الخميس 13 فبراير 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
إلى أين يذهب المصريون

إلى أين يذهب المصريون

كنت أسأل المفكر وعالم الطب النفسى الأشهر د. يحيى الرخاوى عن بعض الظواهر، وبعد أن استمع بصبر لعدة نماذج ذكرتها من أداء النخبة والسلوك اليومى للمواطن العادى جاء تفسيره فى كلمتين:  «التمثل بالأدنى».



وبقدر ما فاجأتنى إجابته التى توقعتها مطولة بقدر ما أقنعنى إيجازها البليغ، فقد حملت هاتان الكلمتان تفسيرا علميا دقيقا وحاسما لما كان يطفو وقتها على سطح المجتمع من تشوهات قيمية وممارسات مزعجة تمثلت فى شخصيات تصدرت المشهد العام وجرائم بدت شاذة فى دوافعها وأساليبها، وسلوكيات وسمات تتناقض مع السياق المألوف لمكونات الشخصية المصرية.

بعدها دارت بيننا مناقشة استمرت ساعتين تقريبا فى مكتبى بـ«روزاليوسف» شهدت تطبيقا على حالات فى السياسة والفن وقيادة الرأى العام ومن الشارع المصري، أثبتت جميعها صحة نظرية «التمثل بالأدنى» فى تفسير كثير مما يثير الانزعاج بالمجتمع.

ورغم مرور سنوات طويلة على لقائى بالمفكر الراحل، جرت خلالها فى مصر أحداث وحوادث كبيرة، واختفت وجوه وظهرت وجوه وعادت وجوه، ودخل المجتمع فى اختبارات قاسية وتعرض لضغوط واختراقات داخلية وخارجية، فإن ذلك ظل يؤكد صلاحية تلك النظرية لتفسير الظواهر والممارسات والسمات والشخصيات  الأردأ والأسوأ، وغيرها مما يفاجئنا ونقف أمامه مرتبكين وقلقين.

وباختصار فإن المجتمعات عندما تكون فى مراحل النهوض والتطور بما تحمله من صعود قيمة العلم والعمل والتعليم والأخلاق والموهبة والكفاءة، وما تمثله من سيادة العدل والقانون والنزاهة والشفافية واحترام الاختلاف والحريات العامة والشخصية، وما تؤدى إليه من انتعاش الطموح الجمعى والفردى المبنى على أسس حقيقية، والتحضر فى المعاملات والذوق العام وانتخاب المواصفات الأرقى فى المكونات الشخصية، فإن كل ذلك يجعل «التمثل بالأعلى» هو الاتجاه الغالب، تستوى فى ذلك النخبة والعامة.. الدولة والمواطنون، وبالتالى ينحسر الأدنى لصالح الأعلى وتطرد العملة الجيدة العملة الرديئة.. والعكس صحيح فى مراحل التراجع والتشوش.

وإذا ضربنا مثلا بالطبقة المتوسطة التى من المفترض أن تقود المجتمعات وتكسبها هويتها، فإنها حين تقع تحت ضغط متغيرات تدفعها للانكماش والارتباك، نراها قد اختلت منظومتها القيمية فلا تتطلع إلى «المثل الأعلى» بل تنزلق إلى «المثل الأدنى».. ينعكس ذلك فيما تتعاطاه أو تهرب إليه أو تتمثله من نماذج صعود فاسدة أو تافهة أو مشوهة، أو حتى من أنماط حياة ومظاهر وحتى مفردات وطرق تعامل تستخدمها طبقات انتهازية أو طبقات أدنى فى السلم الاجتماعى لكنها وجدت طريقها إلى صدارة المشهد وإلى أعلى درجات السلم فى مناخ سمح لها بذلك فأصبحت هى «المثل» الذى يُحتذى للنجاح «الوهمي» والتباهى «الفج» والصعود «السام».

وبدون الحاجة إلى ضرب أمثلة تفصيلية فى مجالات ووقائع محددة (لأنها أوضح من أن تُذكر) إلا أن السقوط فى ذلك المنحدر الحضارى يصيب المجتمع كله ليس فقط بوباء «التمثل بالأدنى» وإنما أيضا بالإحباط، ويفقده الثقة فى حاضره ومستقبله.

والسؤال الآن : هل يذهب المصريون إلى هذا المنحدر؟ أم أننا نستطيع تجنبه أو على الأقل السيطرة عليه؟

فى تقديرى، فإن لدينا فرصا ما زالت  ومخاطر ماثلة، لكننا فى الأخير بإمكاننا أن نعيد إلى «المثل الأعلى» مساحته ومكانته وتأثيره.

.. ولهذا حديث آخر.