الطريق الثالث.. استدعاء (الضرورة) للأستاذ هيكل من بين الكتب إلى ساحة الحرب فى الشرق الأوسط (17) «يا مال الشام» فى مواجهة القدر.. سوريا بين الفرح والحذر
يصاحبنى هذه الأيام، أيام سوريا الحبيبة، صوتها الصداح ومطربها الأشهر صباح فخرى، وتلح علىّ كثيرا رائعته «يا مال الشام.. يا الله يا مالى، طال المطال.. يا حلوة تعالى» تذكرنى بجذور المحبة الممتدة لإقليمنا الشمالى (وصف سوريا خلال فترة الوحدة مع مصر فى نهاية خمسينيات القرن الماضى)، ترسم على القلب ابتسامة حذرة يحاصرها القلق والترقب، يشاركنى فى ذلك كثير من المصريين الخائفين على الأشقاء فى سوريا.
هذه هى مشاعرنا الصادقة الدائمة تجاه الحبايب فى الشام، اللقب الأجمل لدمشق العاصمة التى سقطت قبل أيام تحت أقدام مقاتلى «هيئة تحرير الشام»، ولا ندرى ماذا هم بها فاعلون ولا ببقية المدن التى أصبحت تحت سيطرتهم!
وكانت قد تجلت محبتنا فى احتضان الأشقاء منذ أن غدرتهم السياسة وفرقهم الصراع المسلح ففروا بأرواحهم إلى وطنهم الثانى، وبدأوا يتدفقون على مصر منذ العام 2011، عندما أطاح باستقرارهم المؤلم فى قبضة أسرة الأسد، ثورة جامحة من موجات زلزال الربيع العربى، والتى تحولت من ثورة حالمة بالتغيير بفعل الأصابع الخارجية إلى حرب أهلية سورية مدمرة، استنفدت مقدرات الدولة السورية وكسرت سيادتها على كامل حدودها، لتترنح وتتداعى تدريجيا حتى آلت فى نهاية مطاف (13 عاما) من الصراع بين النظام والمعارضة بكافة أشكالها، إلى جماعات تدين بالإسلام السياسى كمنهج حكم، تسرق به الأوطان وتدفعهم إلى هاوية سحيقة، ولن نقدر أن ننسى تجربة مصر مع حكم الإخوان، وما جرى لغزة تحت إدارة حماس، وليبيا الشقية واليمن المهلهل ولبنان الذى اختطفه حزب الله وجعله طوال سنوات ماضية مطية شيعية؛ ولاؤها للمرشد الأعلى فى إيران.
تجارب الدين السياسى
لقد تجرع الشرق الأوسط من الإسلام السياسى حتى الثمالة، وسوريا بسيادتها المنقوصة واقتصادها المحطم، وانهيار جيشها وشرطتها، تحت حكم الفصائل هى على حافة الهاوية، ولن ينقذها إلا معجزة من السماء، نسأل الله أن تكن أبواب سمائه مفتوحة ويتقبل دعاءنا وينجو الشعب السورى مما يحاك له.
وكان موقع «إندبندنت عربية» قد نشر مقالا مترجما عن «فورين أفيرز»، جاء بعنوان «مرحلة ما بعد الأسد»، يلخص جملة المخاوف ويحلل الواقع السورى، موضحا أن: «مستقبل سوريا والمنطقة ككل ملىء بعدم اليقين، فالاشتباكات مستمرة بالفعل بين الفصائل المسلحة التابعة للجيش الوطنى السورى المدعوم من تركيا فى الشمال وقوات سوريا الديمقراطية «قسد» ذات الغالبية الكردية. وفى حين يشعر معظم السوريين بالابتهاج، بمن فى ذلك ملايين المنفيين الذين بدأوا يعودون لديارهم من لبنان وتركيا وأماكن أخرى، فإن مصير عدد من الأكراد الذين طردتهم تركيا سابقًا من عفرين ومناطق أخرى فى الشمال أقل يقينًا. لا يزال آلاف من مقاتلى تنظيم داعش محتجزين فى سجون شمال شرقى البلاد تحت سيطرة «قسد». وإذا هرب هؤلاء المقاتلون أو عاودت خلاياهم تنظيم صفوفها، فسيشكلون تهديدًا كبيرًا لأية حكومة تأتى بعد الأسد وللمنطقة بأسرها».
لم تنته القصة
وتحت عنوان «لم تنتهِ القصة بعد فى سوريا!»، نعود إلى كتاب «ما الذى جرى فى سوريا» للأستاذ محمد حسنين هيكل، الذى أشرت إليه فى مقالى السابق والصادر سنة 1962، حيث قال فيه: «ومازالت أمام جماهير الشعب هناك (فى سوريا)، معركة عنيفة وقاسية، ضد خطط الرجعية العربية المتحالفة مع الاستعمار وأدواته فى المنطقة، ابتداءً من شاه إيران عند الحافة الشرقية للعالم العربى إلى دافيد بن جوريون، عند الغرب على شاطئ البحر الأبيض».
ومعهم آخرون يتصارعون على سوريا؛ ذكرهم الأستاذ تباعا:
«.. تركيا، لا تريد خلف ظهرها سوريا قوية، متحررة، متحدة مع عالم عربى قوى ومتحرر، يمتد من المحيط إلى الخليج وتصبح تركيا قياسًا له دولة صغيرة معزولة، وهى التى كانت دومـًا، وهى التى كان خليفتها العثمانى آنذاك صاحب السمع والطاعة فيه!».
«... بقايا الرجعية العربية، محتكرة الأرض فى سوريا، تاجرة الطائفية فى لبنان، مهربة المخدرات فى الأردن، جلادة العبيد فى شبه الجزيرة العربية!».
«... إسرائيل التى تعلم أن تقدمها مرتبط بتأخر الأمة العربية، وقوتها مستمدة من الضعف العربى، وحياتها فى أن يموت جميع العرب!».
لم تتغير أسماء الدول المتربصة بسوريا، تغير حكامها وبقيت أطماعها وألاعيبها المستمرة كى لا تستقر سوريا وتنهض، وما يزال هذا الوضع قائما حتى بعد سقوط نظام البعث السورى وتنحى الأسد الابن عن الحكم.
صفحة جديدة!
يقول أحمد الشرع (أبو محمد الجولانى) إنه سيغلق السجون سيئة السمعة ويؤسس جيشا جديدا يحمى البلاد، فيما تعهد رئيس الحكومة السورية الانتقالية محمد البشير، بأن السلطات الجديدة ستضمن التعايش و«حقوق جميع الأديان».
ومن يضمن هذا العهد أو ذاك، أو أى كلام معسول يقوله أبو محمد، أو أى أب آخر؟، لا ضامن بالطبع فى ظل حالة السيولة السياسية والعسكرية المهيمنة على المشهد والتى لا حديث فيها عن موعد واضح للانتقال من شرعية السلاح إلى شرعية دستورية، تضمن تمثيلا واضحا للشعب السورى بمختلف طوائفه وأعراقه، وهى مسألة حاكمة لأى حديث عن المستقبل فى سوريا.
وضاع الجيش الأول
ويبدو أن قدر سوريا أن تبدأ من الصفر عسكريا بعد تبخر أفراد جيشها فى ظروف غامضة، وتراجع دوره بشكل مفاجئ خلال الأيام العشرة التى سبقت سقوط بشار الأسد.
ثم بعد سقوطه انقضت إسرائيل على ما تبقى من بنية عسكرية وشنت مئات الضربات الصاروخية على أهداف تخص الجيش العربى السورى، الذى كان فى الفترة (1958: 1961) هو الجيش الأول للجمهورية العربية المتحدة، فيما كان الجيشان الثانى والثالث فى الإقليم الجنوبى (مصر)، ورغم انتهاء الوحدة بين البلدين الشقيقين منذ أكثر من 6 عقود، لاتزال مصر تحفظ لجيشيها اسم (الثانى والثالث) بما يعنى أن جيشنا الأول أيام دولة الوحدة كان فى سوريا، ولعلنا ندرك من ذلك الأثر السلبى الكبير على الأمن القومى المصرى بالقضاء على الجيش العربى السورى، وكيف أغمضت «هيئة تحرير الشام» عيونها عما تفعل إسرائيل سواء بانقضاضها على «اتفاقية فض الاشتباك سنة 1974»، أو توغلها البرى بعمق تجاوز 14 كيلو مترا داخل الأراضى السورية بعيدا عن المنطقة العازلة، بين هضبة الجولان المحتلة والداخل السورى، واستيلاء جيش الاحتلال على منطقة «جبل الشيخ» الاستراتيجية المتاخمة للحدود اللبنانية.
فيما أدانت مصر، ما وصفته بـ«استيلاء» إسرائيل على المنطقة العازلة مع سوريا والمواقع القيادية المجاورة لها. وقالت وزارة الخارجية المصرية فى بيان رسمى إن سيطرة إسرائيل على هذه المنطقة يمثل «احتلالا لأراض سورية، وانتهاكًا صارخًا لسيادتها ومخالفة صريحة لاتفاق فض الاشتباك لعام 1974». وأكدت مصر أن هذه الممارسات «مخالفة للقانون الدولى وتنتهك وحدة وسلامة الأراضى السورية». المفارفة أن إسرائيل والقانون الدولى «don't mix».