الطريق إلى الثأر

إحسان عبدالقدوس
فى هذه المرة، لم ينكر اليهود اعتداءهم ولم ينكروا أن طائراتهم قد أغارت على خطوطنا وأن جبناءهم قد هاجموا مواقعنا، بل إن ممثلهم فى دوائر هيئة الأمم وجد أن من حقه أن يدعو إلى مؤتمر صحفى عالمى يعلن فيه بكل صراحة- أو بكل وقاحة- أن دولته المزعومة قد استأنفت الحرب فى القطاع الجنوبى من فلسطين.
ورغم هذا الاعتراف الصريح الوقح لم تتحرك هيئة الأمم، ولم يفرض مجلس الأمن عقوبة واحدة من العقوبات الاقتصادية والسياسية والعسكرية التى طالما هدد بها، بل ربما قرأ مندوبو الدول المجتمعون فى باريس خبر الاعتداء فلمعت عيونهم إعجابا وصفقت قلوبهم طربا وعلت شفاههم ابتسامة التقدير. أما ممثلو لجنة الهدنة فى فلسطين فقد وعدوا كما هى العادة بإجراء تحقيق، وصرح السنيور اسكاراتى بأنه لم تصله بعد أنباء تؤيد ما نشر عن اعتداءات اليهود على الخطوط المصرية!
أكثر من عشر غارات جوية خلال ثمان وأربعين ساعة، وأكثر من طائرتين أسقطتا فوق مواقعنا، وأكثر من خمسمائة قتيل يهودى، ورغم ذلك فإن السنيور اسكاراتى لم يتأكد بعد مما نشر عن حوادث خرق الهدنة!!
ومن العجز أن ننتظر من هيئة الأمم أو من مجلس الأمن أو من لجنة الهدنة أن يؤدبوا اليهود على اعتدائهم، فإن اليهود لم يقوموا بهذا الاعتداء إلا لأنهم يقدرون مجلس الأمن وهيئة الأمم ولجنة الهدنة تمام التقدير، ويقدرون الضمير العالمى تمام التقدير، ويقدرون التهديد بفرض العقوبات تمام التقدير.. يقدرون أن هذه الهيئات الدولية أعجز من أن تتحرك، وأن الضمير العالمى يباع ويُشرى فى سوق علنية لها أسعار محددة، وأن العقوبات العالمية أوهى من أن توضع موضع التنفيذ وإنما هى توضع لتخويف صغار العقول من الدول التى لا تزال تؤمن بالقوانين الدولية وبكلمات الشرف ووعود الأحرار.
من العجز أن ننتظر النجدة من هيئة الأمم، ومن العجز أن نكتفى بصد اعتداء اليهود عن خطوطنا والدفاع عن أنفسنا.. ومن العجز أن يفاجأ الرأى العام كل صباح بصفعة جديدة.. ممن؟ من اليهود!! ومن العجز أن تظل حالة الحرب معلنة أكثر من ستة شهور .. ضد من؟ ضد اليهود!! ومن العجز أن تطفئ القاهرة الخالدة أنوارها.. لماذا؟ لتحتمى من غارات اليهود!! ومن العجز أن ينكمش تاريخ مصر كله وينكمش تاريخ العرب وتقلب يد الزمن فتوحات الفراعنة وإمبراطورية العباسيين والأمويين وأمجاد محمد على وإبراهيم، لتقف حائرة مترددة أمام صفحة جديدة. سجلت فيها سبع دول عربية نبأ تسيير جيوشها لتأديب عصابات من قطاع الطريق- صفحة جديدة لا تستطيع يد الزمن أن تقلبها لأن الدول العربية السبع لم تكتب بعد نهايتها.
وقد تكون الحكومات العربية- كما يقول العقلاء- مضطرة بحكم وضعها الدولى، وبحكم المواثيق والعهود التى أخذتها على نفسها أن تخضع لقرار الهدنة، وأن تشد جنودها إلى قيود من حديد حتى لا تدفعهم حماستهم إلى الثأر لإخوان استشهدوا فى ساحات الغدر اليهودى، وحتى لا تضج الدماء الذكية فى عروقهم فيندفعون، مردة جبابرة، ليستردوا للسمعة العربية هيبتها ويعيدوا للسمعة اليهودية هولها وذلها. وقد تكون الحكومات العربية مضطرة إلى ذلك.
ولكن لماذا لا يقوم من بين عرب فلسطين من لا يتحمل مسئولية دولية ولا يتقيد بقرارات مجلس الأمن أو هيئة الأمم، ولا تستطيع هيئة ما أن تهددهم بفرض عقوبة اقتصادية أو سياسية أو عسكرية.. جمعية مسلحة تسليحاً منظماً تستطيع به أن تقضى على تجمعات اليهود العسكرية قبل أن يهجموا بها على خطوطنا، وتستطيع أن تخرب مطاراتهم وطائراتهم قبل أن يغيروا بها على مواقعنا، وتستطيع أن تنسف مستودعاتهم قبل أن يفرغوها فى صدورنا!
ولا أدرى هل سيجد هذا الاقتراح تأييداً أم لا وهل تستطيع مثل هذه الجمعية أن تعمل أم أن مجلس الأمن سيجد طريقا إليها ليوقف نشاطها؟!
ولكنى أعلم أن لليهود عصابات مسلحة غير مسئولة كعصابة شتيرن وليوم زفاى ليومى، وفى كل مرة خرقت الهدنة نسب اليهود مسئولية خرقها إلى هاتين العصابتين فلا يستطيع مجلس الأمن أن يعمل حيالها شيئاً، بل إن مجلس الأمن تنازل عن حقه فى الثأر لوسيطه برنادوت لمجرد أن اليهود نسبوا مسئولية الحادث إلى هاتين الجمعيتين.
إن تأليف جمعية عربية مسلحة غير مسئولة دولياً هو الحل الوحيد للرد على اعتداءات اليهود، ما دامت حكوماتنا لا تريد استئناف القتال إلا بإذن من مجلس الأمن، وما دام مجلس الأمن لم يأذن لها أبداً باستئناف القتال.
وإلى أن يتحقق هذا الاقتراح فلا أقل من أن نرد الرصاصة برصاصة مثلها، ما دمنا لا نستطيع أن نردها رصاصتين أو عشر رصاصات، احترامًا منا للهيئات الدولية الموقرة.