الإثنين 2 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

أراد أن يصبح مثل العقاد أو طه حسين ففشل الفيلسوف المُحبَط

أتصور قبل أن أكتب تحليلا لشخصية «سيد قطب»، أنه لو لم يتم إعدامه، لكان تغير عنوان كتابه «لماذا أعدمونى»؟ ليصبح «لماذا لم أكن مرشدا للإخوان؟» لأن المعضلة الحقيقية فى شخصية «قطب» أنه لم تكن له كاريزما حسن البنا ولا مكانة «أبو الأعلى المودودى» عالميا، ومن قبلهما لم يقدر أن يكون لديه كاريزما «طه حسين» ولا شهرة وتلاميذ «العقاد».. كل هذه الشخصيات التى قلدها أو حاول أن يكون مثلها ذائع الشهرة التى لم ينلها فى وجودهم كانت لها علاقتها المباشرة للإجابة عن سؤالنا «من هو سيد قطب» الذى لا نعرفه؟ وما التفسير لتحول شخصيته التى جمعت مناهج فكرية فى الأدب والفلسفة وعلم النفس؟



يسميه الإخوان فى كتاباتهم «الأديب الشهيد» ولم يرق لأكثر من ذلك عندهم، وهذا له دلالة واضحة، إذ يعتبرونه مصدرا للإيحاء الفكرى فقط، ولكنه لم يصل لديهم إلى مرتبة الملهم والقائد، حتى عندما وضع لنفسه أسسا لتكوين جماعة يكون هو ملهمها «البعث الطليعى» أو «الأسر» فإنه لم يستطع أن يستقطب كما قالت المصادر التى أرادت التعلية من شأنه إلا مائة فرد والتى تقلل منه قالت «٢٥ فردًا» وكان ذلك من داخل السجون فى وقت كانت تكتظ فيها بأغلبية الإخوان، فى كل الأحوال العدد تفسير دقيق على أنه غير قادر على الاحتواء كقائد، ولكن لديه قدرة الإيحاء بأفكار يمكن للبعض اعتناقها والعمل بها ، أو وضعها فى إطار تنفيذى أوسع كما فعلت بعد ذلك الجماعات المتطرفة من استخدام الإرهاب والعنف.

ويعد «قطب» شخصية ذات ظلال فهو دائما فى الطرف الأقصى من الاتجاه الذى يؤمن به.

ويرجع هذا إلى أمرين مهمين الأول أنه شخصية انطوائية على الرغم من علاقاته وبيئته، ثانيا وهو النقيض للانطوائية أنه يميل إلى الظهور والتباهى بنفسه إلى أبعد الحدود، ولكن من وراء ستار هى «الظلال» التى أسدلها على شخصيته فأفقدته ما يأمل فيه، فأصبح محبطًا أكثر منه ملهما للأفكار وهذا ما نراه فى تتبعنا لنشأته والتى دائما ما يبحث حوله عن آخرين متشابهى الظروف معه لتقليدهم. ولكنه أيضا يحبط .. وهكذا. حاول «قطب» أن يلفت النظر إليه مثل شبيهه من الصعيد الجوانى «طه حسين» ابن المنيا وهو ابن أسيوط ويجمع بين الاثنين أنهما من أسر سعى أولياء أمورها لتعليم أبنائهم.

ولد «قطب» فى 9 أكتوبر عام 1906 ودرس فى المدارس المحيطة بقريته «قوشة» ثم غادرها إلى القاهرة عام 1920 ليلتحق بمدرسة المعلمين. وفى عام 1925 التحق بكلية دار العلوم ليصبح حاملا لليسانس الآداب فى عام 1933 وعين بوزارة المعارف مدرسا ثم استمر حتى أصبح مفتشا عام 1940، ثم عمل بالإدارة العامة للثقافة بالوزارة عام 1945 وألف أول كتاب إسلامى له وهو «التصوير الفنى فى القرآن» وابتعد بذلك عن مدرسة العقاد التى كان من مريديها .. وفى نفس العام أيضا أهدى طه حسين كتابه «طفل القرية» الذى حاول أن يحاكى فيه كتاب «الأيام»، ومع تأثره الشديد به إلا أنه كان شديد الهجوم عليه من باب لفت النظر.

فى عام 1947 كانت نقطة التحول الرئيسية لشخصية «قطب» عندما أوفدته وزارة المعارف إلى أمريكا للاطلاع على مناهج التعليم ونظمه، وظل هناك حوالى العامين، حيث عاد إلى مصر عام 1950 وعين فى مكتب وزير المعارف بوظيفة مراقب مساعد للبحوث الفنية ثم قدم استقالته عام 1952.

تحوله جاء فى البعثة بأمريكا تحديدا فى عام 1949 عندما اغتيل «حسن البنا» مؤسس جماعة الإخوان فى خطة من القصر الملكى والبوليس السياسى آنذاك، بست رصاصات وهو خارج من جمعية الشبان المسلمين بشارع رمسيس بالقاهرة، ورأى «قطب» رد الفعل فى أمريكا، وكيف أن حسن البنا كان بعبعا كبيرا لهذه الدولة الفخمة.

هذا جعله يفكر كثيرا لماذا لا يكون «البنا» الثانى فى تاريخ هذه الجماعة ولكن كيف يكون الوصول إلى ذلك؟

فكل منهما كان يعمل فى حقل التعليم ولكن لم يكن مسارهما واحدا فلقد قرأ «قطب» القرآن بقلب الشاعر، ونظر إليه نظرة الملحد الذى يطلب التوبة، وهفت نفسه إلى الرقى الى مرتبة «البنا». ولعل لوجه كل منهما قسماته التى حددت لكل منهما الطريق، هذا علاوة على الفكر الذى لعب كل منهما فيه على أوتار الجماعة، فالبنا كان المؤسس والملهم والكاريزما وصاحب الوجه البشوش والطلعة المريحة التى يأنس إليها الكثيرون، فى حين كان الثانى صارمًا، متجهم الوجه، جاحظ العينين ينم عن أنه لديه الجدية المخيفة التى لا يأنس إليها الكثيرون من أرباب اعتناق الروحانيات، ومن هنا كان مأزق «قطب» الذى حتى لم يسعفه صوته فى التأثير على الناس، فكانت الكتابة ملاذه الأول والأخير لاستقطاب الآخرين، إنه يريد الشهرة والباع مهما كان سواء كان أديبا ومعلما، أو ملهما وزعيما ولذلك اختار ما ألفه ومشى على دربه سنوات ألا وهو «الإيحاء» الذى يلقى بظلاله على الأشخاص فيلفهم فى عباءته. والكلمة المكتوبة فى زمن «قطب» كان لها سحر الكلمة المسموعة والمرئية الآن والفرق بينهما تكنولوجيا بحتًا .

ويتصور البعض أن بداية «قطب» تختلف تماما عن نهايته، وأنه حدث له تحويل جذرى فيما بين النقيضين، وهذا غير صحيح بالمرة، فإن «قطب» هو الفيلسوف الضائع بين حسن البنا وطه حسين، كان يأمل أن يعرف الأول ويؤثر فيه فيصبح المرشد الثانى للإخوان ولم يحدث، واختصم أدبيا مع الثانى وقلد كتاباته حتى يصل لحجمه وأيضا لم يحدث.

وربما يرى البعض أيضا أن «قطب» قضى أربعين عاما من عمره حتى توصل إلى نبذ أفكاره عن الإباحية والإلحادية والجدل المطلق، وهذا غير صحيح، لأن أى إنسان له فترة تنشئة ذهنية تأخذ نفس مسار التنشئة الاجتماعية، بعد ذلك تظهر ملامح الشخصية الحقيقية وهى ماذا تريد من هذه الحياة.

مع قطب كانت الوجهة محددة المعالم فهو يحب أن يكون طه حسين أو العقاد فلم يكن، فوجد أن هناك منحى آخر، وهو إمكانية أن يكون ظلا لشخص آخر قد رحل، ولكنه ذو شهرة، إنه «البنا»، لذلك نرى أن «قطب» عاشق للظلال، ومع أنه يعترف بأنه إنسان له قلب ومشاعر مثل باقى البشر، يحب ويهزم ويتأمل ويتوب، لكن تلاميذه لم يحبوا أن يظهر بهذه الصورة. فلقد أحبوا فيه ما رأوه بالفعل فيه، وليس ما يريد أن يعرفه للآخرين، إنهم أحبوا فيه الصلابة والصرامة والتجهم وهو عكس أوصاف «البنا» إنها معضلة «قطب» الحقيقية النفسية.

فهو دائما ما يريد أن يوصل للناس حقيقته ولكنهم يقرأون وجهه ويردونه إلى ما يرونه فيه، ولذلك فإنه حتى عندما أعلن توبته عن الإلحاد كان المفروض أن يصل إلى اليقين فى إثبات وجود الله، ولكنه مثلما تطرف فى إلحاده تطرف فى إثبات يقين الوحدانية لله، لأن رحلة الإلحاد هى رحلة الوصول إلى اليقين وهذا أمر طبيعى، أما التطرف فى هذا اليقين فهو غير طبيعى.

إنه فقط يريد أن يكون فى دائرة الضوء مقلدا تماما لمن يراه وصل إلى هذه المكانة، أراد أن يلفت نظر الثورة له فكتب فى جريدة الأخبار عام 1952 رسالة مفتوحة إلى الرئيس محمد نجيب يطالبه فيها بإقامة ما أسماه «ديكتاتورية عادلة» كان يريد أن يقضى نجيب على الأحزاب، مثلما قضى على الملك، لأن الاثنين وجهان لعملة الفساد، ورغم أن هذه هى النظرية التى أخذ بها عبد الناصر، إلا أنه لم يجد نفسه صاحب التفسير النظرى والتطبيقى لها، فأعلن الحرب على منفذها.

يعشق «قطب» أن يكون داخل دائرة الضوء التى يتحرك من خلالها وفى فلكها كل من حوله، وقد بدأ فى هذا على مستوى الأسرة الصغيرة التى ينتمى إليها على سبيل التجربة، فكان تأثيره الأول على أشقائه من زوجة أبيه الأولى وهما «محمد ونفيسة». وهذه الأخت غير شقيقة توفى ابنها «رفعت بكر شافع» الطالب بكلية الهندسة فى السجن الحربى عام 1965، وسجن أيضا «عزمی» شقیق رفعت الأصغر، وعذبت الأم «نفيسة» ولم يعف عنها إلا بعد استشهاد ولديها وكان عمرها آنذاك 65 عاما، أما شقيقتاه أمينة وحميدة فقد دخلتا السجن وكانتا حاملتى رسائله وهو بالسجن للإخوان، وأخوه محمد الكبير سجن عامى 1954 1965، وأيضا زوج أخته كمال السنانيرى مات بالسجن عام 1981.

كان هذا على مستوى الأسرة الصغيرة التى قام فيها بتجربة لما ينوى أن يفعله مع «أسر البعث الطليعى» الذى كان يأمل فى إنشائه، وأعتقد أنه لو كان قطب لم يعدم لكان انفصل عن الإخوان وكون جماعة باسم آخر ليصبح أول مرشد لها كما كان يأمل ولكن لم توافه الأيام بتحقيق آماله.

ولكن بعضا من أتباعه القليلين يجدون أنه بركة دعائهم على الظالمين أن نكس الله أعلام عبد الناصر كما دعوا عليه وذلك بعد نكسة يونيو 1967 وبعد إعدام «قطب» بشهور قليلة.

المهم فى هذا كله أن «قطب» «لم يمل ولا يكل»، ومن واقع تحليلنا لشخصيته نجد أنه لعب على أوتار «الشعور» الذى يعانى الظلم ولا يجد له مخرجا فطبق نظرية غسيل المخ التى ربما يكون قد تعلمها فى بعثته بأمريكا، ولا نستبعد أنه عرف وتعلم كيف يمكنه «اللعب فى الدماغ».

تسوقنا شخصية «قطب» إلى تفسير دقيق مغزاه أنه يمكن أن نطلق عليه صاحب «الفتاوى الحسية» التى هى أقوى من الفتاوى الكلامية، دعوته أيضا إلى «العزلة الشعورية»، وهو منطق نفسى بحت يؤكد لنا أن «قطب» لم يمر بمرحلة النقيضين فى الفكر والاتجاه، بل العكس فإنه سخر المرحلة الأولى للوصول والنيل لأهدافه من المرحلة الثانية، فإذا كان هو صاحب نظرية فى النقد الأدبى أطلق عليها «نظرية التصوير والظلال» فإنه تعداها إلى مرحلة استخدام هذين المصطلحين ليمنح كتاباته الإسلامية المتطرفة نكهة التفسير الحركى بمعنى المناداة بتكفير الناس واستخدام العنف لردعهم وهنا لم تكن رسالته بمعناها الروحى بل جسدها وأعطاها روحا ودما وحملها فى يديها السلاح فأصبحت حركة دموية أكثر منها دينية.

نخلص من هذا إلى أن «قطب» رجل ضوء، مقلد إلى أقصى حدود الدرجة حتى فى إعدامه، فإنه كان يتشبه بـ«أبو الأعلى المودودى» المفكر الباكستانى الذى ولد قبله بثلاثة أعوام، إلا أن ظروفهما الاجتماعية كانت متشابهة ولكن الظروف السياسية كانت مختلفة، فـ«المودودى» كان يأسف للإبادة الجماعية التى كان يلقاها المسلمون فى الهند آنذاك قبل قيام دولة باكستان، فحاول أن يوقظ المسلمين الهنود من رقدتهم للدفاع عن أنفسهم فأسس حركة «الجماعة الإسلامية» عام 1941 وأخذت الجماعة تكافح من أجل إقامة دولة إسلامية وكان لها ما أرادت عام 1947، ولكن «المودودى» لم يكن مرتاحا لأن مؤسسى باكستان على حد قوله لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، وأنهم سيكونون أول من يحارب الإسلام فى دولة باكستان ويقصد بذلك جماعته طبعًا.

ولذلك أخذ جماعته وأقام فى الصحراء ينظمهم ويدربهم ليتمكنوا من المواجهة وكان أول من طرح فكرة «الحاكمية لله» وكاد أن يعدم لولا تدخل الدول الإسلامية. فصدر الحكم بالعفو عنه عام 1955 واستمر على حاله حتى توفاه الله وهو فى الستين من عمره وتحول قبره إلى مزار ومن أهم مؤلفاته «المصطلحات الأربع الإله الرب الدين العبادة».

وقد تسللت أفكار «المودودى» عبر زنازين الإخوان فى مصر أثناء حبسهم فى عام 1948، 1954 وسحر عقول البعض منهم وخاصة الشباب.

ولذلك فإن «قطب» أخذ على عاتقه أن يكون «المودودى» المصرى وأيضا عن طريق الشباب الطليعى الذى كان يريد إنشاءه، ووضع أفكار «المودودى» منفتحة بطريقته «القطبية» ومنهجه الفلسفى والنفسى وأيضا ما يجيده من مناهج أخرى فقهية وتاريخية، فصاغ كتابه الذى هربه من داخل سجنه مع أختيه «حميدة وأمينة» وهو فى «ظلال القرآن» ثم أعقبه بكتاب «معالم على الطريق»، وحتى عام 1962 لم يكن «قطب» قد حظى بعضوية مكتب الإرشاد، فأراد أن يجعلهم يطلبونه ويريدون منه المزيد من التعاون، وكان له ما أراد، ولكنهم كانوا بين مؤيد ومعارض له، وكان الهضيبى فى ذلك الوقت المرشد وقال كلمته المشهورة «إن قطب هو الأمل المرجو للجماعة الآن بعد أن ضربت الجماعة فى مقتل»، لكن المعارضين قالوا: «نحن منزعجون لأنه ليس فى نيتنا أن نكفر الناس».

أما «قطب» فإنه أمام هذين الرأيين فقد لوح بعصاه فى وجههم وقال: أنا شكلت مجموعة آمنت بعقائدى وأفكارى داخل السجن عام 1959، وأن المجموعة متصلة بي، غير أننى أرى عدم دمجها بباقى المجموعات لأنهم مكشوفون للبوليس لأنهم مساجين سابقون وتحت العين والرقابة.. ومن هنا تتضح لنا معالم ما كان ينويه قطب مع الإخوان، وهو الانفصال لا محالة.

نرجع مرة أخرى لمحاكاته لشخصية «المودودى» الذى نجا من الإعدام بفضل زعماء ورؤساء الدول الإسلامية، فسار قطب على نفس النهج فقد توسط له الرئيس العراقى عبد السلام عارف وعفى عنه لأسباب صحية عام 1964 بعد حكم خمسة عشر عاما، قضى منها عشرة أعوام فقط .

ويردد أتباعه الذين كان يبث فيهم أنه قلبا وقالبا كالمودودى أنه عندما اعتقل قطب للمرة الثانية عام 1965 وحكم عليه بالإعدام الذى كان تنفيذه فى أغسطس 1966، بأنه وصلت برقيات عديدة من أنحاء العالم العربى والإسلامى تطالب عبد الناصر بالعفو عنه وعدم تنفيذ حكم الإعدام.

وكان الملك فيصل قد أرسل برقية لعبد الناصر وصلت قبل الإعدام بيوم، فقال عبد الناصر لسامى شرف اعدموه فى الفجر ثم اعرض على البرقية، واعتذر بعد ذلك للملك فيصل.

بالطبع هذا كلام غير منطقى، لأن عبد الناصر قد عرف مضمون البرقية سواء عرضت عليه أم لم تعرض، فقد أراد أن ينفذ حكم الإعدام فى «قطب»، ولكن قطب أراد أن يردد أتباعه بأنه لا يقل عن «المودودى» فى المكانة، فالوساطة فى الإعدام واحدة ولكن التنفيذ اختلف.. ومن هنا فإن شخصية «قطب» تحاكى الغير حتى في الممات.