، وبعد ذلك أنام ساعتين. أستيقظ عند السابعة أو الثامنة صباحًا، وأذهب إلى النادى لممارسة تدريبات السباحة يومًا بعد يوم. ثم أعود إلى المنزل لإنهاء بعض أعمالى، وأغفو بعد أذان الظهر حتى العصر. بعدها، أذهب إلى حفلتى أو إلى الاستوديو، إلا إذا كان لديّ فى أحد الأيام مدرسة إنشاد، ففى هذه الحالة لا أنام، بل أتجه مباشرة من الجيم إلى المدرسة، ثم إلى الحفلة أو الاستوديو.
أما فى الأيام التى لا أذهب فيها إلى النادى، فأستيقظ فى السابعة صباحًا، وأخصص وقتى حتى الثانية عشرة ظهرًا للمذاكرة، حيث أراجع الشعر العربى، والنحو، والصرف، والبلاغة، وأحفظ الأدب، وأطّلع على التراث الذى أعمل عليه. ثم أستريح لمدة ساعتين حتى العصر، وبعدها أواصل متابعة أعمالى.
مع تطور الموسيقى واختلاف الذوق العام، كيف استطاع محمود التهامى تجديد الإنشاد دون أن يفقد أصالته؟
- دراستى للإنشاد، واستماعى لكل ما يخص الموسيقى على المستويين المحلى والعالمى، ومتابعتى للتطور الموسيقى داخل مصر وخارجها، بالإضافة إلى دراستى للهندسة الصوتية وحضورى كورسات فى الإخراج والتصوير، كلها عوامل ساعدتنى على معرفة كيفية تطوير الإنشاد دون أن يفقد هويته. فلو ظل الإنشاد كما كان فى السابق، لانقرض اليوم، لكننى، بفضل الله، أنشأت مدرسة للإنشاد تخرج منها أكثر من خمسة آلاف منشد، منهم من التحق بالإذاعة والإعلام، ومنهم من سافر للخارج وشارك فى مسابقات عالمية ومحلية، وحصل على جوائز، وكون فرقًا، وأصبح من أهم المنشدين الشباب على الساحة الفنية.
الفكرة هى أننى استطعت إدخال الإنشاد فى مجالات جديدة، مثل الدراما، وجعلته جزءًا من الموسيقى المنافسة. كما قدمت مشروعًا مشتركًا مع الفنان فتحى سلامة بعنوان «الصوفية والحداثة وعلاقة الإنشاد والارتجال بموسيقى الجاز». ومؤخرًا، حققت نجاحًا كبيرًا بأغنية مع فرقة «مسار إجبارى»، كما شاركت فى عمل عالمى تحت عنوان «السيمفونية الثلاثية»، وهو إنتاج مشترك لمجموعة أبوظبى للثقافة والفنون ومهرجان أبوظبى، بالتعاون مع المؤلفين الموسيقيين العالميين جونى ديبنى، وديفيد شاير، وإيهاب درويش من الإمارات، وروبرت ينسون المنتج الموسيقى فى هوليوود.
بالإضافة إلى ذلك، قدمت العديد من المشاركات الدولية التى لاقت صدى واسعًا، مثل مهرجان أبوظبى، حيث نحرص كل عام على تحديث المنظومة الفنية. كما أطلقنا مشروع «اللغة العربية الفصحى بموسيقى عالمية»، ونظمنا أول حفل إنشادى فى الأهرامات، وأول حفل إنشادى فى متحف اللوفر بأبوظبى، إلى جانب العديد من الحفلات فى أوروبا وهولندا، ولا تزال هناك جولات أخرى فى أوروبا وأمريكا بعد العيد الصغير والعيد الكبير.
هل ترى أن الإنشاد الصوفى يمكن أن ينافس الموسيقى التجارية اليوم؟ وما التحديات التى تواجهه فى هذا الزمن؟
- المفارقة أننى استطعت أن أجعل من الإنشاد «براند» ينافس الموسيقى التجارية، بمعنى أننى، بفضل الله، أحيى حفلات على مدار العام، وليس فقط فى المواسم التقليدية مثل رمضان والمولد النبوى، كما هو الحال مع العديد من المنشدين الآخرين. استطعنا، بحمد الله، المشاركة فى مهرجانات محلية ودولية، وإحياء حفلات زفاف، وأفراح، وأعياد، ومناسبات خاصة، مما جعل الإنشاد مستمرًا طوال العام وليس محصورًا فى فترة معينة.
هل هناك لون إنشادى جديد تعمل على تقديمه، خاصة للشباب الذين أصبحوا أكثر انجذابًا للألوان الموسيقية الحديثة؟
نعم، قدمنا لونًا إنشاديًا جديدًا من خلال ألبوم «مزكها بالفصحى» بالتعاون مع شركة مزيكا عام 2018، حيث تضمن الألبوم أعمالًا مبتكرة مثل «رسمته»، التى مزجنا فيها الإنشاد مع أنماط موسيقية حديثة مثل الهاوس، والريغى، والبوب، والروك، والراى. بالإضافة إلى ذلك، عملنا على العديد من المشاريع الفنية الهادفة، حيث قدمنا الإنشاد بأساليب موسيقية عصرية تواكب التطور الموسيقى الحالى.
كما تعاوننا مع شركة ريد بول فى مشروع «مزيكا صالونات»، وقدمنا مع مولوتوف أغنية «روح المليحة» التى حققت نجاحًا كبيرًا. هذه التجارب الحديثة جعلتنا نتصدر الترند، مما يؤكد أن الإنشاد قادر على التطور والتأقلم مع الذوق العام دون فقدان أصالته.
كنقيب للمنشدين، ما أبرز التحديات التى تواجه المنشدين اليوم؟ وهل ترى أن مهنة الإنشاد بحاجة إلى دعم أكبر؟
- عندما أسست نقابة العاملين بالإنشاد الدينى كنقابة عمالية فى أواخر عام 2013 وبداية 2014، كان هدفى الأساسى هو الحفاظ على حقوق المنشدين، وتأمين مستقبلهم، وحماية الإنشاد كمهنة. استمررت فى رئاسة النقابة حتى عام 2022، لكن بصراحة، وجدت أن العمل الإدارى أثر عليّ كفنان، خاصة أن لديّ مشاريع فنية كثيرة أهم بالنسبة لى من أى منصب إدارى.
واجهت العديد من التحديات بسبب هذا الدور، حيث دخلت فى صراعات مع نقابة المهن الموسيقية، ومشيخة الأزهر، ووزارة الأوقاف، فقط من أجل تأسيس كيان يحمى المنشدين. ومع مرور الوقت، اكتشفت أننى أستطيع تحقيق كل ما أطمح إليه لدعم الإنشاد والمنشدين من خلال مدرسة الإنشاد ومؤسسة بيت الإنشاد التى أنشأتها عام 2018، بعيدًا عن أى صراعات بيروقراطية.
فى عام 2016، تقدمت بمشروع لإنشاء نقابة مهنية للمنشدين، لكن الصراع اشتد مع نقابة المهن الموسيقية، مما جعلنى أركز أكثر على مشاريعى الفنية، ومدرسة الإنشاد، ورعاية المواهب الصغيرة، لأننى أرى أن دعم البراعم الجديدة فى الإنشاد أهم من أى شيء آخر.
هل يمكن أن نشهد قريبًا أكاديمية متخصصة فى تعليم الإنشاد الصوفى بشكل أكاديمى ومنهجى؟
- بالفعل، من خلال مدرسة الإنشاد، نقدم منهجًا أكاديميًا متكاملًا لتعليم الإنشاد، ويُشرف على التدريس نخبة من المتخصصين، مثل الأستاذ النجدى (مُحفظ دار الأوبرا المصرية)، الشيخ طه الإسكندرانى، والشيخ طه حسين. المدرسة تُقام تحت رعاية صندوق التنمية الثقافية، وقد تمكنا حتى الآن من تخريج 5 آلاف منشد فى المستوى الأول، كما افتتحنا المستوى الثانى الذى يضم 200 منشد.
نحن نعمل بالفعل على تقديم الإنشاد بشكل أكاديمى، وبإذن الله، سيتم تخصيص قسم أكاديمى للإنشاد ضمن أكاديمية الفنون، حيث ناقشت هذا المشروع مع معالى الوزير، ونسعى لتطبيقه قريبًا.
كيف ترى رد فعل الجمهور المصرى والعربى تجاه الإنشاد فى الحفلات؟ هل لا يزال يحظى بنفس الوهج الذى كان عليه قديمًا؟
- حاليًا، جمهور الإنشاد فى مصر والوطن العربى أكبر مما كان عليه قديمًا. الحمد لله، تم تصنيف حفلاتى فى الصعيد ومحافظة الغربية كأكبر حفلات انطلقت عام 2024، حيث تجاوز عدد الحضور 80 ألف شخص.
كما قدمت حفلة كبيرة فى قصر الأمير طاز شارك فيها العديد من الشباب، بالإضافة إلى الحفلات التى تُقام حاليًا فى الأندية الاجتماعية والنوادى الكروية، علاوة على الحفلات التى أحييها خارج مصر. هذا الإقبال المتزايد، خاصةً من الشباب والأطفال، يعود إلى التطوير الذى أدخلناه على الإنشاد، مما جعله أكثر جذبًا للأجيال الجديدة.
هل تفكر فى التعاون مع موسيقيين عالميين لدمج الإنشاد مع أنماط موسيقية مختلفة؟
- بالفعل، بدأت التعاونات الدولية منذ سنوات، حيث شاركت فى ألبوم «أوريجنال» مع الفنانة أليز ديبك، وهو الألبوم الذى حصل على Global Music Awards عام 2017، كما تم ترشيحه لـ جوائز الغرامى 2018. أيضًا، شاركت فى السيمفونية الثلاثية العالمية مع الموسيقى ديفيد شاير، بالإضافة إلى تعاونات مهمة داخل مصر، أبرزها مع الفنان القدير فتحى سلامة.
كما أننا نُخطط حاليًا لحفل ضخم سيُقام فى رمضان 2026 مع فنان عالمى، لكن لن يتم الإعلان عن التفاصيل فى الوقت الحالى.
لو لم تكن منشدًا، ماذا كنت تتخيل نفسك؟
- لا أعتقد أننى كنت سأنجح فى أى مجال آخر، فالإنشاد هو حياتى وشغفى الأول، وهو ما أجد نفسى فيه بكل جوارحى.
لو طلبت منك أن تختتم ببيت إنشادى يعبر عن رحلتك مع الإنشاد، ماذا ستختار؟
- سأختتم برائعة إمام الشعراء محمود سامى البارودى، وهى القصيدة التى قمت بتلحينها وأصبحت من أكثر الأعمال المطلوبة فى حفلاتي:
حياتى فى الهوى تلفُ وأمرى فيه مختلفُ
أبيتُ الليل مكتئبًا وقلبى فى الحشا يجفُ
أليس العشق سلطانًا له الأكوان ترتجفُ؟
إذا كان الهوى خصمى، فقل لى كيف أنتصفُ؟
أيقتلنى الهوى ظلمًا وما فى الناس لى خلَفُ؟
وما أخفيه من وجدى وحزنى فوق ما أصفُ
أليس العشق سلطانًا له الأكوان ترتجفُ؟
إذا كان الهوى خصمى، فقل لى كيف أنتصفُ؟