ليس كل يهودى يهوديًا.. والسلام !
يميل الخطاب السياسى والإعلامى فى العالم بأسره إلى تبسيط الأمور واختزالها إلى صيغ سريعة وقوالب لفظية جاهزة يسهل على المرء استيعابها، فلا يكد ولا يتعب فى محاولة فهمها، ويعود هذا بطبيعة الحال إلى إيقاع عصرنا الحديث، فالإنسان ينتقل بسرعة من مكان لآخر، وتسلط على حواسه كمية هائلة من الصور والرموز والإشارات والأحاسيس والمعلومات، إن حاول التأمل فيها ليصل إلى معناها العميق، أصيب جهازه العصبى بالعطب، خاصة أن هذه الصور والإشارات تأتيه إما خارج أى إطار أو داخل أطر متعددة متناقضة متشابكة، مما يؤدى إلى ظهور حالة من التعددية المفرطة وغياب بؤرة للعالم.. أمام كل هذا يجد الإنسان نفسه مضطرًا لأن يذعن لما يأتيه من إشارات ومعلومات، تهاجمه وتهاجم حواسه فيتلقاها مسترخيًا ويتقبلها بسلبية مدهشة.
وقد ساهم فى ذلك بنية الإعلام الحديث، فعدد الصحف اليومية هائل. وكم الأخبار والآراء والفضائح لا حصر له ولا عدد، وقد أدمن إنسان القرن العشرين قراءة الأخبار والفضائح دون فحص أو تمحيص، هذا من ناحية المتلقى، ولكن الأمر لا يختلف كثيرا من ناحية مرسل الرسالة، فالمحرر المسكين الذى عليه أن يكتب عن هذه الأخبار والفضائح، وأن يلخص الآراء والرؤى يطلب منه أن يفعل ذلك فى مساحة لا تتجاوز بضعة سطور، وقل نفس الشيء عن الإذاعة والتليفزيون، فهناك مئات القنوات التليفزيونية، الفضائية والمحلية، يجلس أمامها المشاهد متلقيًا سلبيًا. تمر الصور أمام عينيه بصدقها وكذبها، بسطحيتها ولمعانها، والمسكين لا يملك من أمره شيئًا، أما مرسل الرسالة فهو ليس أحسن حظًا، فهو قد يطلب منه أن يعطى تحقيقًا أو تعليقًا دقيقًا وشاملًا وكاملًا عن الأوضاع فى العصر الحديث فى دقيقتين أو ثلاث. وعلى الجميع. المتلقى والمرسل، أن يذعن لهذه الحدود التى فرضها الإنسان الحديث على نفسه فى عصر المعلومات وثورة الاتصالات وأصبح الحديث بسرعة الآلات الجهنمية، فضيلة الفضائل، وأصبحت كتابة عشرات المقالات فى الأسبوع الواحد قمة العبقرية، وأصبح الإيجاز الذى يؤدى إلى الاختزال هو الهدف الأسمى.
والأمر لا يختلف كثيرا عندنا، فنحن أيضًا نتحدث بسرعة هذه الأيام. ونختزل واقعنا وواقع الآخر (العدو والصديق) فى بضع معادلات فكرية واضحة وقوالب لفظية ساذجة يتلقاها القارئ والمستمع العربى ويبتلعها دون تساؤل واجتهاد، ولكن الطامة الكبرى أننا لا نفعل ذلك مع التفاصيل وحسب، فالاختزال المخل والنمطية المضللة أصبحت سمات أساسية فى خطابنا التحليلى بالنسبة لكل من الأساسيات والفرعيات، بحيث أصبحنا نتحرك داخل عموميات لا تصلح إطارًا لإدراك الواقع، بل إنها تحجب عنا نتوءه وتعرجاته، وما أسميه «المنحنى الخاص للظاهرة»، ولهذا نجد أن الواقع يفاجئنا دائمًا، فنحن نعرف أن كل اليهود صهاينة، وكل الصهاينة يهود ثم نضع كل اليهود فى سلة واحدة. لا نفرق بين «الشامى والمغربى»، مع أن الاختلافات بينهما واضحة، ولا بين الصهيونى الاستيطانى (الذى يستوطن فى إسرائيل)، والصهيونى التوطينى (الذى يدفع نقودا لتوطين اليهود الآخرين) ولا بين اليهود الصهاينة واليهود المعادين لها والمتملصين منها، فالجميع يهود والسلام، أو «صهاينة» والسلام.
ويفترض كثير من الدارسين أن كلمة «يهودى» لها نفس التحدد والوضوح، فيتحدثون عن اليهود وكأنهم كتلة واحدة متماسكة ومتجانسة فعلًا، ويوجد فى اللغة الإنجليزية على سبيل المثال، كلمة Jewry والتى تعنى اليهود باعتبارهم كلاً متماسكًا. ويصبح افتراض الوحدة والتماسك والتجانس أقل كمونًا وأكثر وضوحًا، حينما يتحدث الباحث عن اليهود باعتبارهم «الشعب اليهودى» و«الأمة اليهودية»، وهو ما يعنى أن اليهود ينتمون إلى تشكيل حضارى واحد، وأن لهم تاريخًا واحدًا ومصيرًا واحدًا، ومستقبلاً واحدًا. وربما عرقًا واحدًا وانتماءً ثقافيًا واحدًا، وأن مصالحهم واحدة وتطلعاتهم واحدة. وأن العناصر المشتركة بين يهود العالم أكثر أهمية من العناصر غير المشتركة، ولكن من الثابت تاريخيًا أن الجماعات اليهودية المنتشرة فى أرجاء العالم كانت توجد فى مجتمعات مختلفة تسودها أنماط إنتاجية مختلفة، وبنى حضارية اختلفت باختلاف الزمان والمكان، فيهود اليمن فى أواخر القرن التاسع عشر كانوا يعيشون فى مجتمع صحراوى قبلى عربى، أما يهود هولندا فكانوا فى الفترة ذاتها يعيشون فى مجتمع حضرى رأسمالی غربی، أما يهود جنوب أفريقيا فكانوا يعيشون فى مجتمع استيطانى عنصرى، ولكل هذا نجد أن سلوك اليهودى اليمنى ورؤيته للكون تحكمها إلى حد كبير عناصر البناء التاريخى العربى الذى يعيش فيه تماما ،كما تحكم سلوك يهود هولندا ويهود جنوب أفريقيا مكونات البناء التاريخى الغربى الهولندى أو الجنوب أفريقى.
ويتضح عدم التجانس بين اليهود فى اللغات التى يتحدثون بها فهى تختلف باختلاف المجتمع الذى ينتمون إليه، فهم يتحدثون الإنجليزية فى البلاد التى تتحدث بها، والفرنسية فى فرنسا والجورجية فى جورجيا، والعربية فى العالم العربى، بل إن الرداء الذى يرتديه الحاخامات اليهود يختلف باختلاف المجتمعات التى ينتمون إليها، ففى فرنسا يرتدى الحاخامات زيا قريبا من زى رعاة الكنائس الهيحبيوت (بروتستانت). أما فى إنجلترا فزيهم قريب من زى قساوسة الكنيسة الإنجيليكانية. وفى الدولة العثمانية كانوا يرتدون الجبة والعنترية والعمامة، أما فى الولايات المتحدة فهم لا يرتدون زيا خاصا إذا كانوا من اليهود المحافظين أو الإصلاحيين. شأنهم فى هذا شأن رعاة الكنائس البروتستانت، وينطبق نفس الشىء على طعام اليهود وملبسهم، فلا يوجد طعام أو ملبس يمكن تصنيفه باعتباره يهوديا. بل إن تأثر اليهود بمحيطهم الحضارى من العمق بحيث نجد أن نساء يهود بخاری محجبات، بينما فى البرازيل ترتدى النساء اليهوديات آخر الموضات وأكثر المايوهات إباحية ما بعد (تسمى الـ Post - bikini البكينى على وزن ما بعد الحداثة)، وقد علمت من أحد الأصدقاء أن اليهود الذين هاجروا من مصر إلى إسرائيل.
وحتى لو كان ثمة خاصية ما تفصل أعضاء إحدى الجماعات اليهودية عن محيطها الحضارى، فإن هذه الخاصية مثل (تكلم يهود شرق أوروبا بالبديشية ويهود أسبانيا باللادينو) تظل مقصورة على أقلية يهودية بعينها ومرتبطة بملابسات تاريخية وأوضاع اجتماعية وفترة زمنية محددة، وبالتالى فهى ليست خاصية يهودية عامة أو عالمية، وإنما هى خاصية تتسم جماعة يهودية ما بها، توجد داخل زمان ومكان محددين، وهى من ثم لا تربط بين هذه الجماعة اليهودية وغيرها من الجماعات، بل بالعكس أنها تزيدها فرقة وتنوعًا، فالبديشية ليست لغة يهود العالم، وهناك من يحارب ضدها مثل الصهاينة الذين يفضلون العبرية أو دعاة الاستنارة ممن كانوا ينظرون لها باعتبارها لغة الغش التجارى والتخلف الحضارى، وحتى نبلور أطروحتنا بشكل درامی أمام عينى القارئ، فلنعقد مقارنة بين يهود الولايات المتحدة (أكبر تجمع يهودى فى العالم) ويهود الفلاشا (تجمع صغير هامشی).
ينتمى يهود الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، إلى الجنس الأبيض، وأغلبيتهم الساحقة من أصل إشكنازى (ألمانى أو روسی - بولندى) وتوجد قلة من السفارد والقرائين والكرمشاكى (وهم ينتمون إلى جماعة يهودية صغيرة فى شبه جزيرة القرم، ويتحدث أعضاؤها بالتترية، ويبدو أنهم من بقايا يهود الخزر) وهناك أيضاً بعض الأمريكيين السود الذين يدعون «العبرانيين السود»، وهؤلاء يؤمنون بعقيدة شبه يهودية تتحدث عن مؤامرة الإنسان الأبيض لفصل آسيا عن أفريقيا عن طريق شق قناة السويس، ويدعون أنهم هم العبرانيون الحقيقيون. ومن ثم يرون أنهم وحدهم أصحاب الحق فى استرداد إسرائيل والاستيطان فيها وحكمها، وتوجد جماعة منهم فى شيكاغو هاجرت أعداد منها إلى إسرائيل، حيث استقروا فى جوار ديمونا وفى أماكن أخرى. وهؤلاء لا تعترف إسرائيل والمؤسسات الحاخامية بهم بطبيعة الحال، ولذا فهم يشكلون أقلية منبوذة داخل كل من الدولة الصهيونية والجماعة اليهودية فى الولايات المتحدة.
أما الفلاشا، فهم من يهود إثيوبيا، وملامحهم لا تختلف من قريب أو بعيد عن ملامح بعض قبائل أو أقوام إثيوبيا، وإذا كان هناك بينهم من تنويعات، فهى تنويعات تشبه فى بعض الوجوه التنويعات الموجودة فى مجتمعهم، وهناك جماعة الفلاشاموراه، وهى جماعة مسيحية شبه يهودية منبوذة من الفلاشا كانت قد تنصرت منذ ما يقرب من قرنين من الزمان.
ومن الناحية الدينية، ينقسم يهود الولايات المتحدة إلى قسمين أساسيين يهود اثنيين لا إداريين، ويهود متدينين، ويتعبد اليهود الدينيون فى الولايات المتحدة فى المعبد اليهودى (السيناخوج) ويرأسهم حاخام. ولا يقيمون معظم الشعائر ولا يكترثون بالطعام الشرعى أو بشعائر السبت والطهارة والنجاسة.
أما الفلاشا، فهم أساسًا خارج نطاق اليهودية الحاخامية، ولا يعرفون التلمود وتختلف بعض شعائرهم عن شعائر اليهودية الحاخامية، فشعائر الطهارة والنجاسة عندهم مركبة وشاملة، ومع هذا فهم يقيمون شعائرهم كلها (وقد صدموا حينما هاجروا إلى إسرائيل بسبب انصراف أعضاء الدولة اليهودية عن الشعائر اليهودية) ويرأس يهود الفلاشا قساوسة (يقال لهم قسيم) وهم يعرفون نظام الرهبنة إذ فيهم رهبان وراهبات، ويصلون فى معبد يهودى يسمى المسجد، ويخلعون نعالهم قبل دخوله، ويبدو أن عبادتهم دخلت عليهم عناصر إسلامية كثيرة حتى أن الصحف الإسرائيلية أطلقت عليهم اصطلاح «الفلاشا السنيون».
ومن ناحية اللغة، فإن يهود الولايات المتحدة يتحدثون بالإنجليزية، ويعرف بعض علمائهم العبرية والآرامية، كما توجد العبرية فى بعض كتب الصلوات، أما يهود الفلاشا، فهم يتحدثون بالأمهرية (ويتحدث بعضهم بالتغرينية).
ويتعبدون بالجعيزية، لغة الكنيسة القبطية الإثيوبية، ويضم كتابهم المقدس بعض نصوص العهد الجديد. ولكل جماعة يهودية خطابها الحضارى وفولكلورها الذى ينبع، فى حالة يهود أمريكا من محيطهم الحضارى الحالى (الأمريكى)، أو من محيطهم الحضارى السابق (روسيا - بولندا - ألمانيا - إنجلترا، أما فى حالة يهود الفلاشا، فهو ينبع كله فى محيطهم الحضارى الأثيوبى الأفريقى، وفى حين أن اليهودى الأمريكى يرتدى بنطلون «الجينز» ويأكل الهامبورجر، ويرقص الديسكو ويعيش فى منزل عصرى، وقد يطعم حديثه ببعض الكلمات البديشية. ويتحدث بعض الحسيديين منهم بالبديشية، كما يحتفظ بعضهم بالأزياء التى كانوا يرتدونها فى شرق أوروبا، فإن يهودى الفلاشا يرتدى شالاً لا يختلف عما يرتديه مَن حوله من أبناء إثيوبيا، وهو يأكل طعامهم ويرقص الرقصات المعروفة فى منطقته، ويعيش فى كوخ مغطى بالحطب لا يختلف من قريب أو بعيد عن الأكواخ المجاورة، والوضع الاجتماعى ليهود أمريكا (نسبة الطلاق - الوظائف - المهن) ورؤيتهم للكون مختلفة تماما عن وضع الفلاشا ورؤيتهم، ولهذا كله، فبينما كانت الدولة الصهيونية تتلهف لهجرة يهود الولايات المتحدة إليها، فإنها كانت ترفض هجرة الفلاشا حتى سنة 1973، ولئن كانت الدولة الصهيونية تشجع هجرتهم الآن. فليس ذلك بسبب أى تغيير طرأ على هويتهم. وإنما بسبب تغييرات طرأت على سياسة الدولة الصهيونية، بل أيضاً على هويتها ومدى حاجتها إلى العنصر البشرى، بل إن الدولة الصهيونية بدأت ترحب بالفلاشا موراه، مع أن هؤلاء لا يمكن اعتبارهم يهودًا مهما يتم من تطويع للكلمات قسرًا.
وإذا كان يهود الفلاشاة يكونون وحدة إثنية ودينية متماسكة، فيهود الولايات المتحدة كما أسلفنا غير متماسكين ويظهر هذا بشكل واضح فى الانقسامات الدينية.
ويمكن تقسيم يهود الولايات المتحدة إلى قسمين أساسيين:
1 - يهود إثنيون، وهؤلاء فقدوا كل علاقتهم باليهودية والموروث الدينى ويرون أن يهوديتهم تكمن فى إثنيتهم. أى فى طعامهم وشرابهم وطريقة رفضهم وأكلهم، أى أنها مسألة ليس لها أية علاقة بالعقيدة. ويشار إلى أعضاء هذا الفريق أحيانا بأنهم اليهود الملحدون.
2 - يهود يؤمنون بالعقيدة اليهودية، ولكن هؤلاء ينقسمون إلى شيع وفرق:
أ- اليهودية الأرثوذكسية وهؤلاء يؤمنون بالإله واليوم الآخر وأن التوراة منزلة من الإله ويرون ضرورة إقامة كل الشعائر.
ب - يهود يؤمنون بصيغ مخففة من اليهودية وتهمش الإيمان بالإله ولا تكترث كثيرا بإقامة الشعائر، بل يصل الأمر (فى حالة اليهودية المحافظة والتجديدية) إلى رؤية كتب اليهود المقدسة باعتبارها كتب فلكلور تعبر عن الروح القومية اليهودية، مما يجعل الإيمان الدينى لا يختلف فى واقع الأمر عن الانتماء الإثنى، ولذا فأتباع هذه المذاهب لا يقيمون الشعائر إلا على نحو جزئى من قبيل الحفاظ على الفلكلور ورفع الروح المعنوية والحفاظ على الهوية الإثنية.
وقد أباحت اليهودية الإصلاحية والمحافظة ترسيم النساء حاخامات، والاختلاط بين الجنسين أثناء الصلاة بل أباحت الشذوذ الجنسى بين الذكور والإناث، بل يرسم الآن الشواذ والسحاقيات حاخامين (يوجد مدارس دينية [يشيفات] فى كاليفورنيا لتدريب مثل هؤلاء) والأغلبية الساحقة من يهود العالم الغربى إثنية أو محافظة وإصلاحية ولا يشكل الأرثوذكس سوى أقلية لا تزيد على 5 %، ويلاحظ إقبال أعضاء الجماعات اليهودية على ما يسمى العبادات الجديدة (الماسونية - البهائية - ديانات العصر الجديد - عبادة جايا، أى الأرض)، وهى عبادات شبه وثنية، صوفية بدون إله، ومع هذا فهم يستمرون فى تسمية أنفسهم يهودا، تماما كما يسمى اليهودى الملحد نفسه «يهوديًا»، بل يدافع بحرارة بالغة عن انتمائه اليهودى رغم عدم إيمانه بأى من عناصر العقيدة اليهودية!
فى هذا الإطار من عدم التجانس فى الانتماءات الدينية والإثنية اليهودية يصبح تعريف من هو اليهودى مسألة فى غاية الصعوبة وثمة عنصرين من هذا الأمر:
1 - عرف الشرع والموروث الدينى اليهودية.. اليهودى بأنه من ولد لأم يهودية أو تهود بحسب الشريعة، وهو ما يعنى أن هناك أساسًا عقائديًا (التهود والإيمان باليهودية) وأساسًا عرفيًا ماديًا (لأم يهودية، أى الخصائص الوراثية)، فالانتماء إلى اليهودية يمكن أن يتم على أساس أى من المنطلقين، ولذا يظل اليهودى يهوديًا على الرغم من إلحاده باعتراف الشرع اليهودى نفسه (وهذا أمر ينفرد به الشرع اليهودى دون الإسلام أو المسيحية).
2 - تطورت اليهودية وتعددت مدارسها وفرقها فى غياب مركز دينى أساسى يحدد المعايير الدينية، وما هو مقبول وما هو مرفوض، ولذا تفتقد اليهودية لأية معيارية، ويمكن لأى يهودى أن يعلن أنه يهودى حتى لو لم يؤمن بالإله أو التوراة ويمكن له أن يغير الشعائر حسب هواه، وفى الغالب سيجد سابقة تاريخية داخل التراث الدينى اليهودى.
تجاهلت الحركة الصهيونية الواقع الدينى والإثنى للجماعات اليهودية فى العالم وأعلنت أن اليهود شعب واحد (ومقولة أن اليهود كل واحد متجانس هى حجر الزاوية للأيديولوجية الصهيونية التى يروج لها «أعداء» الصهيونية فى العالم العربى)، وهى الفكرة الأساسية فى بروتوكولات حكماء صهيون التى يدمن الكثيرون تعاطيها فى عالمنا العربى، وبدأت الحركة الصهيونية نشاطها وأسست الدولة الصهيونية انطلاقًا من مفهوم الشعب اليهودى الواحد، وقد أصدرت الدولة الصهيونية عدة قوانين تعطى حقوقًا لصاحب هذه الهوية اليهودية المزعومة، ولكن أول هذه القوانين قانون العودة (عام 1950) الذى يعطى لأى يهودى الحق، أينما كان فى الهجرة إلى إسرائيل والاستيطان فيها ثم صدر عام 1952 قانون تكميلى هو قانون المواطنة الإسرائيلية والذى يمنح الجنسية الإسرائيلية لكل المهاجرين اليهود.
ولكن كلا القانونين لم يعرف من هو اليهودى ( خشية انقسام المجتمع الاستيطانى الصهيونى) وتركت القضية معلقة.
ولكن تفجرت القضية بعد إعلان الدولة مباشرة ففى الخمسينيات بدأت المؤسسة الأرثوذكسية فى الخارج تضغط على المؤسسة الدينية فى إسرائيل حتى تتبنى موقفًا أكثر تشددًا من مسألة تعريف اليهودى (تزامن ذلك مع موجة من الهجرة من شرق أوروبا التى ضمت عدداً كبيرًا من الزيجات المختلطة) وتفجرت قضية من هو اليهودى هل هو اليهودى على أساس الشريعة، أم على أساس إحساسه الذاتى (اليهودى هو من يشعر فى قرارة نفسه أنه كذلك) أم أنه هو الإنسان الذى يضطره الآخرون أن يصبح يهوديًا (اليهودى هو من يراه الأغيار كذلك) أم على أساس عرقى أو إثنى (اليهود هو من ينتمى إلى العرق اليهودى أو الجماعة الإثنية اليهودية).
ولكن التفجر الحقيقى للقضية كان على يد الأخ دانيال الذى ولد لأبوين يهوديين (فهو يهودى حسب الشريعة)، ولكنه تنصر وتكثلك وترهبن وطالب بالجنسية الإسرائيلية حسب قانون العودة، وقد ذكر فى طلبه أن الشريعة اليهودية تقرر أن اليهودى لا ينسلخ بتاتًا عن دينه اليهودى مهما بلغت ذنوبه ثم أضاف:.. إذا كان بوسع الملحد أن يظل يهوديًا، فمن باب أولى أن يعتبر هو المسيحى يهوديًا، ورفضت المحكمة العليا طلبه عام 1966 ثم صدر عام 1970 تعديل لقانون العودة وعرف اليهودى بأنه من ولد لأم يهودية بشرط ألا يكون على دين آخر، ونص التعديل أيضًا على أن اليهودى هو المتهود ولا يزال هذا هو التعريف المعتمد، ولكنه أثار غضب المؤسسة الأرثوذكسية إذ إنه يعترف ضمنًا باليهود المتهودين على يد حاخامات إصلاحيين أو محافظين؟
وهم فى نظر الأرثوذكس ليسوا يهودا، ولذلك يطالب الأرثوذكس بإضافة عبارة، «تهود حسب الشريعة» أى على يد حاخام أرثوذكسى، ولكن تعديل قانون العودة سيؤدى إلى استبعاد ما يقرب من ٨٠٪ من يهود العالم وربما أكثر ممن لا يقبلون اليهودية الأرثوذكسية، ومما يفاقم الوضع تصاعد معدلات الزواج المختلط بين يهود العالم، فالمؤسسة الأرثوذكسية لا تعترف بمثل هذه الزيجات، وتبلغ نسبة الزواج المختلط حوالى 60 % من كل الزيجات المبرمة بين أعضاء الجماعات اليهودية فى الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى (سابقا).
إن قضية من هو اليهودى ليست قضية ثانوية ولا هامشية، فشرعية الدولة الصهيونية تستند إلى يهوديتها المزعومة، وفشلها فى تعريف من هو اليهودى هو فشل فى تعريف أساس الشرعية، كما أن هذا الفشل يجعل من العسير على اليهود أنفسهم تصديق مقولة الشعب اليهودى الواحد.
فالوضع فى إسرائيل يثبت حقيقة عدم التجانس بين أعضاء الجماعات اليهودية فى العالم.
ونحن إن وضعنا كل هذه العناصر فى الاعتبار يصبح من السهل علينا تفسير حوادث قد تبدو متفرقة مثل: إحجام يهود الغرب عن الهجرة إلى إسرائيل.
المعاناة التى تلقاها الفلاشاة فى أرض الميعاد، الصدامات الحادة بين الدينيين والعلمانيين، الأزمات الوزارية المستمرة، وأخيرًا هروب بضع أسر إسرائيلية سفاردية إلى منطقة الحكم الذاتى.
ولكن حتى لا أعطى انطباعًا خاطئًا بأننى من المنادين بأن الكيان الصهيونى سينهار من الداخل بفعل التناقضات الداخلية، فالأزمة غير الانهيار والأزمة يمكن أن تستمر عشرات السنين.
ويمكن تهميشها والتعايش معها إن لم يقم عنصر خارجى بتفجير التناقضات من خلال الضغط، أى إن لم يتحرك العرب فالأزمة ستستمر، والتهام الأرض العربية هو الآخر سيستمر إن لم نذكر المستوطنين أن «الآخر» موجود.. يقاوم ويطالب بحقوقه والله أعلم.