بعد انهيار الهدنة: إلى أى مدى سيصمد نتنياهــــو؟

آلاء البدرى
استطاع نتنياهو البقاء فى المشهد السياسى من خلال الاعتماد على الصراع كأداة لترسيخ سلطته وقد وفرت له حرب غزة والصراع المستمر مع حماس نقطة حشد سمحت له بتعزيز الدعم من خلال تصوير نفسه كقائد قوى فى أوقات الأزمات، لكن من المؤكد أن قدرة نتنياهو على البقاء سياسيا دون حرب مستحيلة ومحفوفة بالتحديات فرغم نجاحه المؤقت فى الحفاظ على الوضع القائم من خلال مزيج من المناورات السياسية والعسكرية، إلا أن المشهد الحالى يوحى بأن هذه الاستراتيجية قد لا تكون مستدامة وتشكك فى مدى صمود نتنياهو.
إقالات جماعية وتحدى القانون
فى خطوة غير مسبوقة، صوت مجلس الوزراء الإسرائيلى بالإجماع لصالح اقتراح حجب الثقة عن النائبة العامة جالى بهاراف ميارا، فى خطوة صممتها الحكومة لتسريع إقالتها من منصبها، وبرر المجلس هذه الخطوة بأنها جاءت نتيجة لسلوك غير لائق من جانب بهاراف ميارا واختلافات جوهرية مطولة فى الرأى بينها وبين الحكومة، مما منع التعاون الفعال، وأكدت الحكومة الإسرائيلية بهذه الخطوة المتهورة أنها تسعى إلى وضع نفسها فوق القانون والعمل دون ضوابط وتوازنات ورغم عدم حضور رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو التصويت بسبب تضارب المصالح إذ يخضع حاليا للمحاكمة بتهم الفساد، وتشغل النائبة العامة منصب المدعى العام للدولة، ولقى قرار الإقالة إدانة شديدة من أحزاب المعارضة التى شككت فى شرعيته واتهمت نتنياهو بدوافع فاسدة فى مساعيه للإطاحة بها وتعتبر محاولة إقالة النائبة العامة هى الأحدث فى سلسلة من الخطوات التى اتخذتها الحكومة والتى يقول المنتقدون إنها تقوض سيادة القانون فى إسرائيل، وإن التقدم السريع للتشريع المثير للجدل لتغيير الطريقة التى تختار بها إسرائيل قضاتها لم يكن أبدا جهد متجدد لإصلاح القضاء لكن فى الحقيقة هى خطوات ثابتة من الحكومة نحو تقويض الديمقراطية، حيث سبق هذه الخطوة قرار نتنياهو بإقالة رونين بار رئيس جهاز الأمن الداخلى الإسرائيلى الشاباك، مشيرًا إلى فقدان الثقة به وجاءت هذه الإقالة فى الوقت الذى يجرى فيه الشاباك تحقيقًا مع مكتب نتنياهو بشأن علاقات غير مشروعة مع قطر القضية الأشهر فى إسرائيل المعروفة إعلاميا باسم قطر جيت وتخص تلقى مساعدى نتنياهو المباشرين أموالا من قطر والتى بثت لها هيئة الإذاعة والتليفزيون الإسرائيلية (كان) الأسبوع الماضى تقريرا مثيرًا للجدل احتوى على تسجيل لرجل أعمال إسرائيلى قال فيه إنه حول أموالا من القطريين إلى مستشار نتنياهو إيلى فيلدشتاين الذى اعتقل فى نوفمبر الماضى فى قضية فساد أخرى وأنه بمجرد أن بدأ جهاز الأمن الداخلى الشاباك التحقيق قرر نتنياهو إقالة رونين بار فى عملية غير قانونية وأكد زعماء المعارضة أن هذه الإقالة تهدف إلى عرقلة تحقيق جنائى خطير وتورط مكتب رئيس الوزراء مع دول خليجية لم يكن لها أى علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وقد جمدت المحكمة العليا الإسرائيلية يوم الجمعة قرار الإقالة لأسباب قانونية، ومن بين المقالات المثيرة للجدل إقالة نتنياهو لوزير الدفاع الاسرائيلى يوآف جالانت قبل عدة أشهر لأسباب مشابهة «أزمة ثقة»، مما أدى فعليًا إلى إزالة أحد الأصوات القليلة من أعلى مستويات حكومته التى دعت إلى وقف إطلاق النار الذى من شأنه أن يؤدى إلى إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين، وكان جالانت من بين أعضاء مجلس الوزراء الحربى الإسرائيلى الأشد انتقادا لنتنياهو منذ فترة قبل أحداث السابع من أكتوبر عندما انتقد محاولات نتنياهو لإصلاح القضاء الإسرائيلى، الأمر الذى يؤكد أن قرارات الإقالة قرارات انتقامية تتعلق بخلافات سياسية وشخصية ومن المتوقع أن تبدأ فى الأسابيع القادمة معركة شرسة حول مستقبل الديمقراطية الإسرائيلية، لكن حتى الآن ليس من الواضح على الإطلاق أن الجانب الذى يمثل المعايير الديمقراطية وسيادة القانون سوف يفوز.
احتجاجات داخلية
تزايدت وتيرة الاحتجاجات على مدى الأسبوع الماضى، ولا تظهر أى علامات على التوقف وتأتى هذه الاحتجاجات فى الوقت الذى تواجه فيه إسرائيل مجموعة من الخلافات السياسية المتشابكة، فقد أنهى نتنياهو الهدنة ووقف إطلاق النار مع حماس بعد شهرين وصعدت إسرائيل من قتالها فى غزة وتعد هذه الاحتجاجات استمرارًا للمظاهرات الأسبوعية التى نظمت خلال معظم فترة الحرب مطالبة الحكومة ببذل المزيد من الجهود لتحرير الرهائن، ورغم أن العديد من هذه المظاهرات لم يجذب سوى عدد قليل نسبيًا من الناس وعائلات الرهائن وأقاربهم فإن المظاهرات الأخيرة كانت أكبر وأكثر تأثيرا إذ هدد قادة العمل والتكنولوجيا بشل الاقتصاد الإسرائيلى إذا خالف نتنياهو قرارات المحكمة العليا، وهدد يائير جولان رئيس حزب الديمقراطيين اليسارى المتطرف بإضراب عام على مستوى البلاد إذا تحدت الحكومة المحكمة العليا وإطلاق حملة لإنقاذ إسرائيل يعلن فيها توقف البلاد عن كل شىء الاقتصاد والموانئ والمواصلات والمدارس والجامعات والشركات حتى الشوارع، وبينما كان المتظاهرون يحتجّون ويشتبكون مع قوات الشرطة ويهتفون: أعيدوهم إلى ديارهم الآن فى إشارة إلى وقف الحرب وعودة الرهائن المحتجزين لدى حماس، وافقت لجنة فى الكنيست على مشروع قانون مثير للجدل يسعى إلى تغيير تشكيل اللجنة التى تختار قضاة إسرائيل والتى تسمى لجنة اختيار القضاة وبموجب الإطار الذى اقترحه فى يناير وزير العدل ياريف ليفين ووزير الخارجية جدعون ساعر فإن مشروع القانون هذا من شأنه أن يحل محل المحاميين المستقلين الحاليين فى اللجنة بممثل من الائتلاف الحاكم وآخر من المعارضة ويرتبط مشروع القانون هذا بحزمة الإصلاح القضائى المثيرة للجدل التى سعت حكومة نتنياهو إلى تطبيقها فى عام 2023 قبل بدء الحرب فى غزة التى أشعلت شرارة بعض أكبر الاحتجاجات فى تاريخ إسرائيل ورغم أن مشروع القانون ليس جذريا مثل بعض التدابير التى أقرت فى عام 2023 يقول المنتقدون إنه من شأنه أن يؤدى إلى تسييس لجنة الاختيار من خلال إضعاف نفوذ المحاميين المستقلين وبما أن الشعب والحكومة فى إسرائيل يبدو أنهما يسيران فى اتجاهين متعاكسين فإن استئناف القصف فى غزة لا يمكن إلا أن يؤدى إلى تفاقم الأزمة الداخلية التى سبقت الحرب والتى ظلت تتأرجح بين المد والجزر منذ ذلك الحين والتى تنعكس على رئيس الوزراء الإسرائيلى ومستقبله السياسى بشكل مباشر.
ضغوط خارجية
كان عجز إسرائيل فى تأمين وسيلة لإسرائيل لتعزيز مكاسبها العسكرية فى غزة بعد رفض الدول العربية والعالم خطة التهجير سببا مباشرا لحماس فى إعادة ترتيب صفوفها، حيث تشير التقديرات الأمريكية إلى أن حماس جندت حوالى 15000 مقاتل جديد خلال الصراع وأعداد أخرى غير معروفة أثناء الهدنة، وفى حين أنه من غير المرجح أن يكون هؤلاء المقاتلون متمرسين مثل أسلافهم لكنها تمكنت من سد بعض العجز فى الخبرة من قبل السجناء الفلسطينيين الذين أطلقت إسرائيل سراحهم كجزء من اتفاقها لتحرير 33 رهينة من قبضة حماس، وخلال المرحلة الأولية من وقف إطلاق النار وافقت إسرائيل على إطلاق سراح عدد أكثر من سجناء فلسطينيين بمن فيهم السجناء الأمنيون الذين يقضون أحكامًا بالسجن المؤبد بتهمة القتل وجرائم ضد إسرائيل، ورغم تجدد هجمات إسرائيل وتكثيف هجومها تحارب حماس بشراسة وأتاحت لها قدرتها على التكيف التكتيكى بالانتقال من هياكل قيادية منظمة إلى قيادة لا مركزية، ومن إطلاق الصواريخ على نطاق واسع إلى حرب عصابات والصمود فى ظل ضغط شديد، وتتكيف حماس حاليا على جبهات متعددة مع الحفاظ على الحكم تحت النيران والاعتماد على الاتصالات منخفضة التقنية ومواصلة تكتيكات حرب العصابات وسط التشرذم الداخلى، مما يجعل إسرائيل تحت ضغط عسكرى مكثف.
على جانب آخر، تحمل صواريخ الحوثيين رسالة سياسية واضحة رغم أنها ليست محاولة لتصعيد عسكرى جدى ولا توجد لها أهمية عسكرية أو استراتيجية وتستطيع إسرائيل اعتراضها بسهولة، ومن حيث الأثر العسكرى تعتبر الهجمات غير ذات أهمية لكن فى نظرهم تعزز هذه الأفعال موقفهم وتظهر أنهم يواصلون القتال وإظهار لالتزامهم بالمحور الموالى لإيران التى تعيد إيران هيكلته من جديد وبسرعة فى لبنان والعراق وسوريا وبدا واضحا أن إيران نصبت عبد الملك الحوثى قائدا جديدا لـمحور المقاومة المنهار، وهو يؤمن بأن لديه مهمة إلهية تتمثل فى إقامة إمارة إسلامية فى اليمن ومهاجمة الغرب وإسرائيل مما يجعل ضرباتها على إسرائيل ذات معنى مهم.
المقامرة بالحرب
من المؤكد أن نتنياهو وحكومته يريدون إبقاء حماس فى السلطة ويريدون استمرار الحرب إلى أجل غير مسمى، وليست هذه المرة الأولى التى يتهم فيها نتنياهو باستغلال حماس فقد أفادت تقارير أوروبية أن نتنياهو يسمح منذ سنوات بتدفقات نقدية هائلة إلى غزة لتعزيز نفوذ حماس رغم الحصار الإسرائيلى المستمر منذ عقود على غزة بهدف النجاة، حيث يتزامن انهيار الهدنة مع قرب إقرار الميزانية الجديدة فبموجب القانون الإسرائيلى يتعين على الحكومة الموافقة على ميزانيتها السنوية بحلول نهاية شهر مارس أو مواجهة الحل وهو الأمر الذى من شأنه أن يؤدى إلى إجراء انتخابات جديدة، ولضمان التصويت على الميزانية السنوية وتجنب الانتخابات يحتاج نتنياهو إلى الدعم، وإذا لم يأت هذا الدعم من الأحزاب الأرثوذكسية المتطرفة التى تعارض نتنياهو بشدة بسبب مسألة التجنيد منذ بداية الحرب حيث مارس الشعب الإسرائيلى ضغطًا هائلًا لإنهاء إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية إلا أن الأحزاب المتشددة تطالب بعكس ذلك وإقرار تشريع يعفيهم رسميًا من الخدمة العسكرية فإنه يحتاج إلى دعم أعضاء اليمين المتطرف فى الائتلاف ونتيجةً لاستئناف الحرب من جديد عاد حزب عوتسما يهوديت اليمينى المتطرف الذى انسحب من حكومة نتنياهو فى يناير الماضى احتجاجًا على اتفاق وقف إطلاق النار إلى صفوفه مما يمنح نتنياهو أصواتًا حاسمة فى الميزانية.
حاول نتنياهو ومساعده رون ديرمر إقناع إدارة ترامب بالتخلى عن الخطوط العريضة للصفقة التى تم التوصل إليها من خلال وساطة إدارة بايدن ليتمكن من شن هجمات عسكرية متقطعة كل فترة لضمان استمرار الحرب التى تضمن بقاءه فى السلطة بحجة التخلص من حماس دون استنزاف لقوات الجيش الإسرائيلى، ولم تكن هذه مهمة صعبة بشكل خاص نظرا لعدم رغبة ترامب المتأصلة فى كل خطوة يقوم بها سلفه فى المنصب فحث نتنياهو الأمريكيين على تقديم سلسلة من المقترحات الجديدة التى تحاول التحايل على الالتزام الرئيسى الذى قبلته حماس فى الاتفاق الأصلى، وبناء على ذلك حاولت إدارة ترامب إجراء مفاوضات مباشرة مع حماس دون تدخل مصر وقطر لإطلاق سراح الرهائن الأمريكيين الخمسة وتعزيز اتفاق أوسع مع وقف إطلاق النار طويل الأمد يتوافق مع مطالب حماس وطموحات إسرائيل لكن الكشف عن المحادثات قبل نضجها دفع البيت الأبيض إلى التراجع عن هذه الخطوة وعلاوة على ذلك طالبت إسرائيل والولايات المتحدة حماس بإطلاق سراح المزيد من الرهائن مقابل تمديد وقف إطلاق النار المؤقت مع الاحتفاظ بأرض غزة والمضى فى خطط التهجير دون الانتقال إلى المرحلة الثانية واعترضت قيادة حماس على ذلك وطالبت بتنفيذ الاتفاق الذى وقعته مع إسرائيل برعاية الولايات المتحدة ومصر وقطر بعد أن كانت وافقت حماس على بادرة حسن نية تتمثل فى إطلاق سراح الرهائن الأمريكيين من أجل إتمام الاتفاق الأصلى، لكن الولايات المتحدة اعتبرت هذه اللفتة قليلة جدًا ومتأخرة جدًا واعتبر البيت الأبيض رد حماس بمثابة رفض لمقترحه الجديد ومنذ تلك اللحظة أعطى إسرائيل الضوء الأخضر لاستئناف القتال، وترامب الذى وعد بإنهاء الحرب فى غزة قد يجد نفسه الآن فى نفس الوضع الذى وضع فيه جو بايدن، حيث يدعم حربًا لا نهاية لها وغير قادر على التوصل إلى اتفاق من شأنه أن يؤدى إلى إطلاق سراح الرهائن ووقف إطلاق النار الدائم، وفى مثل هذا الوضع قد يجد ترامب صعوبة فى تنفيذ الخطوات الأخرى التى كان يرغب فى اتخاذها فى الشرق الأوسط.