الطريق الثالث.. تهجير قسرى أم هجرة طوعية.. ومعركتنا لمنع تصفية القضية الفلسطينية مواجهة (ترامب) فى غزة.. بخطة (باستور) أمام الديك الفرنسى
أبهرنى أداء منتخبنا الوطنى فى كرة اليد وبلغ حماسى وتقديرى حد السماء لأبطاله من اللاعبين البارعين الموهوبين والمخلصين، خاصة فى مباراتهم الأخيرة أمام المنتخب الفرنسى فى الدور ربع النهائى لبطولة العالم الـ29 والتى أقيمت فى العاصمة الكرواتية زغرب خلال الأسبوع الماضى، وانتهت بهزيمة لكنها بطعم الفوز، بعد أن أحرز الديك الفرنسى هدف الحسم فى جزء من الثانية فى الدقيقة الأخيرة من المباراة.
ولعل أكثر ما لفت نظرى فى هذه المباراة (الدرامية)، براعة المدير الفنى للمنتخب، الإسبانى خوان كارلوس باستور، فى إدارة المباراة وفق قدرات لاعبى المنتخب المصرى، حيث وظف إمكانياتهم بصورة مثالية، وراهن على طريقة اللعب الهجومية بالدفع بسبعة لاعبين مهاجمين دون حارس مرمى خلال شوط المباراة الثانى، وهى الطريقة التى مكنت الفريق من تعويض فارق الأهداف الكبير الذى انتهى به شوطها الأول والوصول إلى التعادل فى نهاية الشوط الثانى.
لا للتهجير.. لا تكفى
لقد ألهمنى الأداء البطولى لمنتخب اليد، بتوظيف خطة مدربه الهجومية فى التعامل مع فكرة ترامب الجهنمية، والتى يعيد فيها طرح مخطط تهجير الفلسطينيين خارج أرضهم، فلا مجال للاكتفاء بالرفض فقط، وصب اللعنات على الرئيس الأمريكى، فلن يخيفه ما نرفعه من شعارات بالية دهستها مدرعات جيش الاحتلال وهى تحصد الأرواح وتدمر القطاع حتى وصلنا إلى المشهد الحالى.
«لا للتهجير»، لا تكفى وحدها فى مواجهة ترامب، أقدر الرفض المصرى والفلسطينى والأردنى والعربى للتهجير القسرى لأهل غزة والضفة إلى مصر والأردن، لكنه دون أى تحركات أخرى موازية عاجلة، لن يصل بنا إلى بر نجاة، ولن يضع حدا لهذا الصراع الأزلى بين العرب وإسرائيل، خاصة فى ظل معطيات اللحظة التى تعاندنا بكل تفاصيلها.
علينا أن نمتلك زمام المبادرة (كما فعلها باستور) بطرح أفكار «خارج الصندوق» كما طالب ترامب نفسه، فالرفض موقف يحتاج حوارا ومهارة فى الإقناع فهى ليست مظاهرة أو مشاجرة، والحوار البناء يحتاج إلى رؤية وأفكار جديدة ومبتكرة، وليس مطلوبا من فرد أو دولة أن تبدع هذه الأفكار وحدها، فمستقبل القضية يحتاج إلى إبداع جمعى يستوعب متغيرات ما جرى منذ السابع من أكتوبر 2023.
كان هذا بعضا مما طرحته (واتسع له الوقت) خلال مشاركاتى التحليلية فى أكثر من لقاء تليفزيونى، للتعقيب على ما طرحه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى مسألة نقل سكان غزة إلى مصر والأردن.
الهجرة وليس التهجير
وتلى ذلك ما طرحته من تصور مبدئى لفكرة (خارج الصندوق)، نشرتها تفصيلا فى مقالى الأسبوعى بجريدة «الوطن» الغراء تحت عنوان «عن التهجير سألونى»، لكن للأسف التبس فهم الفكرة وتعذر على البعض التعامل معها كتصور مطروح للنقاش، وحدث خلط (كما توقعت وحذرت فى نص المقال) بين فكرتى «الهجرة الطوعية» و«التهجير القسرى»، وكان ردى على أحد التعليقات (السخيفة) التى وصلتنى: «أتحداك أن تأتنى بكلمة أرحب فيها بالتهجير القسرى فى مقالى المشار إليه.. فموقفى الرافض للتهجير معروف للجميع، أرفضه ككل المصريين والعرب، ما طرحته هو محاولة (مراوغة) لمنع الوصول إلى مرحلة معاداة هذا الـ(ترامب) الذى يحكم العالم بمنهج يمينى متطرف، يحول من ليس معه إلى عدو يقف ضده. تصورت نقاشا مع الإدارة الأمريكية لتفنيد الفكرة بالحجة وإثبات فشلها، وامتلاك زمام المبادرة بطرح أفكار جديدة، ومنها السماح للراغبين من أبناء القطاع بالهجرة وليس التهجير.. وفق ضوابط وبرنامج إنسانى يضمن لهم حياة أفضل.. وهذا أمر حدث وتكرر أكثر من مرة عبر تاريخ القضية وهاجر آلاف الفلسطينيين إنقاذا لأنفسهم من الهلاك.
وكان آخرها عقب انطلاق شرارة الحرب جراء الطوفان الحمساوى، وانكشاف نية جيش الاحتلال الإسرائيلى فى تدمير القطاع والإبادة الجماعية لسكانه، فلقد خرج آلاف الفلسطينيين من حاملى الجنسيات الأجنبية الأخرى من غزة فى مشهد رصدناه جميعا، قبل تدمير منفذ رفح الحدودى من الجانب الفلسطينى واحتلاله. لماذا لم نسمع رفضا لسفر هؤلاء، ولماذا لم يطلب أحد منهم التمسك بالأرض والبقاء فيها والموت على ترابها!
وفى كل الأحوال المسألة تقع تحت بند الحرية الشخصية، يترك القرار فيها لأفراد الشعب الفلسطينى (وليس السلطة أو حماس) ليتخذ كل منهم ما يراه مناسبا لطاقته على التحمل.
سموتريتش وحماس
ربما يقترب ما أطرحه مع تصريحات سابقة لوزير المالية الإسرائيلى الحالى سموتريتش، قال فيها: «إن تشجيع الهجرة الطوعية هو احتمال آخذ فى الانفتاح، ومن الممكن خلق وضع يجعل غزّة على النصف من عدد سكانها الحاليين خلال عامين، مع السيطرة الكاملة من دولة إسرائيل». حديث يتسق مع أهداف تخص مشروع بلاده الاستعمارى المتوحش، فيما يمكننا أن نحقق نحن بالفكرة ما يتفق مع مصالحنا الوطنية، ونفتح بها باب الرحمة للشعب المنكوب، مثلما نجحنا فى تحقيق ذلك عندما اخترنا السلام مع إسرائيل بخطة الرئيس السادات (الهجومية) سنة 1977، عندما بادر بزيارة الكنيست الإسرائيلى وألقى خطابه الشهير.
ولا أجد حرجا فى أن أكرر ما قلته سابقا، ربما لو كنت مكانهم (أهالينا فى القطاع والضفة) لتمنيت الهجرة، وقبلت عرض ترامب بالخروج من دائرة الإذلال أو الموت، فقد يمنحنى هذا الخروج بعضًا من حياة يترجاها أى إنسان.
إن وضع الفكرة فى سياق إنسانى (بعيدا عن إلصاقه بهذا أو ذاك)، ومنح القرار الحر لكل شخص منفصلا، بعيدا عن ضغوط محيطه المجتمعى وتأثيرات فصائل الضغط الفلسطينى، ربما يجعل الفكرة ومعها أفكار أخرى أمينة وصادقة تجدد الفكر السياسى المرتبط بالصراع العربى الإسرائيلى، أو لعلها تطرح حلولا لهذا القطاع المكتظ بالبشر بأكثر من طاقة مساحته وموارده على توفير أساسيات المعيشة، وظنى أن الهجرة إلى الخارج أفضل من بقاء أكثر من مليونى فلسطينى أسرى لحماس يخدمون أجندتها السياسية، تتلاعب بمصيرهم وفق أهدافها، ولا تتوانى أن تلقى بهم فى نيران معاركها، تحرقهم بدعوى الحفاظ على القضية ونصرتها.
الهجوم خير وسيلة
وأخيرا، علينا أن ننتبه لما أشارت إليه صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية قبل أيام من أن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب سيقوم بزيادة الضغوط على مصر والأردن لقبول خطة «تطهير غزة»، بحسب وصف الصحيفة التى نقلت عن دبلوماسيين أن «الولايات المتحدة يمكنها، إضافة إلى التفكير في حجب المساعدات، ممارسة الضغط من خلال فرض التعريفات الجمركية».
إن رفض مشروع ترامب موقف دفاعى، فيما أن الحل مع مثل هذه الأفكار (المجنونة) يفضل أن يجرى وفق خطة «باستور» الهجومية فى كرة اليد، والتى تدفعك لسحب حارس المرمى وتركه خاليا واستبداله بلاعب مهاجم لتزيد فعالية الفريق ربما يتحقق نصر، وبالإسقاط على حالنا السياسى؛ فما المانع من مجاراة هذه الأفكار وتحقيق أقصى استفادة، بمنح من يرغب من أهالى فلسطين فرصة حياة فى أى من دول العالم الراغبة والقادرة على هذه الاستضافة، وإخراج مصر والأردن من مأزق ضغوط أمريكية لا تحتملها اللحظة، ولن تحل الأمر بل ستزيد تعقيداته؟
هذا طرح للحوار وليس صيدا للتخوين، فكرة ترفض أو تقبل وتفتح الباب لأفكار أخرى تحرك مياها راكدة، وتخلق حيوية ربما نصل بها إلى نتائج مختلفة غير الهزيمة.