الطريق الثالث.. ارتفاع خسائر «الطوفان» وتقويض «الأذرع الإيرانية».. تمهد الطريق إلى «أى سلام» هل انتهى زمن «النضال المسلح» ضد العدو الإسرائيلى؟
دارت معارك السلاح التى أشعلتها إيران وأذرعها (التى سميت تجاوزا بمحور المقاومة) ضد جيش الاحتلال الإسرائيلى المدعوم أمريكيا بسخاء غير مسبوق، وجرى ذلك على أراضٍ عربية تم تدميرها وتخريبها واحتلالها ثمنا لـ«طوفان حماس» الذى مسخ القضية وزلزل الأقصى، وحرق فى طريقه آخر ما تبقى من العقل العربى المهترئ، بعد أن أحاله مثقفونا فى سنوات سابقة إلى أحجية للتبرك ونصرة القضية، فيما استخدم آخرون رماد احتراقه لرسم جداريات تخلد انتصار المقاومة كما تخيلوه، مغفلين حسابات المنطق والعقل وأرقام الخسائر الفادحة التى تحملها بلا ذنب شعبان شقيقان مكلومان، هما الشعبان الفلسطينى واللبنانى، اللذان دُفِعا إلى المذبح بلا ذنب ولا سابق جريمة.
السابع من أكتوبر
منذ أن استيقظنا صباح السبت، السابع من أكتوبر 2023 على ضربة حماس التى أفزعت إسرائيل، وشاهدنا على شاشات الفضائيات القتلى والمخطوفين من شعب الله المزعوم، وأدركنا أن الصفعة حقيقية وقوية وأصابت الهدف، تراقصت القلوب الفلسطينية والعربية، من فرط الفرح وتبادل الجميع التهانى، وعلا صوت القضية من جديد فى البيوت، ورفرف العلم الفلسطينى فوق النوافذ والسيارات وعلى صفحات «السوشيال ميديا».
وشارك فى الفرح فلسطينيو حركة فتح، الذين قُتل ذووهم على أيدى مقاتلى حماس حينما قررت الحركة الانقضاض على سلطة الحكم فى غزة سنة 2007. وفرحت أيضا أنظمة وشعوب عربية تخلصت فى العقد الأخير من سرطان جماعة الإخوان المسلمين (مرجعية حماس وحاضنتها)، بعد أن اقتلعوا جذور الجماعة من المشهد السياسى فى مصر والسعودية والإمارات والكويت والبحرين وتونس.
وتبدلت المشاعر
واضطربت المواقف وتعطل العقل العربى عن العمل، مع تغير الصورة فى الأيام والشهور التالية، التى فيها غرقت غزة فى دماء الشهداء من الأطفال والنساء، وتهدمت المبانى ودمرت أحياء واختلط الهدد بالأشلاء، ونزح الجميع إلى العراء بلا مأوى أو طعام، بلا ماء، فيما تخفى مقاتلو حركة حماس مع مؤنهم فى الأنفاق تاركين المدنيين العزل لمواجهة مصيرهم، أمام عدو زاد فى هذه المعارك من فجره ووحشيته، وأحال القطاع المكلوم إلى أنقاض يقطنها أشباح، بعد أن نزح أهالى غزة من مساكنهم المدمرة فارين من الموت إلى الموت، وبقى أفراد «حماس» تحت الأرض تطاردهم اللعنات وتحاصرهم قوات العدو التى اصطادت منهم ما تيسر، حتى كان الصيد السمين هو الشهيد يحيى السنوار.
الانشطار العدائى
ويمكن تشخيص الأزمة التى يمر بها العقل العربى منذ عقود، والتى بلغت ذروتها بعد الطوفان، بـ«الانشطار» العدائى، تشكلت أعراضه مع ميلاد السلام المصرى - الإسرائيلى فى سبعينيات القرن الماضى، والذى مثّل صدمة عنيفة للعقل العربى الجمعى (وللعقل الإسرائيلى أيضا)، وكلاهما تبلورت أفكاره وتمترس حول رفض الآخر وكراهيته وعدم الاعتراف به.
ثم عمقتها خطوات السلام التالية مرورا بـ«اتفاقية أوسلو» سنة 1993، وصولا إلى مبادرة السلام العربية سنة 2002، وانتهاء بـ«السلام الإبراهيمى» سنة 2020، لتتسع رقعة السلام العربية وتضم العديد من الدول، وكانت السعودية على الطريق لولا الطوفان.
ونشطت جماعات السلام من الطرفين لتشيد جسرا يلتئم به الانشطار، لكن فى المقابل جرى تحفيز المقاومة (الدينية) وتسليحها، لتصبح تيارا مضادا يغتال عملية السلام ويمنح العدو الفرصة لتمزيق اتفاقياتها والإجهاز على ما تبقى من ثمارها.
مشروع النضال
فيما وضع «الطوفان» «مشروع النضال بالسلاح» ضد المحتل فى مأزق كبير إن لم يكن قد قضى على الفكرة، بعد أن أخذتنا حركات المقاومة المسلحة للتهلكة، والمتابع لتاريخ المقاومة العربية خلال القرن الماضى سيصيبه إحباط كبير، فمنذ ولدت المقاومة ضد المحتل والثورة عليه، واتخذت أشكالا منظمة تدعو للتحرر وتطالب بحقوق الشعوب، فشلت أغلب حركاتها ونجح الاستعمار الغربى فى احتوائها والسيطرة عليها بأشكال مختلفة، بل وأسس جماعات مأجورة تتخذ من المقاومة شعارا وموّلها لاستقطاب الغضب الشعبى، والأمثلة كثيرة فى مصر وسائر الدول العربية.
ولا تملك أى حركة مقاومة عربية (أو حتى عالمية) مسارا حتى النهاية، يقدم تاريخا ناصعا ومشرفا يتماهى مع كونها فكرة نبيلة تسعى إلى قيم عظيمة، ويبدو أن هذا أمر يدبر له الخطط بعناية لإفساد هذه الحركات وتدمير صورتها.
ففكرة المقاومة التى هى فى أصلها مشروع مثالى يجذب الحالمين والثوار الوطنيين، تكون دائما فى صراع شرس مع سلطة قوية، وهذه السلطة لا يهدأ لها بال إلا بتحطيم الصورة الخلابة للمقاومة، سواء بالباطل أو بتوريط هذه المقاومة فى خطايا لا تغتفر حتى ينفر منها جمهور المؤيدين، وتسقط عنها الشعبية.
وهذا ما فعلته إسرائيل بالمقاومة الفلسطينية التى عظم الرئيس الراحل أبو عمار دورها ووحد جهودها منذ نهاية الستينيات، وحتى مات مسموما فى مقر السلطة الفلسطينية برام الله قبل أن ينقل إلى مستشفى فى باريس ويلفظ أنفاسه الأخيرة فى نوفمبر سنة 2004، ودراسة تاريخ حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، يكشف لنا كيف يمكن أن تحول حركة مقاومة وطنية شريفة تبهر العالم وتلهمه إلى كيان ملفوظ ومحاصر يكرهه الجميع، وهو أمر تكرر بسيناريوهات مختلفة مع حركتى حماس وجماعة حزب الله، ومع أى حركة مقاومة تسير على نفس النهج.
الازدواجية العربية
ولعل أبرز ما كشفه الطوفان، هو الازدواجية العربية فى التعامل مع القاتل أو المعتدى، ففى الوقت الذى يبكى فيه سائر العرب شهداء فلسطين، شح البكاء على شهداء السودان وندر، وفى موجة الهجوم على إسرائيل واتهامها بحرب الإبادة، لم يقل لنا أحد ما هى تسمية ما يجرى فى الخرطوم وسائر المدن السودانية، هل نسميها حرب ولادة؟، أم حروب قابيل وهابيل؟
ثم يثور العربى غاضبا وتنتفض عروقه، عندما يسمع عن تحرش جندى من جيش الاحتلال الإسرائيلى بامرأة فلسطينية على أحد معابر الداخل فى الضفة الغربية، ويهم بحمل السلاح لنجدتها، فيما تغتصب النساء فى السودان ولا يبالى أحد بهن، حتى التعاطف الجمعى مضطرب وغير مفهوم، فهل الشهامة والنخوة انتقائية؟
ثمن الحرب
الحرب ليست نزهة لطيفة نعود منها لنكمل حياتنا، الحرب محنة كبيرة وحزن قابع فى القلوب لأجيال، ليست القضية فى اسم العدو، فإسرائيل لم تعد الوحيدة التى تذبح العربى المسلم بدم بارد وتسرق أرضه وثروته وتروع الآمنين، فنظرة حولنا فى المنطقة ستكشف حقيقة المأساة وجوهر المشكلة.
إن أزمة العقل والفكر العربى المعاصر أصحبت أكبر من صراع الأيديولوجيات، أو محنة التواصل بين الحداثة والأصالة، أو التصالح بينهما عبر جسور التنوير، ولم تعد فى حجم أو حصة الدين من منظورنا العصرى لهذا العقل، ظنى أن كل ما سبق رفاهية فات زمانها، كان لدى الأجيال السابقة متسع كبير من الوقت ليقدموا عنها الإجابات ويطرحوا علينا من وحى إبداعهم ملامح التجديد.
إن المهمة الأكثر إلحاحا على العقل العربى الآن هى أن يضع تصوراته لليوم التالى فى المنطقة، كى لا تختطفه إسرائيل أو تركيا أو إيران، ويحدد أى منها مصيرنا ومستقبلنا كيفما يتراءى له. علينا أن نفكر بهدوء ونبحث عن إجابات لكافة الأسئلة الصعبة التى استعصى علينا حلها تحت وطأة الطوفان، ولعل أبرز هذه الأسئلة هو ما يتعلق بالسلام بين العرب وإسرائيل، وهل فى ظل الواقع الدولى والإقليمى هناك أى فرصة لسلام عادل وشامل؟، أم أن آخر فواتير الطوفان ستكون «أى سلام»!، وكل ما على العرب هو القبول فى خنوع واستسلام؟