
نبيل عمر
30 يومًا من الحساب العسير: ترامب يدفع العالم إلى حافة الخطر!
لم ينتظر الإعلام الأمريكى ولا مواطنوه مئة يوم كالعادة، وراحوا ينشرون غسيل دونالد ترامب على الصفحات والبرامج وشبكات التواصل الاجتماعى، حتى أن جريدة «يو إس نيوز» أفردت مساحة كبيرة قبل أيام بعنوان مثير: «الفوضى القانونية فى شهر من رئاسة ترامب»!
وأول مئة يوم عمل لأى رئيس أمريكى بعد تنصيبه، لها تراث وتقاليد فى الديمقراطية الأمريكية منذ ثلاثينيات القرن العشرين، تحديدًا مع ولاية الرئيس فرانكلين د. روزفلت فى عام 1933، حين ضرب الكساد الكبير أمريكا، فأطلق فرانكلين سلسلة من السياسات الاقتصادية والإصلاحات الجذرية فى أول مئة يوم، منها تشريعات بنكية وبرامج تشغيل وتنشيط لعجلة الإنتاج، فأعاد إلى الشعب الأمريكى تفاؤله وثقته فى الحكومة، وأخذت الصحافة المئة يوم الأولى من الرئاسة الأمريكية فنارًا لتحديد اتجاهات الرئيس وتقييم أدائه وسياساته.
ثم تطور التقييم وأضافوا إليه عناصر جديدة، مثل كيفية تنظيم الرئيس لشئون مكتبه، وتعييناته للموظفين والمستشارين، أساليب التعامل مع الكونجرس والشعب حول رؤيته للمستقبل، وكيفية تواصله مع الدول الأخرى.
كان الرئيس ترامب قبل تنصيبه بأربعة وعشرين ساعة قد وعد حشدًا من مؤيديه تجمعوا حوله: غدًا يوم أول أفضل، ثم أسبوع أول أكبر، وأول مئة يوم غير عادية لرئيس فى التاريخ الأمريكي!
لكن الإعلام وجمهور كبير من الأمريكيين لم يمنحوه مئة يوم، اختصروها إلى أربعة أسابيع، ربما بسبب الاستقطاب الحاد الذى أحدثه فى المجتمع، والذى ارتفع إلى درجة تناقض لم يعرفها إلا فى الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، وبات الانفصال الفكرى واضحًا بين تيارين: تيار من أساتذة جامعات وفنانين وكتاب وإعلاميين، وتيار من عامة الأمريكيين. فى تلك الأسابيع الأربعة، ومع وجود أغلبية ملحوظة من الجمهوريين فى الكونجرس، نال ترامب تصديقًا على اختياراته الوزارية، لكن ما زال الجدل حولها مثارًا فى أوساط واسعة داخل المجتمع الأمريكى، كما تسببت قراراته التنفيذية فى تغييرات جذرية فى الحكومة الفيدرالية، إلى حد التخطيط للقضاء على وكالات بأكملها دون العودة إلى الكونجرس التى أنشأها بتشريعات منه، مستعينًا بالحصانة التى منحتها المحكمة العليا للرؤساء حين ينتهكون بعض بنود القانون لأداء مهامهم الوظيفية، لكن بعض المحاكم أوقفت هذه الإجراءات، فانطلق تساؤلات حول مدى قانونيتها ودستوريتها، منها على سبيل المثال إعادة تعريف حق المواطنه، ليسمح له بنقل المهاجرين غير الشرعيين خارج الولايات المتحدة مهما كانت المدة التى عاشوها، ومعهم أبناؤهم الذين ولدوا فيها!
لكن السؤال ما زال محلقًا فى الشارع الأمريكي: ماذا يحدث إذا أصدرت المحاكم أحكامًا بأن ما يفعله الرئيس غير قانونى أو غير دستوري؟
وكالعادة أسرع دونالد ترامب إلى وسائل التواصل الاجتماعى مخاطبًا العامة ويجيب: من ينقذ بلاده لا ينتهك أى قانون.
لكن قاضيًا فيدراليًا أجاب بطريقة مختلفة، وقال إن إدارة ترامب تحدت أمرًا مؤقتًا صادرًا منها بإلغاء قرار تجميد تمويلات فيدرالية، ولم تنفذ الأمر، والاستئناف الذى لجأت إليه لا يعطل التنفيذ، وهذا انتهاك للتوازن المنصوص عليه فى الدستور بين السلطات.
وشن مؤيدو الرئيس حملة مضادة على شبكات التواصل الاجتماعى وقالوا إن التهديد الحقيقى للديمقراطية هو دهس الديمقراطيين والقضاة الفيدراليين سلطة الرئيس.
كان الرئيس قد أصدر أمرًا تنفيذيًا عُرف باسم «تصنيف الجدول أف»، لبعض الموظفين الفيدراليين الكبار، يُسَهِل عليه فصل العديد منهم، وأنشأ وزارة الكفاءة الحكومية (دى أو جى آي) مهمتها تخفيض الإنفاق الحكومى، عن طريق إلغاء وظائف وإدارات ووكالات، وعين البليونير «الإلكتروني» الشهير إيلون ماسك مستشارًا له فى أداء هذه المهمة، وضرب ماسك مثالًا بنوعية المهام التى يتولاها والنصائح التى يبديها، فدعا إلى تفكيك وكالة المساعدات الأمريكية وأجبر عددًا من موظفيها على إجازات إدارية، مبررًا سياساته وأفكاره: إن لم نفعل فسوف نواجه الإفلاس!
وفى الحقيقة لا أعرف كيف تفلس الحكومة الأمريكية التى تدير أكبر اقتصاد فى العالم (30 تريليون دولار)، حتى لو كانت أكبر مدين فى العالم بـ34 تريليون دولار، وتعانى عجزًا فى الميزانية يتجاوز التريليون ونصف التريليون دولار!، فأصولها الرأسمالية أضعاف هذه الأرقام!
وللتخلص من الموظفين الفيدراليين، أرسلت الوزارة الجديدة بريدًا إلكترونيًا، يقدم لهم عرض شراء وإغراءات، مقابل استقالات عاجلة ونهائية، وبالفعل وصل عدد الاستقالات إلى 40 ألفًا حتى الآن، وللعلم يدور إجمالى عدد الموظفين الفيدراليين حوالى 2.3 مليون موظف، فى الدفاع والتعليم والصحة والشئون الخارجية والبريد والضمان الاجتماعى، غير الوكالات المتخصصة.. إلخ، ولا أتصوره رقمًا كبيرًا فى دولة عظمى ممتدة من المحيط الأطلسى إلى المحيط الهادى، ولها وجود وعلاقات وانتشار على كوكب الأرض، ويقترب عدد سكانها من 340 مليون نسمة.
المهم أن النقابات العمالية لم تسكت، وأعلنت تحديها للقرار التنفيذى، ووصفته بأنه ينتهك القانون الإدارى الفيدرالى، كما أن 14 ولاية رفعت دعاوى قضائية ضد خطة ماسك، وهى نيو مكسيكو، أريزونا، كاليفورنيا،كونيتيكت، هاواى، وميتشيجان، ميريلاند، مينيسوتا، واشنطن، ماساتشوستس، نيفادا، أوريجون، رود إيلاند، وفيرمونت.
فى الوقت نفسه دخلت وزارة الكفاءة الحكومية إلى وزارة الخزانة، وتمكنت من الوصول إلى بيانات وتفاصيل أنظمة الدفع، فرفعت الاتحادات الفيدرالية و19 مدعيًا عامًا ديمقراطيًا دعوى قضائية وصفوا فيها حصول «دو أو جى آي» على بيانات المالية بأنه غير قانونى وينتهك الخصوصية، وأن سماح وزارة الخزانة بذلك، يتجاوز سلطتها القانونية.
وما حدث فى وكالة المساعدات حدث مع مكتب حماية المستهلك، أوقفت إدارة ترامب أعماله تمهيدًا لإغلاقه نهائيًا، فتصدى له المعارضون بالقضاء.
المدهش أن أيلون ماسك، الذى أتصور أنه أكثر نشطاء كوكب الأرض على شبكات التواصل الاجتماعى خاصة منصة إكس، اقترح على صفحته عزل القضاة -الذين يصدرون أحكامًًا ضد قرارات الرئيس التنفيذية- من مناصبهم، فهم يستخدمون سلطتهم للحد من قوة إدارة ترامب وقال بالحرف: يجب أن تكون هناك موجة فورية من العزل القضائى، وليس مجرد قاض واحد!
الأغرب هو دفاع إدارة ترامب عن إريك أدامز عمدة مدينة نيويورك المتهم بالفساد، ومرفوع ضده عدد من القضايا، إذ طلبت وزارة العدل سحب الاتهامات ضد العمدة، فهو مقرب من الرئيس بالرغم من أنه «ديمقراطي»، وبالفعل أمر نائب المدعى العام المؤقت برفض التهم، فاستقال سبعة من المدعين العموميين بالولاية واصفين القرار بأنه «غير أخلاقي».
ويمكن أن نفهم دفاع ترامب عن أدامز من منشور كتبه على شبكات التواصل الاجتماعى، إذ قال إن جهوده لإنقاذ البلاد تضعه فوق القانون، فانهال السيناتور آدم شيف من ولاية كاليفورنيا بالنقد: أنه «يتحدث مثل ديكتاتور حقيقي».
ولا أعرف هل ترامب قال عباراته وهو يعلم أن صاحبها الأصل هو نابليون بونابرت أم لا؟!. وكما أحدث ترامب فوضى داخلية، صنع نوعًا من الفوضى فى العالم، وقد نشرت شبكة الإذاعة الوطنية العامة «إن بى آر»، صباح 17 فبراير الجارى، حوارًا على موقعها الإلكترونى، و«إن بى آر» منظمة إعلامية مستقلة غير ربحية، تعمل كنقابة لأكثر من 1000 محطة إذاعية، بهدف خلق جمهور أكثر.
كان الحوار بعنوان: يوم الرؤساء، تعالى ننظر إلى الشهر الأول من عودة ترامب إلى المنصب، بين «تامرا كيث» وهى مراسلة الشبكة فى البيت الأبيض منذ عام 2014، و«إيه مارتنيز» وهو مذيع برنامج الطبعة الصباحية.
سألها مارتنيز: حسنًا.. فيما يتعلق بالشئون الخارجية، ما هى رسالة إدارة ترامب إلى العالم حتى الآن؟
ردت كيث: عندنا عمدة جديد فى المدينة، وهو لا يشبه جو بايدن، بايدن عمل على تعزيز التحالفات، ترامب منظوره مختلف، فهو متشكك فى المنظمات الدولية، مثل حلف شمال الأطلسى، ولا يعتقد أن التحالفات ذات قيمة كبيرة إلا إذا كانت تصب فى مصلحة الولايات المتحدة بشكل مباشر، مثلًا نتوقع أن يجتمع مسئولون روس ودبلوماسيون أمريكان فى السعودية، لمناقشة نهاية الحرب فى أوكرانيا، أوروبا غير مدعوة إلى طاولة المفاوضات، وليس واضحًا دور أوكرانيا، وهناك تهديدات ترامب بالتعريفات الجمركية للأصدقاء والمنافسين على حد سواء، ثم كلامه عن استعادة قناة بنما أو جرينلاند أو السيطرة على غزة، نستطيع أن نقول إن عصر القدرة على التنبؤ فى السياسة الخارجية الأمريكية قد انتهى!
نعم صنع ترامب قدرًا من الشك وعدم الثقة والفوضى فى 30 يومًا فقط، وهو ما لم يستطع فعله رئيس أمريكى آخر..
نعم.. العالم فى خطر.. فكيف يرد الآخرون؟